يصعب إنكار أننا نعيش الآن في عالم يسوده الجنون: حروب كبيرة وصغيرة، وإبادات جماعية، ومحاولات واسعة لإيقاف هذه الجرائم، بينما يصر السياسيون على صم آذانهم عن هذه النداءات. يرافق ذلك صعود لليمين المتطرف يؤدي إلى المزيد من الاحتقان العالمي، بما يحمله من أفكار عنصرية وكراهية للآخر، وظهور أنواع مختلفة من الفاشية والنازية.
لا يقف المخرج بول توماس أندرسون جانبًا يراقب ما يحدث، بل يضعه في قلب أحدث أفلامه "معركة تلو الأخرى" (One Battle After Another)، حيث يناقش ويسخر من سياسات بلاده التي تعد مسؤولة إلى حد كبير عن هذا الجنون العالمي.
- "تيلي نورود".. أول ممثلة افتراضية في هوليود تشعل أزمة جديدة حول الذكاء الاصطناعي
- "غزة صوت الحياة والموت".. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
"معركة تلو الأخرى" ملحمة أميركية تنتمي إلى مزيج فريد من الكوميديا السوداء والإثارة والحركة. الفيلم من إنتاج وكتابة وإخراج بول توماس أندرسون. استوحى أندرسون أحداثه من رواية "فينلاند" (Vineland) للكاتب توماس بينشون الصادرة عام 1990، ويؤدي بطولته كل من ليوناردو دي كابريو، شون بين، بينيسيو ديل تورو، ريجينا هول، تيانا تايلور، والممثلة الصاعدة تشايس إنفينيتي.
بول توماس أندرسون في مواجهة سياسات بلاده
يدخلنا فيلم "معركة تلو الأخرى" إلى عالم يمزج بين الحركة والدراما الاجتماعية. تدور أحداثه حول فصيل مقاومة ثوري يواجه النظام الأميركي اليميني المتطرف الذي يعادي الأقليات ويسحق الفقراء.
في قلب هذه المواجهة تقف بريفيديا (تيانا تايلور)، امرأة قوية بالفطرة والإرث، فهي من عائلة ثورية منذ أجيال، شاركت في الوقوف بوجه النظام الأميركي الغاشم معركة تلو الأخرى. وفي الوقت نفسه ترتبط بعلاقة عاطفية مع زميلها في الفصيل بات (ليوناردو دي كابريو)، وعلى الجانب الآخر يعادي الفصيل ضابط متطرف من الجيش الأميركي.
قد يبدو الفيلم للوهلة الأولى وكأنه عن مثلث المقاومة ضد نسخة نازية من أميركا، أو عن الوجه الآخر لبلد يتباهى بالديمقراطية بينما يمارس قسوة طبقية وعنصرية. لكن الحقيقة أنه يجمع كل ذلك معًا. وجمال العمل أنه يوازن بين هذه العناصر دون أن يطغى جانب على آخر، فيجعلها متسقة داخل حبكة متماسكة، بحيث لا يبدو مجرد خطاب سياسي أو محاضرة مطولة، بل قصة مشوقة مكتوبة بعمق.
يأتي في مقدمة قصة الفيلم الصراع بين الضابط الأميركي المتعصب والفصيل الثوري، الممثل في النهاية ببات وابنته ويللا (تشايس إنفينيتي). وفي الخلفية يظهر صراع آخر أكثر أهمية ومركزية، وهو المتعلق بالسياسات الأميركية المعادية للمهاجرين من ناحية، والعنصرية ضد الأعراق الأخرى من ناحية أخرى. فعلى الرغم من أن بات أبيض البشرة، فإن الأقليات العرقية المختلفة تمد له يد العون هو وابنته في مواجهة الضابط الأبيض اليميني الموتور.
لا يقدم الفيلم فقط تنوعا في الموضوعات، بل أيضًا تزاوجا بين الأنواع السينمائية: من الأكشن المنفذ بمهارة وبتوزيع ذكي يخدم تصاعد الأحداث، إلى الكوميديا السوداء التي تمنح الحوار ذكاءً وطرافة نادرة تجعل المتفرج يفكر ويضحك في آن واحد.
والنص المقتبس عن رواية نُشرت عام 1990 يثبت كيف يرى أندرسون مجتمعه بعين ناقدة منذ سنوات، وكيف أعاد صياغة تلك الرؤية لتصبح معاصرة ومرتبطة باللحظة الراهنة. كما يتمهل الفيلم في تقديم صراعه الرئيسي، فيمنح وقتًا للتعرف على الشخصيات وعلاقاتها الداخلية، حتى إذا اندلع الصراع بدا طبيعيًا ومفهومًا.
شروط الفيلم المثالي: الفكر والإتقان والمتعة
يتساءل كثيرون عن ماهية الفيلم المثالي، وهو سؤال شخصي للغاية، إذ لكل متفرج تفضيلاته الخاصة. لكن هناك 3 شروط إن اجتمعت ضمنت للفيلم إعجاب شريحة واسعة من المتفرجين. صحيح أنّ كثيرًا من الأفلام قد تفتقد أحد هذه الشروط ومع ذلك تظل ناجحة، غير أن اجتماعها معًا يحقق التجربة السينمائية الكاملة التي يستحقها كل مشاهد، ويكشف عن تفرد المخرج وحسن صنعته.
يتمثل الشروط الأول في أن يقدم الفيلم مادة فكرية وعاطفية تحرك المتفرج بعمق؛ أفكارًا يمكنه أن يتأملها ويتفاعل معها طوال وقت المشاهدة، وشخصيات تجعله يندمج معها شعوريًا. بينما يكمن الثاني في أن يكون العمل متقنًا على المستوى الفني، من صورة وصوت وتمثيل وسيناريو وتصاعد درامي وموسيقى، بحيث يظهر الجهد المبذول في كل تفصيلة، فيغدو التقدير جزءًا من متعة المشاهدة، ويظل الثالث أن يكون الفيلم ممتعًا بحق. فكثيرًا ما يتحقق الشرطان الأول والثاني، لكن عندما يُضاف إليهما عنصر التسلية الحقيقية، حين يشعر المشاهد بتشويق صافٍ ورغبة صادقة في معرفة ما سيحدث، عندها فقط يصل إلى الحالة الكاملة من النشوة السينمائية.
من هذا المنطلق يمكن القول إن فيلم "معركة تلو الأخرى" قد جمع هذه الشروط الثلاثة معًا، فشكل تجربة سينمائية غنية وممتعة إلى أبعد الحدود. فقد قدم الفيلم وجبة فكرية دسمة لمتفرجيه، جعلتهم يعيدون قراءة الواقع الآني من وجهة نظر المخرج والمؤلف بول توماس أندرسون.
وعلى الصعيد الفني، التمثيل أحد أبرز عناصر التميز، فليوناردو دي كابريو يقدم أحد أفضل أدواره منذ "ذئب وول ستريت" ( The Wolf of Wall Street) بأداء نابض بالحياة يمزج بين الواقعية والكوميديا. بينما يبرع شون بين في تجسيد الضابط الأميركي بصورة مقنعة ومتماسكة، وتترك تشايس إنفينيتي انطباعًا قويًا رغم أنها تجربتها الأولى. أما التصوير فكان عنصرًا لا يقل أهمية، الكاميرا المتحركة والمشاهد الطويلة، خصوصًا في الجزء الأخير، تحول الصورة إلى بطل إضافي يعزز الإثارة ويحبس أنفاس المتفرج حتى النهاية.
في الوقت نفسه مثل خليط الأكشن والكوميديا السوداء والإثارة والتشويق قالبًا مثاليًا للاحتفاظ بانتباه المتفرج من بداية الفيلم حتى نهايته بالقوة نفسها.
باختصار، نحن أمام عمل يستحق أن يُشاهد في قاعات السينما؛ فيلم متكامل يجمع المتعة الفنية والفكرية مع التسلية، ويثبت أنه أحد أبرز أفلام هذا العام بلا شك.