الجمعة - 9 مايو / أيار 2025

غـــــــــــزة

يــــــــــوم

علوم

معجزة علمية.. كيف تشم الكلاب رائحة إصابة البشر بالسرطان؟

في أحد أيام الصيف الحارة نسبيا سنة ١٩٨٩، لاحظت امرأة بريطانية أن كلبها الهجين يشم باستمرار شامة على ساقها، حتى من خلال بنطالها، دفعها هوس الكلب الغريب ومحاولاته لعضّ الشامة إلى فحصها طبيا، واكتشف الأطباء أنها ورم ميلانيني خبيث في مراحله المبكرة.

كانت هذه واحدة من القصص الكثيرة المدهشة التي عدّت من الدلائل الأولى على أن حاسة الشم المذهلة لدى الكلاب يمكن أن تكشف عن أمراض بشرية خطيرة كامنة تحت الجلد، وما بدأ كتقارير عن حالات غريبة تطور منذ ذلك الحين إلى مجال بحثي واعد يحاول تدريب الكلاب على اكتشاف السرطان عن طريق الرائحة.

أثارت تلك القصص المبكرة عن الكلاب التي تشمّ السرطان قدرًا متساويًا من الشك والأمل في الأوساط الطبية، وفي عام ١٩٨٩ نشرت مجلة "ذا لانسيت" المرموقة بيانا موجزا عن الكلب البريطاني الذي يشمّ الجلد، ليفترض الباحثون أن "الأنسجة السرطانية قد تكون لها رائحة مُميزة" تُدركها الكلاب دون البشر.

معجزة علمية.. كيف تشم الكلاب رائحة إصابة البشر بالسرطان؟

أنوف مذهلة

تمتلك الكلاب نظامًا شميا أكثر حساسية بكثير من نظامنا، ولذلك يمكنها اكتشاف تركيزات منخفضة تصل إلى جزء واحد من التريليون، وهو ما يُشبه استشعار قطرة دم واحدة مُذابة في حوضي سباحة أولمبيين.

يعرف العلماء أن أنوف الكلاب مذهلة من الناحية التركيبية والوظيفية، إذ تمتلك ما يُقدر بـ220-300 مليون مستقبل للرائحة مقابل حوالي 5 ملايين في أنف الإنسان، أي أكثر بحوالي 50 ضعفًا.

كذلك فإن الجزء من الدماغ المسؤول عن معالجة الروائح (البصلة الشمية) أكبر بحوالي 40 ضعفًا لدى الكلاب (بالنسبة إلى حجم الدماغ) منه لدى البشر، ومن ثم يُخصص جزء كبير من دماغ الكلب لتفسير الروائح.

وتستطيع الكلاب فصل التنفس عن الشم، فعندما تستنشق يتجه جزء من الهواء مباشرة إلى الرئتين، ويتجه جزء آخر إلى منطقة الشم، وهذا يسمح بتحليل مستمر ودقيق للرائحة حتى أثناء التنفس الطبيعي.

كذلك تحتوي أنوف الكلاب على هياكل عظمية معقدة (محارة أنفية) تزيد من مساحة سطح مستقبلات الشم. تساعد هذه الهياكل على تدفئة الهواء وترطيبه، وتعريض جزيئات الرائحة للمستقبلات بكفاءة، وهذا يعني أن الكلاب تُحلل الروائح بدقة مع كل شمّة بينما يتنفس البشر في الغالب الهواء مباشرة.

معجزة علمية.. كيف تشم الكلاب رائحة إصابة البشر بالسرطان؟

رائحة المرض

كل خلية، سواء كانت عادية أو سرطانية، تُصدر مركبات عضوية متطايرة مجهرية كجزء من عملية أيضها. ويمكن للخلايا السرطانية، بسبب نموها غير الطبيعي، أن تُطلق أنماطًا فريدة من المركبات العضوية المتطايرة، مُصدرةً روائح تختلف عن روائح الخلايا الطبيعية، إذ تُغير السرطانات عملية الأيض الطبيعية، مُنتجة مواد كيميائية غير عادية أو كميات مختلفة من نواتج الأيض الطبيعية، تتسرب جزيئات الرائحة من هذه المركبات إلى سوائل الجسم مثل العرق والبول والنَفَس.

بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحالي، قرر عدد من الباحثين الرائدين اختبار أنف الكلاب في ظل ظروف مُراقبة، وفي عام 2004 نُشرت أول دراسة رسمية لإثبات المبدأ في دورية "بي إم جي"، إذ دربت كارولين ويليس وزملاؤها في المملكة المتحدة 6 كلاب على مدى 7 أشهر على التمييز بين رائحة بول مرضى سرطان المثانة والأشخاص الأصحاء.

وفي تجارب مزدوجة التعمية، أي تجارب لا يعرف عن آليتها القائمون بها من الفنيين وكذلك الخاضعون للاختبارات، كان على الكلاب اختيار عينة بول واحدة إيجابية للسرطان من بين 7 خيارات، وكانت النتائج مذهلة: اختارت الكلاب عينة البول الصحيحة بنسبة 41% من المرات، وهي نسبة أعلى من المتوقع بالمصادفة.

في الواقع، أثبت نجاح هذه التجارب دلالة إحصائية، مؤكدًا أن شيئًا ما في رائحة بول السرطان كان يُنبه الكلاب. كتب فريق ويليس، موضحًا السبب: "تُنتج الأورام مركبات عضوية متطايرة، وحتى عند وجودها بكميات ضئيلة يُمكن للكلاب اكتشافها بفضل حاسة الشم الاستثنائية التي تتمتع بها".

لكن اللافت للنظر في هذه التجارب كان مفاجأة جديدة، إذ ظل أحد الكلاب يُشير إلى أن عينة بول من مجموعة "التحكم"، أي من شخص غير معروف إصابته بالسرطان، فقرر العلماء فحصها، وهنا كانت المفاجأة، فبإعادة فحص ذلك الشخص الذي يُفترض أنه سليم، كشفت الفحوصات عن ورم في الكلى لم يُشخص بعد. بمعنى آخر، اكتشف الكلب سرطانًا لم يكتشفه الأطباء.

هذا ليس جديدا، فالبشر يُلاحظون أحيانًا التلميحات عن بعض الأمراض من الشم. على سبيل المثال، يمكن أن يُسبب فشل الكبد الحاد تغير رائحة أنفاس المريض إلى حلوة أو عفنة، ويمكن أن يُسبب مرض السكري غير المُعالج رائحة أسيتون فاكهية في النفس، ولكن هذه الروائح واضحة عند التركيزات العالية، أما الكلاب فلا تحتاج إلى مثل هذا التطرف، فهي قادرة على استشعار أضعف الروائح.

معجزة علمية.. كيف تشم الكلاب رائحة إصابة البشر بالسرطان؟

كيمياء خاصة جدا

حددت تحاليل مخبرية العديد من المواد الكيميائية المحتملة المرتبطة بالسرطان. فعلى سبيل المثال، قد تُطلق بعض أنواع سرطان الرئة مواد تسمى الألكانات أو مشتقات بنزين في الزفير، بينما قد تُصدر الأورام الميلانينية على الجلد مركبات أليفاتية معينة. ومع ذلك، لا تزال المكونات الدقيقة "لرائحة السرطان" قيد الدراسة.

يعلم الباحثون وجود شيء ما تُثبته الكلاب من خلال التمييز الدقيق لعينات السرطان، لكن تحديد الجزيئات الدقيقة كان صعبًا.

ويُعدّ اكتشاف هذه الجزيئات مجالًا بحثيا مهما، لأنه قد يُمكّن من تطوير "أنوف" ميكانيكية أو اختبارات كيميائية تؤدي الوظيفة نفسها. ففي الوقت الحالي، يبدو أن الكلاب تكتشف نمطًا من الروائح بدلًا من مادة كيميائية واحدة، حيث تُجري بفعالية شكلًا متطورًا من التحليل الكيميائي باستخدام أجهزة استشعار بيولوجية.

بعد دراسة سرطان المثانة عام 2004، أطلق باحثون من مختلف أنحاء العالم تجارب صغيرة لمعرفة ما إذا كانت الكلاب قادرة على شم أنواع أخرى من السرطان. ففي كاليفورنيا، قام فريق بقيادة مايكل ماكولوتش بتدريب كلاب منزلية عادية على شمّ عينات أنفاس مرضى سرطان الرئة والثدي، وفي عام 2006 نُشرت النتائج في دراسة بدورية "إنتجريتف كانسر ثيرابي".

أظهرت الدراسة دقة مذهلة في تحديد مرضى السرطان من خلال عينات التنفس، فقد بلغت حساسية الكلاب وخصوصيتها 99% في تحديد مرضى السرطان (مقارنة بالتشخيصات المؤكدة بالخزعة).

وجدت الدراسة نفسها أنه بالنسبة لسرطان الثدي، حققت الكلاب حساسية وخصوصية بنسبة 88% في تحديد الأورام من خلال شم عينات التنفس.

هذه النتائج المبكرة، على الرغم من صغر حجم العينات نسبيا، تصدرت عناوين الصحف وقدمت دليلًا على أن السرطانات حتى في مراحلها المبكرة لها رائحة يمكن اكتشافها. وبعد فترة وجيزة في عام 2011، طوّرت مجموعة من الباحثين اليابانيين هذه الفكرة بشكل أكبر في تجربة دقيقة لفحص سرطان القولون والمستقيم.

عمل الفريق مع مارين، وهي كلبة لابرادور سوداء مُدرّبة خصيصًا، للكشف عن سرطان الأمعاء باستخدام عينات من النفس والبراز. نُشرت دراستهم في مجلة "جَت"، حيث أجرت مارين ٧٤ اختبارًا مُعمّى، في كل مرة عُرضت عليها عينات من مجموعة أشخاص (واحد منهم فقط مصاب بالسرطان).

وكان أداء الكلبة رائعًا، فقد حدّدت سرطان الأمعاء بشكل صحيح في 33 من 36 اختبارًا للتنفس و37 من 38 اختبارًا للبراز، وهذا يُترجم إلى دقة تبلغ حوالي 95% لعينات التنفس و98% لعينات البراز، وهو ما يُضاهي دقة تنظير القولون في القدرة التشخيصية.

والأكثر إثارة للاهتمام هو أن الكلبة اكتشفت السرطان في مراحله المبكرة ولم تنخدع بعينات من أشخاص يعانون من حالات معوية غير سرطانية (مثل القرحة أو الالتهاب). أظهر هذا أن رائحة السرطان دقيقة بما يكفي لتمييز الأورام الخبيثة عن غيرها من الأمراض، وهي نقطة أساسية إذا ما أردنا للكلاب أن تكون مفيدة في المجال السريري. وبحلول ذلك الوقت، كانت الأدلة تتزايد على أن الكلاب التي تشم السرطان ليست مجرد مصادفة، بل ظاهرة قابلة للتكرار.

ففي دراسة تلو الأخرى، وفي بلدان مختلفة، كشفت الكلاب عن سرطانات الرئة والثدي والقولون والمثانة والمبيض بدقة تضاهي أو حتى تفوق اختبارات التشخيص القياسية. ففي عام 2015، على سبيل المثال، أفاد باحثون إيطاليون بأن اثنين من كلاب الراعي الألماني المدربة استطاعا تحديد سرطان البروستاتا من عينات البول بدقة تزيد على 90%، في تجربة شملت 900 رجل (360مصابًا بسرطان البروستاتا و540 سليمًا)، شمّت الكلاب كل عينة بول وأشارت بشكل صحيح إلى وجود "سرطان" أو "عدم وجود سرطان" في الغالبية العظمى من الحالات.

غالبًا ما يصعب تشخيص سرطان البروستاتا بشكل موثوق، فاختبار الدم المعتاد يتميز بمعدل نتائج إيجابية كاذبة مرتفع، أي نتائج اختبار تقول إن شيئا ما موجود (سرطان البروستاتا في هذه الحالة)، بينما هو في الحقيقة غير موجود، كانت فكرة أن أنف الكلب قد يتفوق في الدقة على الاختبارات المعملية الروتينية بمثابة جرس إنذار للباحثين.

معجزة علمية.. كيف تشم الكلاب رائحة إصابة البشر بالسرطان؟

تدريب الكلاب

ولكن هنا يبرز سؤال مهم: كيف تُدرّب كلبًا وفقًا لمعايير المخبر الطبي؟ اتضح أن الأمر عبارة عن مزيج من تقنيات تدريب الكلاب الكلاسيكية وبروتوكول علمي صارم. يستخدم المدربون عادة شكلا من أشكال التعزيز الإيجابي، مثل تدريب الكلاب على شم القنابل أو شم المخدرات.

إحدى الطرائق الشائعة هي نظام تدريب النقر، تُهيّأ الكلاب أولًا لفهم أن صوت النقر، متبوعًا بمكافأة، يعني أنها فعلت الشيء الصحيح.

ثم تأتي مرحلة تكييف الرائحة: يُعرَّض الكلب لعينات من مرضى سرطان مؤكدين، ربما بشم قطعة شاش تنفس عليها مريض سرطان، أو قارورة بول من مريض سرطان، ويُكافأ في كل مرة يُشير فيها (بالجلوس، أو اللمس، أو أي إشارة أخرى يُعلَّمها) إلى تلك العينة.

على مدار أشهر، يُصعِّب المدربون المهمة تدريجيا، فمثلا يقومون بإدخال عينات "ضابطة" من أشخاص غير مصابين بالسرطان، وخلطها مع أشخاص مصابين بالسرطان، والتأكد من أن الكلب يحصل على المكافآت فقط عندما يُنبِّه إلى العينة الصحيحة.

وبحلول نهاية التدريب، قد يواجه الكلب صفًّا من 7 عينات، على سبيل المثال، وعليه اختيار العينة الإيجابية الوحيدة من بين 6 عينات سلبية، وهو نظام يشبه التجارب في الدراسات البحثية.

لا ينجح كل الكلاب؛ فبعضها يفشل إذا فقد الاهتمام أو لم يحافظ على الدقة، لكن العديد من الكلاب تنخرط في اللعبة بحماسة.

وعمليا، جُرِّبت العديد من السلالات (من لابرادور ريتريفر والراعي الألماني إلى البودل والسبانيل والكلاب الهجينة) على فحص السرطان، والأهم هو قدرة الشم القوية وقابلية التدريب.

تشتهر كلاب لابرادور بتوازنها بين حاسة الشم الممتازة، ورغبتها الشديدة في الطعام (مفيدة للتدريب القائم على المكافأة)، وطبعها اللطيف.

كذلك تفوقت كلاب الراعي الألماني، المعروفة بأعمالها في الشرطة والجيش، في تجارب الكشف عن السرطان (مثل دراسة سرطان البروستاتا الإيطالية)، كما تم اختبار سلالات أصغر حجمًا ذات أنوف حادة، مثل البيجل.

وفي إحدى التجارب المبكرة في المملكة المتحدة، كانت الكلاب المشاركة في تلك الدراسة مزيجًا من سلالات مختلفة، وذلك يشير إلى أنها مهارة قابلة للتعلم وليست مقتصرة على سلالة واحدة، فالقاسم المشترك هو أن الكلب متحمس لألعاب الشم ويمكنه تعلم التركيز على الروائح الدقيقة.

في هذا السياق، تختلف مدة التدريب، فقد أفادت بعض الدراسات بتدريب الكلاب في مدة لا تتجاوز 6-8 أسابيع على إتقان أساسيات التدريب، بينما قد تستغرق البرامج الأكثر تقدمًا 6 أشهر أو أكثر قبل أن تعمل الكلاب بكامل طاقتها.

محدودية الطريقة

لكن على الرغم من كل تلك النجاحات، ونشر عشرات الدراسات، فإن العديد منها كان دراسات تجريبية صغيرة شملت ما بين كلب واحد وعدد قليل من الكلاب، وعشرات أو بضع مئات من المرضى على الأكثر.

ورغم أن النتائج غالبًا ما تكون باهرة، فإنها قد تتفاوت. فقد وجدت مراجعة للتجارب المنشورة أن الحساسيات تراوح بين 41% في بعض الحالات (وهي نسبة ليست أفضل بكثير من المصادفة) و99% تقريبًا في حالات أخرى.

يشير هذا التباين إلى أن الدراسات لم تكن جميعها تقيس النتيجة نفسها بالدقة نفسها، فقد تؤثر الاختلافات في أساليب التدريب، أو العينات المستخدمة، أو حتى سلالة الكلاب على النتائج.

وتُمثل إمكانية إعادة إنتاج النتائج مشكلة: فإذا حققت كلاب مختبر ما دقة تزيد على 90%، بينما حققت كلاب مختبر آخر 50% فقط، فماذا يعني ذلك؟ هل بعض الكلاب أفضل فحسب؟ أم إن العينات كانت مختلفة؟

بالنسبة للمشككين من العلماء، تُطرح هذه الأسئلة كثيرا، وتجعل من المبكر أن نتحدث عن أدوات كشف دقيقة جدا يمكن استخدامها حاليا في الكشف عن السرطان، لكن المؤكد إلى الآن هو أن الكلاب تتمكن من شمّ هذا المرض الذي يعد حتى اليوم الأشرس في تاريخنا.

فإذا استطعنا يوما تحديد الجزيئات التي تشمّها الكلاب، وكيفية شمها بدقة، يُمكننا محاولة بناء مُستشعرات لتلك الجزيئات. وحاليا يعمل العلماء على ابتكار أجهزة مدعمة بمصفوفات من المُستشعرات الكيميائية (التي تُدمج أحيانًا مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي) التي تُحاول اكتشاف أنماط المُركّبات العضوية المُتطايرة المُرتبطة بالمرض.

ففي بعض الحالات، استخدم العلماء الكلاب لتوجيههم في بناء هذه الأجهزة، عبر إعطاء الكلاب عينات لشمها، ثم إزالة مواد كيميائية معينة منها بشكل منهجي، فإذا تسببت إزالة المركب "س" في توقف الكلب عن تمييز العينة على أنها سرطان، فقد تم اكتشاف جزء أساسي من بصمة الرائحة.

وبتكرار هذه العملية، يمكن للباحثين التركيز على عدد قليل من المركبات العضوية المتطايرة الأكثر أهمية، ثم تصبح هذه المركبات أهدافًا للتحليل الكيميائي.