منذ صباح الاثنين الماضي، يشن الجيش الإسرائيلي هجومًا هو “الأعنف والأوسع والأكثر كثافة” على لبنان منذ بدء المواجهات مع “حزب الله” في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ومنذ “حرب تموز” عام 2006؛ مما أسفر عن 558 شهيدًا بينهم 50 طفلًا و94 امرأة، و1835 جريحًا و27 ألف نازح، وفق أحدث بيانات السلطات اللبنانية.
و تتصاعد الحملة العسكرية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، وذلك بعد سلسلة عمليات قاسية استهدفت قيادات وكوادر عسكرية في حزب الله، بدأت بتفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة الاتصال اللاسلكي، وتلا ذلك اغتيال عدد من قيادات الصف العسكري الأول.
يأتي هذا التصعيد ضمن مسعى إسرائيلي لردع حزب الله ومنعه من استمرار دعمه لغزة، بعد إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، عن بدء مرحلة جديدة من الحرب، مع تحرك مركز عمليات جيش الاحتلال باتجاه الشمال.
وفي تصريح صادر عن الجيش الإسرائيلي اليوم الأربعاء، أكد قائد القيادة الشمالية أن إسرائيل دخلت بالفعل مرحلة جديدة من حملتها العسكرية، مشددًا على ضرورة الاستعداد “للمناورة والتحرك”. ومع ذلك، لم يتطرق البيان إلى احتمال حدوث توغل بري في جنوب لبنان.
ومع تفاقم الاشتباكات وتزايد أعداد الضحايا في لبنان، وتضاؤل فرص الحلول الدبلوماسية، يترقب الجميع احتمالية اندلاع حرب شاملة، مما يثير العديد من التساؤلات حول شكل الحرب و قدرة حزب الله على مواجهة جيش الاحتلال في حال تصاعدت الأمور أكثر.
هذه التطورات التي تنذر بتحول الحرب إلى مواجهة برية دفعت المحللين العسكريين إلى تسليط الضوء على الجغرافيا المعقدة التي تتميز بها لبنان، بما في ذلك جبالها وسهولها ووديانها، إضافة إلى شبكة الأنفاق التي أنشأها حزب الله على مدار السنوات الماضية.
كل هذه العوامل تشير إلى أن أي عملية برية لن تكون مجرد نزهة بالنسبة لإسرائيل، بل قد تتحول إلى مستنقع أكثر تعقيدًا من التجربة التي واجهتها في غزة.
لو تقدمت إسرائيل برياً.. ما القدرات “الفعلية” لـ حزب الله؟
سلطت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية الضوء على السيناريو المحتمل في حال قررت قوات الاحتلال الإسرائيلي التقدم برياً في لبنان، مشيرة إلى أن التفوق الجوي والاستخباراتي الذي أظهرته إسرائيل في التطورات الأخيرة قد لا يكون العامل الحاسم إذا انتقلت المعركة إلى الأرض.
إذ تقول الصحيفة إن إسرائيل في حال التقدم برا ستقاتل “في أرض حزب الله حيث لن تكون الميزة التي تتمتع بها في التكنولوجيا والاستخبارات عاملا حاسما في المعركة… الحرب البرية بين الطرفين، إذا حدثت ستجعل القصة مختلفة”.
فخلال الأيام الماضية، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي سلسلة غارات جوية مكثفة استهدفت مواقع مختلفة في لبنان، مما أجبر حزب الله على اتخاذ موقف دفاعي، وأبرز تفوق إسرائيل في جمع المعلومات الاستخباراتية واستخدام التكنولوجيا العسكرية المتقدمة.
ومع ذلك، تثير هذه الغارات تساؤلات حول ما إذا كانت تمهد لاعتماد إسرائيل سياسة “الأرض المحروقة” كجزء من تحضيرات محتملة لاجتياح بري للبلدات الحدودية اللبنانية.
ووفقاً لعدة تقارير تقول إنها مطلعة على عمليات حزب الله أشارت إلى أن التنظيم كان يستعد للحرب خلال الأشهر الأخيرة.
تضمنت هذه الاستعدادات توسيع شبكة الأنفاق في جنوب لبنان، إعادة تمركز المقاتلين والأسلحة، بالإضافة إلى زيادة عمليات تهريب الأسلحة.
في السياق ذاته، قال مسؤولون أميركيون وإقليميون أن إيران كثفت دعمها لحزب الله عبر إرسال الأسلحة الصغيرة، القذائف الصاروخية، والصواريخ الموجهة وغير الموجهة بعيدة المدى.
وبحسب ضابط عسكري سابق في حزب الله، فإن “الجنوب أشبه بخلية نحل الآن”، في إشارة إلى حجم الاستعدادات العسكرية الأخيرة، مضيفًا: “كل ما يملكه الإيرانيون، نملكه نحن”، مما يعكس حجم الدعم الإيراني المتزايد للحزب.
وتشير التقارير إلى أن حزب الله، منذ حرب 2006، قد حصل على آلاف الصواريخ والطائرات بدون طيار الحديثة من إيران، واكتسب مقاتلوه خبرة قتالية واسعة بعد مشاركتهم في الحرب السورية.
لماذا سيعد الحزب الخصم الأصعب لإسرائيل؟
بحسب الخبير العسكري البريطاني جاستين كرامب، يُعتبر حزب الله اليوم “الخصم الأصعب لإسرائيل”.
كرامب، الذي خدم لسنوات طويلة في الجيش البريطاني وأسس شركة “سبيلين” للاستشارات العسكرية في لندن، يرى أن حزب الله يمتلك حاليًا ما كان لديه في عام 2006، ولكن بكميات أكبر.
ففي حرب تموز 2006، استخدم حزب الله صواريخ كاتيوشا وغراد بشكل مكثف، إلى جانب قذائف مضادة للدبابات، واستخدم أيضًا صواريخ موجهة مثل الصاروخ الروسي الصنع “كورنيت”.
ورغم التفوق الجوي الإسرائيلي الواضح، فإن حزب الله يتمتع بميزة استراتيجية كبيرة بفضل معرفته العميقة بتضاريس الأرض الوعرة، التي تصعّب المهمة على القوات الإسرائيلية وتلعب لصالح الحزب في أي مواجهة برية محتملة.
وفقاً، لتقرير لمجلة التايمز البريطانية وأراء الكثير من الخبراء العسكريين، بات حزب الله اليوم قادرا على إخفاء آلياته بشكل أفضل وكذلك مواقع إطلاق الصواريخ، وبالتالي لا يُمكن للغارات الجوية الإسرائيلية وحدها أن توقف الهجمات الصاروخية على إسرائيل.
وفقاً لتقرير، إسرائيل قد لا تتمكن من تحقيق الكثير عبر التفوق الجوي وحده، خاصة عند التعامل مع قاذفات الصواريخ الصغيرة التي يسهل نقلها وإخفاؤها، إضافة إلى الاعتقاد بأن جزءاً كبيراً من البنية التحتية لحزب الله يقع تحت الأرض، مما يعقد قدرة إسرائيل على استهدافها بفعالية من الجو.
الجغرافية اللبنانية
فالجغرافية الوعرة والمعقدة للبنان تزيد من هذه التحديات، حيث يرى العديد من المحللين العسكريين أن الغزو البري قد يكون أمراً لا مفر منه إذا استمرت التصعيد، ومع ذلك يعتقد هؤلاء المحللون أن هذا الخيار سيكون “حماقة”.
فالحرب البرية ستؤدي إلى مواجهة غير متكافئة، حيث يستخدم حزب الله استراتيجيات وتكتيكات غير تقليدية تمنحه ميزة عسكرية واضحة. فهذا النوع من الحروب يشمل استخدام الأنفاق، الكمين، والتضاريس لصالحه، مما يجعل من الصعب على قوات الاحتلال الإسرائيلية تحقيق أهدافها بسرعة أو بأقل الخسائر.
و يقول المحلل الإسرائيلي ألون مزراحي، أن “جنوب لبنان ـ هو المسرح الأكثر تصميماً وتسليحاً وتجهيزاً استراتيجياً لحرب العصابات في أي مكان من هذا العالم على الأرجح”.
بفضل تضاريسها المليئة بالتلال والوديان المتموجة، يشكل جنوب لبنان تحدياً خاصاً لأي جيش غازٍ، مما يجعل الأرض تصب في صالح المدافعين، خاصةً عندما يكون الجيش المدافع قد أمضى عقوداً في دراسة الأرض وتحصينها.
كما أوضح الخبير جاستن كرامب، أن بعض مواقع حزب الله تتمتع برؤية واضحة لما يسمى “منطقة قتل” على المنحدرات الأمامية، وهي نقاط استراتيجية تتيح لقوات الحزب استهداف أي قوة متقدمة بشكل فعال.
بالإضافة إلى ذلك، توجد مواقع أخرى للحزب مختبئة داخل الكهوف والأنفاق، تم تصميم العديد منها بحيث تسمح للمدافعين بشن هجمات على الأجنحة أو مؤخرة القوات المتقدمة، مما يزيد من صعوبة التقدم العسكري على الأرض.
قدر خبراء من مركز “ألما” للأبحاث والتعليم، الذي يركز على التحديات الأمنية على الحدود الشمالية لإسرائيل، أن الطول الإجمالي لشبكة أنفاق حزب الله في جنوب لبنان يمتد لعدة مئات من الأميال، مما يعزز قدرة الحزب على المناورة واختباء قواته ومعداته العسكرية بعيداً عن أعين المراقبة الجوية الإسرائيلية.
تكتيكات حرب العصابات
وأشار محللون عسكريون إلى أنه في حال توسع الصراع، قد يلجأ حزب الله إلى تكتيكات مشابهة لتلك التي تستخدمها روسيا في أوكرانيا، حيث يمكنه إطلاق وابل من الصواريخ وأسراب من الطائرات دون طيار بهدف إرباك وتعطيل الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
ومن خلال هذه الاستراتيجية، يمكن للحزب أن يستهدف القواعد العسكرية، الموانئ، أو حتى شبكة الكهرباء الإسرائيلية، مما يعقد جهود الاحتلال الدفاعية.
وقال أساف أوريون، العميد المتقاعد من الجيش الإسرائيلي: “لن تكون نزهة في الحديقة. إذا اندلعت حرب واسعة النطاق. فلن توجد طريقة لن نتعرض فيها للدماء”.
ورغم أنه من غير المرجح أن يتمكن حزب الله من توجيه هزيمة حاسمة لإسرائيل في حرب تقليدية، إلا أن إسرائيل تواجه تحدياً استراتيجياً رئيسياً. فالحزب لن يسعى إلى تحقيق نصر تقليدي في المعركة، بل سيتجه نحو توريط قوات الاحتلال الإسرائيلية في حرب استنزاف طويلة الأمد، على غرار ما تقوم به المقاومة الفلسطينية في غزة منذ عام تقريباً.
وفي هذا السياق، أوضح إلياس فرحات، الجنرال المتقاعد من الجيش اللبناني، قائلاً: “إن إسرائيل قادرة على إحداث الدمار في لبنان، وهذا ليس محل نقاش. هناك فجوة في التوازن العسكري. ولكن حزب الله أثبت مهارته في استخدام الصواريخ المضادة للدبابات في عام 2006. وهم مدربون تدريبًا جيدًا”.
يتمتع حزب الله بمجموعة من القدرات الشبيهة بالدولة وترسانة أسلحة كبيرة تمكنه من العمل كقوة حرب عصابات فعالة.
إذ تتكون قوات حزب الله في المقام الأول من وحدات مشاة خفيفة “تم تدريبها وبناؤها للتخفي والتنقل والاستقلالية”، وفقًا لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) الأميركي.
هذه القوات تعتمد على تكتيكات تمكنها من العمل بمرونة في ساحة المعركة، حيث يُسمح للمرؤوسين باتخاذ قرارات مستقلة بناءً على نوايا القائد، وهو نهج يشبه ما تسميه الولايات المتحدة “قيادة المهمة”.
في حرب 2006، تمكن حزب الله من تنفيذ تكتيك فعال يتمثل في إنشاء موقع لإطلاق الصواريخ، وإطلاق النار، ثم التشتت في أقل من 28 ثانية.
كان ذلك بفضل استخدام معدات مثبتة مسبقًا، وملاجئ تحت الأرض، والدراجات الجبلية، مما قلل من تعرضهم لردود الفعل الإسرائيلية.
ويشير الباحثون إلى أن الحزب قد حسّن هذا التكتيك منذ ذلك الحين، مما يعزز قدراته في المراوغة السريعة ويزيد من تعقيد أي هجوم إسرائيلي يستهدف مواقعه.