تجمع العاصمة البريطانية لندن بين إرث ملكي عريق وحداثة متسارعة تجعلان منها واحدة من أبرز الوجهات السياحية في العالم. ورغم أن معظم الزوار يتوافدون لالتقاط الصور أمام ساعة "بيغ بن" أو للتجول في باحة قصر باكنغهام، فإن سحر العاصمة البريطانية يكمن أيضا في تجارب فريدة قد لا تخطر على بال السائح التقليدي. واحدة من تلك التجارب المدهشة هي جولات ركوب الخيل في قلب هايد بارك، حيث يكتشف الزائر وجها آخر للندن بعيدا عن صخب الشوارع وزحام الميادين.
من على ظهر الحصان تلوح إشارات المرور الحمراء عند "بايزووتر روود"، بينما تنطلق الحافلات الحمراء ذات الطابقين وسيارات الأجرة السوداء مسرعة نحو "أكسفورد سيركس" أو قصر باكنغهام. وما إن تتبدل الإشارة حتى تهتز أعراف الخيل وتنطلق الحوافر بقعقعة مميزة لتقود الفارس مباشرة إلى رئة لندن الخضراء: هايد بارك الممتدة على 140 هكتارا.
هنا، حيث الهدوء يحل محل ضوضاء العاصمة، تُذكّر مدربة الركوب صوفي غراي الفرسان بضبط جلستهم: "اسحبوا أرجلكم للأسفل.. اعتدلوا في جلستكم"، قبل أن تمضي القافلة في مسارها الخاص. على طول الطريق، يتنفس الفارس تاريخا يمتد إلى عام 1637، حين فتح الملك تشارلز الأول هذه الأرض التي كانت ميدانا للصيد أمام العامة. 4 قرون شهدت أحداثا مفصلية: تأسيس "ركن الخطباء"، والمعرض العالمي 1851، ومنافسات الترياثلون في أولمبياد "لندن 2012″، بينما ظل حضور الخيل ثابتا لا يغيب.
المشهد يصبح أكثر شاعرية عند المرور فوق جسر "سيربنتاين" حيث البحيرة التي تحمل الاسم ذاته، تحفها الأشجار والمقاهي، وتنعكس فوق سطحها قوارب التجديف ببطء. أما الحصان "بوريس"، بهدوئه وألوانه البنية والبيضاء، فلا يزعجه حتى رنين أجراس الدراجات. تقول غراي "إن كل حصان هنا يخضع لاختبار لندن. نراقب بدقة كيف يتفاعل مع المواقف غير المتوقعة".

روتن رو.. طريق الملوك والأساطير
واحدة من المحطات اللافتة في الجولة هي مسار "روتن رو" الأسطوري الذي يُعتقد أن اسمه مشتق من الفرنسية (Route du Roi) أي "طريق الملك". شُيّد عام 1690 بأمر الملك وليام الثالث لربط قصر كنسينغتون بقصر سانت جيمس، وزُوّد بـ300 مصباح زيتي ليصبح أول طريق مضاء صناعيا في لندن.
هنا، احتشد الأرستقراطيون ثم البرجوازيون لاحقا، يتفرجون على العربات الفخمة والفرسان النبلاء وربما الملك نفسه. واليوم، ما زال الطريق المستقيم الأطول للخيول تصطف على جانبيه أشجار الدلب والكستناء، بينما يطل من بعيد "ذا شارد" و"لندن آي".
ثكنات الفرسان الملكية
جنوب الحديقة، تقف ثكنات "هايد بارك باراكس" شاهدة على العلاقة المتينة بين لندن وخيولها. المبنى الطويل يضم نحو 300 حصان من سلاح الفرسان الملكي. تقول غراي إن "التدريبات تبدأ مع شروق الشمس، سواء لخيول الحرس الملكي أو لعربات البلاط أو لشرطة الخيالة"، مشيرة إلى أن الحديقة تعيش لحظات "ساعة الذروة" حين يمتلئ مسارها البالغ طوله 8 كيلومترات بفرسان من كل نوع.

أزقة "الميوز" والعقارات الفاخرة
تكتمل التجربة عند العودة إلى إسطبلات "هايد بارك ستيبلز" في زقاق "باثورست ميوز"، حيث يختلط صوت صهيل الخيل مع مشهد بيوت منخفضة ذات واجهات كريمية، فتبدو كأنها قرية هادئة وسط مدينة يقطنها 9 ملايين نسمة. يروي وكيل العقارات مايك لوروت -ابن العائلة المتخصصة في عقارات "الميوز" منذ 3 أجيال- كيف تحولت هذه الأزقة الخلفية، التي شُيّدت بين القرنين 17 و19 لإيواء الخيول والعربات وخدم الطبقة الثرية، إلى عقارات فاخرة تضم شرفات وأقبية وأسماء مشاهير، وإن ظلت أسماؤهم طي الكتمان.
ويضيف "جدي عاش في باثورست ميوز 35 عاما، وأحب هدوء هذه الأزقة الخفية". اليوم، كثير من هذه الأزقة تحول إلى مواقع تصوير مفضلة، مثل "سانت لوك ميوز" حيث صُوّرت مشاهد من الفيلم الكلاسيكي "نوتينغ هيل" (Notting Hill). لكن "باثورست ميوز" يبقى الوحيد الذي لا تزال الخيول جزءا من يومياته، إذ يعود الفرسان بعد جولاتهم ليستقروا فوق الإسطبلات كما كان الحال منذ قرون.
هكذا، تمنح لندن زوارها فرصة فريدة: جولة على ظهر حصان تكشف وجها آخر للعاصمة، حيث يلتقي التاريخ بالحاضر، ويصبح الضجيج خلفك، والمدينة أمامك لوحة نابضة بالحياة تُرى من فوق السرج.