يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2023، تصدر كتائب القسام فيديو احتفال بذكرى ميلاد آرون شاؤول، ذلك الجندي الإسرائيلي الذي أعلنت القسام أسره في حرب 2014 ولم يفرج عنه بعد. جاءت الرسالة ضمن الحرب النفسية التي تستخدمها المقاومة كتكتيك ضمن تكتيكات عسكرية أخرى ضد جنود الاحتلال وأسرهم، أن معاناة 127 أسيراً على الأقل في غزة قد تستمر لأكثر من 9 سنوات دون جدوى.
ربما يكون أبرز الجيوش توظيفاً للحرب النفسية حديثاً هو جيش الاحتلال الإسرائيلي، الجيش الذي لا يقهر، والذي لا تُتوقع غضبته، جيش لا إنساني يبادرك بكل جديد مهما كان سيئاً، إذاً هو عصي على الهزيمة. يشير عبد الوهاب المسيري إلى أن أول الخطوات الحقيقية لهزيمة جيش الاحتلال هو تجريده من هذه الطبيعة فوق البشرية، وترسيخ صورة ذهنية عنه بأنه جيش يتكون من أناس يمكن هزيمتهم.
إذاً ما هي الحرب النفسية؟ وكيف وظفتها المقاومة لصالحها في حربي سيف القدس وطوفان الأقصى؟ والتي تقدمت فيها المقاومة بخطوات عملية على مستوى الداخل الإسرائيلي، وكذلك في تعزيز الجبهة الداخلية في غزة.
الأشجع هم أولئك الذين لديهم أوضح رؤية لما هو كائن أمامهم، المجد والخطر على حد سواء، ومع ذلك، يخرجون لمقابلته.
ثيوسيديدس..مؤرخ إغريقى صاحب كتاب تاريخ الحرب البيلوبونيسية
ما هي الحرب النفسية؟
يُعتقد أن الحرب النفسية تقتصر على البروباغندا الإعلامية، إلا أن هذا المفهوم الذي كان رائجاً في الحرب العالمية الثانية اضمحل بعد حرب فيتنام، فالتكتيك الذي استخدمه الفيتناميون في خضم القتال المباشر اعتُبر بعضه ضمن ممارسة الحرب النفسية ضد الجنود الأمريكيين، ومن قبلها ما استخدمته الميليشيات الصهيونية من ترويع للفلسطينيين في حرب 1948م، بعضها جاء كتكتيك عسكري لترسيخ هزيمة نفسية مسبقة لدى العدو.
يعتبر التعريف الأساسي للحرب النفسية أنها عمليات مخططة لنقل معلومات مختارة لجماهير العدو المستهدفة بناءً على مؤشرات تعكس طبيعة ذلك المجتمع، وذلك للتأثير على دوافعهم وعواطفهم وقدرتهم على التفكير الموضوعي، وتدفعهم تلك الأساليب لاتخاذ مواقف لصالح الطرف الذي استخدم السلاح النفسي، والتأثير على صناع القرار.
تهدف تكتيكات الحرب النفسية إنشاء مجموعات من الأعداء محايدة أو ودية، أو معادية العواطف أو المواقف لمن يريد من بني جلدتهم الأذية للعدو الذي استخدم تكتيك الحرب النفسية، بحيث يحقق المصالح له دون قتال، أو بقتال في الميدان بتكلفة بسيطة. تهدف مثل هذه الدعاية عموماً إلى إضعاف معنويات العدو، وكسر إرادته في القتال أو المقاومة، وفي بعض الأحيان جعله يميل إلى موقفه بشكل إيجابي. تُستخدم الدعاية أيضاً لتعزيز عزيمة الحلفاء أو مقاتلي المقاومة.
إذا كان خصمك ذا مزاج بارد، حاول إثارة غضبه. إذا كان مغروراً، فحاول تشجيع أنانيته. إذا كانت قوات العدو مستعدة جيداً بعد إعادة التنظيم، فحاول إرهاقها. فإن كانوا متحدين فحاول زرع الشقاق بينهم.
الجنرال تاو هانتشانغ. فن الحرب لصن تزو: التفسير الصيني الحديث
هناك مستويات متعددة للجمهور المستهدف، يعتبر أخطرها هو الجندي في أرض المعركة نفسه، يليه القادة الكبار السياسيون والعسكريون على السواء، ثم الحلفاء، وأخيراً المجتمع الشعبي وأسر الجنود، كل مستوى يحتاج إلى خطاب محدد ومختلف عن الآخر، فتهديد أسر الأسرى بحياة أبنائهم لا يصح مع القادة العسكريين والسياسيين، تركز الخطابات على القادة بزرع الشقاق بينهم أياً يكن الأسلوب المتبع في ذلك، سواء تحرك عسكري من نوع ما أم إعلامي فقط.
كيف تعمل الأداة النفسية؟
تعتبر البروباغاندا وتكرار الأكاذيب التي استخدمها غوبلز للترويج للنازية هي صورة قديمة متخلفة لأساليب الحرب النفسية، فقد ذهبت اليوم الحرب النفسية إلى صور كثيرة تعتمد بصورة أساسية على نقل المعلومات وتضخيمها وربما من دون صناعة أية أكاذيب، فقد أسست الولايات المتحدة في فيتنام مجموعة من 45 شخصاً تسمى وحدة النمور عام 1965م، بقيادة ميجور ديفيد هاكورث، والتي قامت بارتكاب فظائع بحق الفيتناميين، كقطع الرؤوس والأذن وتعليقها في سلسلة حول رقبة القاتل، كانت حكايا تلك الوحدة تحدث رعباً في أرجاء فيتنام، وهو الأمر نفسه الذي استخدمته الميليشيات الصهيونية الهاغاناه والأرغون وشتيرن.
تعمل الأداة النفسية على دراسة متأنية لطبيعة الجمهور المستهدف، فإن كان همه المادة والمال فإن التهديد باستهداف مصالحه المالية، أو استهدافها ولو كان أثرها صغيراً ثم تضخيمه إعلامياً، كفيل بردع العدو، وقد عُد أن أنبل انتصار هو إخضاع عدوك دون قتال، أو بتكلفة دموية صغيرة على الطرف المستهدف، وهو ما تصنعه المقاومة الفلسطينية باستخدامها أقل الأساليب دموية وأكثرها أخلاقية مقارنة بعدوهم الذي يتوسع في ذلك.
يمكن استخدام مثل هذه المنتجات السرية للإضرار بمصداقية مصدر أبيض (صادق) من خلال نشر أكاذيب واضحة تحت عنوان المصدر الموثوق به سابقاً. إن الدعاية السوداء، إذا كانت فعالة على الإطلاق، فإنها تفقد فعاليتها بسرعة ما لم يكن السكان عرضة بشكل خاص للشائعات والتلاعب وتشويه الحقائق. فمثلاً تستخدم إسرائيل العديد من الدعاية الكاذبة دون أدلة على المقاومة، وذلك لتحييد أثر الخطاب الصادق على جمهورها الداخلي الذي يتابع “أبو عبيدة” باهتمام كبير.
تعتمد الحرب النفسية بصورة أساسية على الدوافع والرغبات والمخاوف وسلوك الجمهور المستهدف، قياسها بشكل أساسي والنفاذ المعلوماتي الدائم لذلك، وهو ما ظهر جلياً من استخدام المقاومة الخطاب الداخلي في الإعلام الإسرائيلي حول مظاهرات أهالي الأسرى واستخدامهم لشعار “الآن” “أخشاف”، مطالبين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالإفراج عن أسراهم بصفقة تبادل.
تاريخ الحرب النفسية
الحروب النفسية ليست ظاهرة حديثة، فهي قديمة قدم الحرب، استخدمها كورش الكبير ضد بابل، وزركسيس ضد اليونانيين، وفيليب الثاني المقدوني ضد أثينا. كان الشعر في العالم العربي أحد وسائل الحرب النفسية بين القبائل قول عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ *** تخر له الجبابر ساجدينا
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق نخل بني النضير فانكسرت إرادتهم وهزموا، وكذلك أمر بقطع أعناب الطائف في حصارها، فخرج له عبد يا ليل بن عمرو يقول: إن شئت ظفرت بها وإن شئت تركتها لله والرحم، فقال النبي: “أتركها لله والرحم”. وفك الحصار بعدها، ولم يمر عام حتى جاء وفد ثقيف بقيادة عبد يا ليل معلناً إسلامه.
وقد استخدمها صلاح الدين في حربه مع ريتشارد الأول عندما سقط حصانه في المعركة، وبعد أيام طويلة من الجوع وانتشار الأمراض في معسكر الصليبيين، وانتشار الروائح النتنة، حيث أرسل له صلاح الدين جوادين عربيين أصيلين، وأرسل له مياهاً باردة وفواكه، وهو إمعان في كسر الإرادة النفسية عند النخبة وقادة المعارك، بأننا أكثر استقراراً وأمناً، وتصلنا المؤن القريبة من الشام، وهو ما أثر بالفعل على ريتشارد في اتخاذ قراره بالعودة إلى إنجلترا مع عوامل أخرى.
ربما كانت تلك التكتيكات التي تعتمد ممارسة الضغوط النفسية دون الكذب أو التدليس، باستخدام أدوات اقتصادية، أو إثارة المخاوف عند العدو، لكن هناك مستوى يعتمد على الكذب مثل استخدام جنكيز خان لهذا الأسلوب ببراعة، حيث سينشر ما من شأنه أن يخفف من إرادة عدوه في المقاومة من خلال نشر شائعات حول قوة وشراسة جيشه.
استخدم تكتيك الترويع كما فعلت الميليشيا الصهيونية في دير ياسين والطنطورية والمجازر التي ارتكبتها من اغتصاب وبقر للبطون وحكايا يشيب لها الولدان، وهو الأمر الذي استخدمه الأمريكيون في حروب المدن في فيتنام وأفغانستان والعراق. وهناك أساليب أخرى معروفة قديماً بإرسال العملاء الذين يوهنون في عزيمة المقاتلين والجيوش المعادية، كذلك استخدام المنشورات التي تطلب بالاستسلام، وكذلك النقل الدقيق لما يحدث في الميدان، بالإضافة إلى أساليب البروباغاندا.
إن الحرب النفسية لم تعد بمعزل عن مفاهيم التكتيكات التي تستخدم أثناء الحرب، بل إن تحديد موعد الحرب نفسه قد يأتي في إطار أساليب الحرب النفسية، مثل شن مصر وسوريا حرب 1973م يوم عيد الغفران في إسرائيل، فمع أن الجيش كان في راحة ولم يكن مستعداً لخوض الحرب، كانت المباغتة في يوم العيد لها أثر نفسي عميق.
استيعاب المفهوم الذي اقترحه صن تزو، الاستراتيجي العسكري الصيني، والذي مفاده أن القتال والانتصار في كل معاركك ليس التميز المطلق؛ التفوق الأسمى يتكون من كسر مقاومة العدو دون اللجوء إلى القتال. ولأن الجنود والمدنيين لم يتغيروا بشكل أساسي في الطبيعة أو النفس منذ أن كتب صن تزو هذه الملاحظات، فإنها تظل مناسبة اليوم.
وهو ما استخدمته المقاومة ببراعة في توثيق ونقل وقائع المعركة بجودة عالية، فمنها تعزز الجبهة الداخلية وتدفعها للالتفاف حول المقاومة، ومنها توهن في عزيمة الداخل الإسرائيلي الذي يشاهد جيشه يعاني في غزة، واستخدمت المقاومة ملف الأسرى في السياق ذاته للضغط على الجبهة الداخلية.