رغم أنه لم يتمكن من تصدر نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية المبكرة الفرنسية، إلا أن اقتراع 2024 وقبله في 2022 أنهى عقوداً من حالة النبذ السياسي لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف كقوة سياسية وازنة في البلاد.
وليس في فرنسا وحدها فقد شهد هذا الاتجاه السياسي تصاعداً في أوروبا والعديد من البلدان الغربية خلال السنوات الأخيرة، وهو يعتبر عاملاً مؤثراً في التشكلات السياسية والاجتماعية الحالية على المستوى العالمي.
واليمين المتطرف هو تيار سياسي يميل إلى الحفاظ على الهوية الوطنية التقليدية والقيم التقليدية، مع التركيز على القومية والتشدد في الحدود الوطنية.
ويتبنى اليمين المتطرف غالباً مواقف معادية للهجرة والمسلمين، ويتسم بميل شديد إلى المحافظة الدينية المسيحية ويروّج لأفكار الحماية الاقتصادية والثقافية.
هناك العديد من الأسئلة التي تجول في خواطر الكثيريين حول ماهية اليمين المتطرف والقيم والمبادئ التي يتبناها؟
وكيف يتفاعل اليمين المتطرف مع قضايا الهجرة والتعددية الثقافية؟
وماهي أبرز المحطات في تاريخ هذا التيار؟
ظهور مصطلح اليمين المُتطرّف تاريخياً
وفقاً لموقع history extra ظهرت مصطلحات “اليمين” و”اليسار” لأول مرة خلال الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.
عندما اندلعت الثورة الفرنسية عام 1789، غيرت مجرى السياسة العالمية. خلال تلك الفترة، اجتمع السياسيون لمناقشة حق النقض الذي كان من المقرر منحه للملك. وفي خضم النقاش، تجمع الموالون للملك لويس السادس عشر ولسلطته المطلقة إلى اليمين، بينما تجمع المؤيدون لسلطة محدودة للملك إلى اليسار.
كان أعضاء الجمعية الوطنية يجلسون في مقاعد، اليمين منها يدعم النظام الملكي والسلطة التقليدية، في حين أن اليسار كان يؤيد التغيير والإصلاحات.
وتختلف التنوعات داخل اليمين باختلاف السياقات الثقافية والسياسية، ومن أبرز التنوعات تشمل:
المحافظة الاجتماعية: تؤمن بالحفاظ على القيم التقليدية والاجتماعية، مثل الأسرة التقليدية، وتكافؤ الفرص، والقومية الثقافية.
الليبرالية الاجتماعية: تدعم الحريات الفردية، مثل الحقوق الإنجابية، وتؤمن بدور الحكومة في ضمان تلك الحريات.
القومية: تشدد على السيادة الوطنية والحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية، وقد تتبنى مواقف قومية في السياسة الخارجية.
العلمانية: تنادي بفصل الدين عن الدولة والتركيز على العلمانية في الحياة السياسية والاجتماعية.
اليمين الاقتصادي
يشير مصطلح “اليمين الاقتصادي” إلى مجموعة من الأيديولوجيات والمواقف السياسية التي تفضل الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية مع تقليل دور الحكومة في الشؤون الاقتصادية.
ومن السمات الأساسية لليمين الاقتصادي دعم الأسواق الحرة والتجارة بدون تدخل حكومي كبير، ناهيك عن تشجيع نقل ملكية وإدارة الخدمات والمشاريع من القطاع العام إلى القطاع الخاص، على أساس أن الشركات الخاصة تكون أكثر كفاءة وفعالية، بالإضافة إلى الدعوة إلى خفض الضرائب على الأفراد والشركات لتحفيز الاستثمار والإنتاجية، وتقليل القوانين واللوائح التي تعوق الأعمال التجارية والابتكار.
الأفكار التي يتبناها اليمين المتطرّف
ترتكز رسالة اليمين المتطرف اليوم على ثلاث أفكار أساسية:
التمجيد العرقي للأمة: يعتمد اليمين المتطرف على أسطورة النقاء العرقي لـ “شعبنا”. يظهر هذا المبدأ المركزي في رفض الهجرة من خارج الاتحاد الأوروبي، وكذلك رفض الاتحاد الأوروبي نفسه.
كراهية الأجانب المعادية للمهاجرين: يشتهر اليمين المتطرف بديماغوجيته ضد الهجرة، خاصة ضد المهاجرين المسلمين الذين يتم تصويرهم على أنهم غير قادرين على الاندماج ومعارضين لـ “الحضارة المسيحية والغربية”. يُلام المهاجرون على “استغلال” دولة الرفاهية الاجتماعية، وارتفاع معدلات الجريمة (بما في ذلك الإرهاب)، وحتى على إعادة إدخال الأمراض التي تم القضاء عليها في أوروبا.
الشعبوية “المناهضة للسياسة”: يقدم اليمين المتطرف لأتباعه هوية حصرية، ويحدد الجناة (المؤسسة) ويدعو إلى حلول بسيطة وسريعة (طرد الأجانب، وإسقاط “الطبقة السياسية”). يستغل اليمين المتطرف استياء الناس من الطبقة السياسية الفاسدة ويشجع على المشاركة السياسية المباشرة والثقة في قادة “كاريزماتيين”.
الهوية الحصرية وحلول اليمين المتطرف
يقدم اليمين المتطرف لأتباعه هوية حصرية، ويحدد الجناة في المؤسسة، ويدعو إلى حلول بسيطة وسريعة مثل طرد الأجانب وإسقاط “الطبقة السياسية”. يستغل اليمين المتطرف الاشمئزاز الشعبي من الطبقة السياسية الفاسدة والمتميزة.
تطور مصطلحي “اليسار” و”اليمين” في السياسة
استمرت الانقسامات السياسية خلال تسعينيات القرن الثامن عشر، حيث بدأت الصحف تشير إلى “اليسار” التقدمي و”اليمين” التقليدي في الجمعية الفرنسية.
لاحقاً، تلاشت هذه الفروق خلال حكم نابليون بونابرت، ولكنها عادت للظهور مع استعادة البوربون وبداية الملكية الدستورية في عام 1814، حيث تولى الممثلون الليبراليون والمحافظون مناصبهم على يسار ويمين المجلس التشريعي مرة أخرى.
بحلول منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت مصطلحات “اليسار” و”اليمين” جزءاً من اللغة العامية الفرنسية كاختصار للأيديولوجيات السياسية المتعارضة. حتى أن الأحزاب السياسية بدأت تُعرِّف نفسها بتعبيرات مثل “يسار الوسط”، “يمين الوسط”، “اليسار المتطرف”، و”اليمين المتطرف”.
نشأة وتطور أحزاب اليمين المتطرّف
بدأت أحزاب اليمين المتطرف في الظهور في القرن العشرين، كرد فعل على التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبيرة. تميزت هذه الأحزاب بعدة مراحل وتطورات:
1. الفترة ما بين الحربين العالميتين (1918-1939)
الفاشية والنازية: شهدت هذه الفترة ظهور حركات وأحزاب يمينية متطرفة مثل الحزب الفاشي بقيادة بينيتو موسوليني في إيطاليا والحزب النازي بقيادة أدولف هتلر في ألمانيا كما ذكرت لنا موسوعة britannica. اعتمدت هذه الحركات على الأيديولوجيات القومية المتطرفة، والتفوق العرقي، ومعارضة الديمقراطية الليبرالية.
2. ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945-1990)
إعادة التشكيل: بعد هزيمة الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية، أعادت بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة تشكيل نفسها بطرق جديدة، متجنبة الأيديولوجيات الفاشية الواضحة. ظهرت حركات جديدة في أوروبا وأمريكا الشمالية، تتبنى شعارات معادية للشيوعية والهجرة.
3. نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين (1990-2020)
الصعود السياسي: في هذه الفترة، شهدت أوروبا صعوداً ملحوظاً للأحزاب اليمينية المتطرفة، خاصة مع انهيار الاتحاد السوفيتي وزيادة الهجرة إلى أوروبا.
ظهرت أحزاب مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب الحرية في هولندا، التي بدأت في الحصول على دعم شعبي متزايد.
وركزت هذه الأحزاب على قضايا مثل معارضة الهجرة، والحفاظ على الهوية الوطنية، والنقد الشديد للاتحاد الأوروبي والعولمة.
اليمين المتطرف والمهاجرين
وفي تسعينيات القرن العشرين، أصبحت الهجرة محور اهتمام اليمين المتطرف، الذي استغل مخاوف متعددة، مثل التكامل والهوية، لتعزيز خطابه العنصري والمعادي للأجانب، وبفضل هذه الاستراتيجية، طور اليمين المتطرف خطابه ضد الهجرة.
بدأ اليمين المتطرف، بما فيها الجبهة الوطنية في فرنسا، في الترويج لخطاب تخويفي يحذّر من فقدان هوية أوروبا بسبب الهجرة الواسعة من البلدان المسلمة، خاصة من شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء.
شهد هذا الخطاب قبولاً متزايداً بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، حيث استخدمت أحزاب اليمين المتطرف هذه الأحداث كذريعة لتبرير قلقها العميق بشأن الهوية الأوروبية والسلم الاجتماعي في أوروبا.
واستغلت أحزاب اليمين المتطرف الأزمة المالية العالمية عام 2008 كفرصة نادرة لترويج معارضتها للعولمة، والليبرالية، ومجتمع الاستهلاك، وسياسات فتح الحدود، والتخلي عن الحمائية الاقتصادية.
كما قدّمت هذه الأحزاب فكرتها المؤسسة لمعاداة الأجانب والأشخاص ذوي الأصول غير الأوروبية بحجة أنهم، وفقاً لدعايتها، يتسببون في زيادة أعداد المهاجرين الذين يحتلون مناصب العمل، في حين يواجه ملايين الأوروبيين الأصليين البطالة ومخاطر التشرد.
4. الفترة الحديثة (2020-الآن)
زاد تأثير الأحزاب اليمينية المتطرفة في العديد من البلدان حول العالم، حيث أصبحت لها قوة سياسية ملحوظة في البرلمانات والحكومات، واعتمد نجاحها على استغلال المخاوف الاقتصادية والاجتماعية، مثل البطالة والهجرة والأمن.
كما استفادت هذه الأحزاب من وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجياتها وجذب دعم شعبي أوسع، ما ساعد في تعزيز حضورها وتأثيرها.
أسباب صعود اليمين المتطرف في أوروبا
ظهرت ظاهرة صعود اليمين المتطرف بوضوح لأول مرة خلال الأزمة المالية العالمية (2008-2009). ففرضت الحكومات الأوروبية تدابير تقشفية حادة أثرت سلباً على الثقة بالأحزاب السياسية والمؤسسات الرئيسية، ما فتح الباب أمام الأحزاب ذات الأيديولوجيا المتشددة. وتسارعت أزمة الهجرة بين عامي 2014 و2016، ما ساهم في تعزيز هذا الاتجاه ودفع الأحزاب اليمينية المتطرفة للانتشار في أنحاء متعددة من أوروبا.
ارتفع الدعم للأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 وفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2017.
وفي عام 2022، حصل اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الفرنسية على 41.45% من أصوات الناخبين، مقارنة بـ 34% في انتخابات عام 2017، كما تضاعف عدد مقاعد الحزب في البرلمان الفرنسي في انتخابات يونيو/حزيران 2022 إلى 89 مقعداً.
وتتعدد الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وراء صعود اليمين المتطرف في الدول الأوروبية، مما يجعل من الصعب تحديد السبب الأكثر أهمية. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى بعض العوامل الرئيسية التي أسهمت في هذا الصعود.
- الأزمة الاقتصادية وتأثيرها
بحسب المعهد الأوروبي للبحر الابيض المتوسط تُعَدُّ الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في عام 2008، وما تلاها من سياسات تقشفية صارمة فرضها الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية، من العوامل الرئيسية لزيادة الفجوة بين النخبة المتميزة وبقية السكان، ما وفر لليمين المتطرف فرصة لاستغلال استياء الفئات التي شعرت بأنها تخلَّفت عن الركب.
- التغيرات الاجتماعية
ساهمت التغيرات الاجتماعية، بما في ذلك تقلص الطبقة العاملة الصناعية التي كانت تدعم تقليدياً أحزاب اليسار، في هذا الصعود. هذه التغيرات أدت إلى تقويض القاعدة التقليدية للأحزاب اليسارية الكلاسيكية، ما جعل اليمين المتطرف بديلاً جذاباً للبعض.
- التغيرات الثقافية
انتشرت وجهات النظر الفردية والمثيرة للانقسام والسخرية من الواقع في المجتمع نتيجة أزمة الأيديولوجيات الكبرى، خصوصاً اليسار بتطلعاته التحويلية. هذه التغيرات الثقافية زادت من تقبل الأفكار المتطرفة بين الناس.
- أزمة الديمقراطية
ربما يكون التفسير الأفضل هو أزمة الديمقراطية الحالية، حيث تبدو الديمقراطية غير قادرة على الوفاء بوعودها النظرية. السياسات الديمقراطية التقليدية تكيفت مع مصالح النخبة المالية، ما جعل التناوب بين حكومات يمين الوسط ويسار الوسط لا يقدم بدائل حقيقية. هذا أدى إلى تجريد المؤسسات التمثيلية من أي معنى وتحويل الانتخابات إلى مجرد طقوس فارغة.
نتيجة لذلك، يستغل اليمين المتطرف الاشمئزاز الشعبي من الطبقة السياسية الفاسدة التي تحتكرها القلة. وفي مواجهة المؤسسات التمثيلية ككل، يدعو اليمين المتطرف إلى المشاركة السياسية المباشرة والثقة في قادة “كاريزماتيين” قادرين على التواصل مع الناس دون وسطاء في حين تُشطبُ “الطبقة السياسية” القديمة بشكل جماعي، بغض النظر عن الحزب الحاكم، بسبب محسوبيتها وعجزها عن حل المشاكل الاجتماعية.