تكررت الصدامات بين أصحاب المطاعم الشعبية والمواطنين البسطاء الذين يلجؤون إليها لسد جوعهم يومياً، بعد أن تسببت زيادة سعر “أسطوانة البوتاجاز” والمعروفة لدى المصريين باسم “الأنبوبة” بنسبة 50% للأسطوانات المنزلية وبنسبة 33% للمحلات التجارية.
هذه الزيادة انعكست على أسعار الأكلات الشعبية التي تعد الملاذ الأخير بالنسبة لملايين المصريين للتخفيف من وطأة ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القدرة الشرائية، وسط تحذيرات من مشكلات صحية سيعاني منها هؤلاء جراء لجوء المطاعم إلى استخدام مكونات غذائية أقل جودة لتقديمها بأسعار مناسبة.
ارتفاعات موازية
وتتربع مصر على رأس قائمة أكثر 10 دول تضرراً من تضخم أسعار الغذاء حول العالم، بنسبة بلغت 36%، وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي، وتضغط أسعار الطعام والمشروبات على معدلات التضخم، بنسبة 71.7%، بسبب تغير أسعار الخضراوات بنسبة 101.5%، والسكر والأغذية السكرية 41.9% والحبوب والخبز بنسبة 44.6%، واللحوم والدواجن 97%، والألبان والجبن والبيض 67.1%، والأسماك 80.9%.
داخل أحد المطاعم الشعبية بشارع فيصل الشهير بمحافظة الجيزة، قرر عادل ممدوح وهو صاحب مطعم صغير للفول والفلافل رفع سعر “رغيف الفول” إلى 15 جنيهاً بدلاً من 12 جنيهاً، والأمر ذاته بالنسبة للفلافل “الطعمية” غير أن قراره يواجه امتعاضاً من جانب البسطاء الذين يتوافدون عليه، مشيراً إلى أنه لا يعرف كيف يمكن أن يحقق ربحاً يومياً يكفي أسرته وأسرة شريكه في المطعم دون أن يشكل ذلك ضغطاً على البسطاء الذين يلجؤون إليه.
وأوضح أنه منذ أن بدأ تطبيق الأسعار الجديدة يوم الجمعة الماضي والذي يشهد عادة إقبالاً كبيراً من المواطنين على الأكلات الشعبية تحديداً في وجبة الإفطار، وهو يواجه اعتراضات مستمرة وصلت إلى حد الاشتباك بالأيدي حينما تجمع حوله مجموعة من المواطنين الذين حاولوا إثناءه عن رفع الأسعار وهددوا بمقاطعته.
وقال المتحدث في تصريح لعربي بوست: “ليس أمامي حل سوى زيادة الأسعار لكنني في المقابل خسرت زبائني، وأدرك بأنهم سيأتون مجدداً إلي لأن جميع المطاعم المحيطة اتخذت قراراً برفع الأسعار”.
ويشير إلى أن “أسطوانة البوتاجاز” ليست وحدها السبب في زيادة أسعار الأكلات الشعبية فهناك ارتفاعات موازية في جميع أسعار الخضروات بما فيها الطماطم والخيار والبصل والبطاطس والباذنجان وهي مكونات رئيسية في هذه الأكلات.
وقال المتحدث كان لدي خيار إما التخلي عن بعض هذه المكونات في السندوتشات الرئيسية مثل الفول أو الفلافل أو الاستمرار في تقديمها، ولكن مع زيادة سعر السندوتش وفي كلا الحالتين سأواجه باعتراضات من جانب المواطنين الذين يقتنعون بتلك الزيادات لكن ليس لديهم قدرة شرائية تساعدهم على تحمل الزيادة الجديدة.
تراجع الحملات الأمنية
وقررت الحكومة المصرية زيادة سعر “أسطوانة البوتاجاز” المنزلي من 100 إلى 150 جنيهاً، بدءاً من الأربعاء الماضي، ورفع سعر “أسطوانة البوتاجاز” التجاري (تستخدمها المطاعم والمحال التجارية والمقاهي) من 150 إلى 250 جنيهاً (الدولار الأميركي يساوي 48.45 جنيهاً بالبنوك المصرية).
رغم التراجع الطفيف في معدلات التضخم في مصر من 35.2٪ إلى 34.6% خلال عام 2023، إلا أن أسعار الطعام والمشروبات لا تزال مرتفعة نتيجة ارتفاع أسعار مجموعة الحبوب والخبز بنسبة (40.6%)، وأسعار مجموعة اللحوم والدواجن (48.2%)، ومجموعة الأسماك والمأكولات البحرية (58.5%)، مجموعة الألبان والجبن والبيض (44.6%)، مجموعة الزيوت والدهون (23.9%)، وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وكشف مصدر حكومي مطلع بوزارة التموين المصرية، عن أن الحملات الأمنية والصحية على مطاعم الأكلات الشعبية تراجعت خلال الفترة الأخيرة، والأمر يعود لأسباب تتعلق بالحفاظ على قدرة هذه المطاعم على تقديم وجباتها اليومية للفقراء بأسعار زهيدة دون الالتزام بالمعايير الصحية التي تضمن عدم تلوثها.
وأضاف المتحدث مشيراً أنه في حال كان هناك حملات منضبطة فإن غالبية المطاعم الشعبية تستحق الغلق والتشميع نتيجة لعدم التزامها بالمواصفات الصحية، وأن الزيوت المستخدمة في عملية قلي الفلافل أضحت تستخدم أكثر من أربع أو خمس مرات وهي بأساسها تأتي إلى أصحاب المطاعم مستخدمة من قبل.
وأضاف أن وزارة التموين وصلت إلى تفاهمات مع أصحاب المخابز السياحية لضمان عدم رفع سعر الخبز السياحي أو الفينو، لعدم زيادة الأسعار في الوقت الحالي لأن ذلك سيترتب عليه حالة من الغضب الواسع بخاصة وأن زيادة أسعار أسطوانات الغاز جاءت مع بدء العام الدراسي، مشيراً إلى أن الوزارة عقدت اجتماعات مع شعبة المخابز والتي عرضت زيادة الأسعار بنسبة 50% ليصبح أقل سعر للرغيف جنيه ونصف الجنيه بدلاً من جنيه واحد في الوقت الحالي، لكن كان القرار بأن تمتص المخابز الزيادات الحالية في أسعار البوتاجاز والاستفادة من انخفاض طن الدقيق غير أن “الزيادة ستكون لازمة خلال الفترة المقبلة في حال ارتفاع أسعار الدقيق”.
وشدد المصدر على أن الوزارة تحاول امتصاص موجات التضخم التي سوف تأتي مع ارتفاع أسعار تكاليف النقل وتجهيز الوجبات وتشغيل المخابز وتسعى لتوفير أسعار دقيق بأسعار زهيدة ليستخدم في إنتاج الخبز السياحي، وستوفر الفول المستورد بأسعار منخفضة للتجار على أمل أن يكون ذلك مساعداً في عدم انفلات الأسعار.
استكمل المصدر: “في كلا الحالتين فإن الارتفاعات ستكون قادمة لا محالة مع توقع موجات تضخم مستمرة لا تتوقف وتتفاقم، حتى يصل الضرر إلى مستويات حرجة من خفض فاتورة الدعم”.
مأزق اجتماعي
وتقدر وزارة البترول نسبة الوفر الذي تحققه لموازنة الدولة برفع أسعار الأنابيب من 12 إلى 14 مليار جنيه في ميزانية الدولة خلال العام المالي الحالي 2024-2025، وبحسب رئيس مجلس الوزراء المصري، الدكتور مصطفى مدبولي، فإن تكلفة “أسطوانة البوتاجاز” على الدولة تصل إلى 340 جنيهاً، وتباع بنحو 100 جنيه؛ أي إنها كانت تُدعم بنحو 240 جنيهاً.
ويشير خبير اقتصادي في الجهاز الإداري بالدولة إلى أن ما توفره الحكومة من الدعم تدفع أضعافه فوائد ديون وكذلك فهي تتحمل كلفة تأثيرات التضخم، إذ ارتفعت نسبة مدفوعات الدين من 37% إلى 47% بنسبة زيادة وصلت إلى 700 مليار جنيه.
وأضاف المتحدث أن الحكومة تُلجأ إليها مضطرة لأنها تسير وفق خطة وضعها صندوق النقد الدولي الذي يمارس ضغوطاً قوية على الدولة المصرية للالتزام ببنود الإصلاح الاقتصادي، والحكومة لا تستجيب لكل الرغبات تحديداً ما يتعلق بتسريع برنامج الطروحات العامة، وبالتالي تستجيب للضغوط في ملفات أخرى في مقدمتها رفع الدعم.
وشدد على أن الحكومة ترتكن على أنه لا يوجد اعتراضات شعبية على قراراتها المرتبطة بالخدمات والسلع الأساسية التي يحصل عليها المواطنون لكنها ستجد نفسها أمام مأزق اجتماعي قد يترتب عليه مشكلات سياسية في المستقبل القريب، لأن عدد كبير من أفراد الطبقة الوسطى انحدر إلى ما دون مستوى خط الفقر متأثرين بموجات التضخم، وستكون أمام طبقة ضخمة للغاية من الفقراء لن تجد وسيلة للتعامل معهم وستكون إجراءاتها بشأن توسيع قاعدة الحماية الاجتماعية غير فعّالة على أرض الواقع وهو ما سيفاقم أزماتهم.
وتشير دراسة أعدتها الدكتورة هبة الليثي، أستاذة الإحصاء بجامعة القاهرة ومستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة، أن هناك أكثر من 20 مليون مواطن (ما يعادل 35% من السكان) اضطروا إلى مواجهة موجة الغلاء وحدهم، دون أي تدخل حكومي لإنقاذهم، فصارت أوضاعهم شديدة القسوة في 2023 مع ارتفاع معدلات زيادة أسعار الطعام والشراب بنسبة 61.5%، حسب البيانات الرسمية.
كلفة باهظة للتعامل مع مرضى السرطان
يوضح استشاري التغذية العلاجية بجامعة القاهرة، أن كثرة الاعتماد على الوجبات الشعبية تؤدي لمشكلات صحية عديدة ستكون لها تكلفتها الاقتصادية المضاعفة في المستقبل القريب، وتعاني المستشفيات والهيئات الطبية من مشكلات الضغط عليها جراء الإصابات بالأمراض المختلفة وقد يقضي ذلك على ما حدث من تطور إيجابي مثلاً في علاج فيروس سي، وسيكون هناك تكلفة باهظة للتعامل مع مرضى السرطان في ظل ارتفاع أسعار الأدوية بشكل كبير والضغط على الأقسام والمستشفيات التي تعالج أمراض الأورام.
ويضيف أن تناول وجبة الكشري بشكل مستمر لأكثر من مرتين أو ثلاث في الأسبوع سيقود إلى ارتفاع معدلات الإصابة بسرطان القولون، وأن تناول هذه الوجبة التي يتم إعدادها من العدس والمكرونة والثوم والصلصة والزيت والأرز، يؤدي إلى الإصابة بعسر الهضم والإمساك ولديه أضراره الكبيرة على الجهاز الهضمي بخاصة وأن غالبية محلات الكشري لا تولي اهتماماً بجودة المكونات التي تستخدمها وفي الأغلب يتم الاستعانة بالطماطم الفاسدة لعصرها وكذلك الوضع بالنسبة للبصل المقلي.
وأشار إلى أن الأشخاص الذين يتناولون الفول والفلافل بشكل مستمر أيضاً معرضون للإصابة بسرطان القولون لأن الزيوت المستخدمة في تحضيرها تكسبها نسبة عالية من الدهون المشبعة، التي تستغرق وقتًا طويلًا في عملية الهضم، مما يشكل عبئًا كبيرًا على الأمعاء، بما في ذلك القولون، كما أن هذه الأكلات تؤثر سلباً على وصول التروية الدموية الواصلة للدماغ، إذ أن تدفق الدم المحمل بالأكسجين إلى المعدة والأمعاء بكميات كبيرة للمساعدة في عملية الهضم يجعل الأشخاص يشعرون بالخمول والنعاس وتشتت الانتباه إلى جانب الأضرار المترتبة على إصابة متناوليها بشكلٍ بأمراض السمنة المفرطة.
وارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات أكبر مكون فردي لسلة التضخم في مصر، بنسبة 29% على أساس سنوي في أغسطس، والحبوب والخبز بنسبة 32.5%، والخضراوات بنسبة 44.2%، والكهرباء والغاز ومواد الوقود بنسبة 17.8%، وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
الحكومة تلعب بنيران الاستقرار
وقال أحد أعضاء مجلس أمناء الحوار الوطني في مصر، تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إن الحكومة لم تضع في اعتبارها أن نصف الأسر المصرية الموجودة في المناطق الشعبية الفقيرة والتي لم يصل إليها وصلات الغاز الطبيعي هي من تستخدم أسطوانة البوتاجاز، كما أنها قررت أن تقضي على ما تبقى من قدراتهم الشرائية، فالوجبات الشعبية في المطاعم والمحلات ملاذ أخير لهم وباتت هي أيضاً بعيدة المنال عن كثير من الفقراء.
وأضاف أن الحكومة في المقابل لم تقدم بدائل لتساعد ملايين الأسر على مواجهة صعوبات الحياة المعيشية، وفي الوقت ذاته ليس لديها تصور حول حدود رفع الدعم عن السلع والخدمات الرئيسية وبشكل مستمر تجد نفسها أمام أعباء جديدة للدعم نتيجة تراجع قيمة الجنيه ثم تضطر لتقلصها وينعكس ذلك على أسعارها التي ترتفع بشكل مباشر وهي دائرة مفرغة تمضي فيها منذ ثماني سنوات، وكذلك فإنها ليس لديها خطة واضحة بشأن التعامل مع الوضع الحالي الذي يعاني فيه المجتمع غضباً مكتوماً جراء المشكلات الاقتصادية المتزايدة، ويمكن القول بأنها تلعب بنيران الاستقرار.
ورفعت الحكومة من مخصصات دعم المواد البترولية في الموازنة العامة للدولة من 119 مليار جنيه (2.4 مليار دولار) خلال السنة المالية الماضية 2023/2024 إلى 154.5 مليار جنيه (3.2 مليار دولار) خلال السنة المالية الحالية 2024/2025 بنسبة زيادة 29.4%.
وكشف المصدر ذاته أن الحكومة لا تضع في اعتبارها ما يصدر عن الحوار الوطني من توصيات بشأن وقف الإنفاق على المشروعات القومية التي ليس لديها جدوى اقتصادية حالية على أن يتم توجيه هذه الأموال لبناء شبكة حماية اجتماعية واسعة تمكن أن تستوعب الزيادات الكبيرة في الأفراد الذين انتقلوا بالفعل إلى خانة الفقراء، وهي بذلك تقضي بيدها على أي تماسك مجتمعي مطلوب في هذه الفترة خاصة في المناطق النائية التي تنتشر فيها الجرائم والسرقات بشكل كبير.
وقامت حكومة مصطفى مدبولي في أغسطس الماضي برفع أسعار الكهرباء بنسب وصلت إلى 40 في المئة، بعد مرور أيام على زيادة سعر الوقود (البنزين والسولار)، صاحبها تطبيق زيادات جديدة على أسعار تذاكر مترو الأنفاق وقطارات السكك الحديد.