ربما يحمل محمود وادي، الشاب الفلسطيني الذي يلعب في مسابقة الدوري المصري لكرة القدم، ثِقلاً كبيراً في البحث عن أحوال أهله، وأصدقائه، وشعبه في الأخبار المتفرقة في صباح كل يوم أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة.
وادي، الشاب الفلسطيني الذي نشأ بقطاع غزة في فلسطين، كان يعيش مع أهل هذه الأرض ويعاني آلامهم نفسها التي رجت قلوب أصحاب الضمائر في العالم، لكن مؤخراً أصبح الأمر أبعد بكثير من مرحلة يُمكن الحديث عنها بهدوء؛ فما يحدث الآن هو إبادة لكل من يعيش في هذا القطاع وعلى أرض فلسطين.
خرج وادي من غزة في محاولات متكررة للخروج، نجحت إحداها وفشل في الكثير من قبلها، وربما كان يؤمن بأن مصيره لن يكون أفضل من مصير نفس من سبقوه لمحاولات الخروج بشكل واضح أمام البنادق والسلطة الفاشية الإسرائيلية التي تقف على الحدود مانعةً أي واحد منهم من تحقيق أي حلم، حتى وإن كان بعيداً عن أرضهم المحتلة،ة فلسطين.
في كل مرة خروج أو هروب، أياً كان مسماها، كان محمود وادي يتفقد بشكل واضحٍ مصير كل من حاول فعل فعلته نفسها، ومن أُشهرت في وجهه البنادق، ومن تم اعتقاله، ومن استُشهد لمحاولة الخروج من قطاع غزة ليس إلا، وكان وادي مُخيراً بين الأضرار كلها: إما البقاء في غزة والمكوث بلا عمل لفترة طويلة، أو مواصلة الأمل من أجل تحقيق الأحلام الكبيرة التي ربما يسحقها ضابط إسرائيلي مغرور على الحدود!
لا يمتلك المنتخب الفلسطيني ملاعب تجعله قادراً على تمثيل نفسه بحرية، فإما أن هذه الأرض عُرضة للسرقة من طرف الاحتلال، أو محاصرة ةيتم التضييق على من يتدربون فيها، ليبقى المنتخب الفلسطيني يُطارد الأحلام خارج أراضيه دون جماهيره.
لا تختلف مصائر أهل غزة تقريباً، ما يختلف ربما هو الطريقة التي ستُباد بها أحلامهم، بين لاعب الكرة، المحاسب، الطبيب، المهندس، على يد المحتل الذي يحاصرهم حتى في مقدار الطعام متحكماً في كميةة السعرات التي تصل إلى كل فلسطيني في غزة حقيقة لا مجازاً.
كان نادي أهلي الخليل هو طوق النجاة بالنسبة لمحمود وادي، فغادر غادر مدينته غزة التي لمَ غيرها من مدن بلاده المحتلة، وابتعد عن أهله لعل وعسى أن يُسعدهم ظهوره في كل مرة بقميص لن يلمسوه قط ما دام وادي خارج غزة، ويقف الاحتلال وجنوده حاجزاً بينهم!
ربما لا أعرف أنا ومحمود وادي نفسه كيف استطاع الخروج من هذه الدائرة المُفرغة، وكيف استطاع رغم الصعوبات والمستحيلات أن يصل إلى حلمه ويصبح لاعباًاً محترفاًاَ في نادٍ يتمتع بقاعدة جماهيرية ويمنحه راتباً يأكل ويشرب منه، ربما لا يتذكر متى تحديداًً انتهى صوت الرصاص في كل مكان حوله، أثناء التدريبات والمباريات نفسها، ومتى خرج من فلسطين الحبيبة قاصداً تجارب أخرى يرثي فيها فلسطين من خلالها.
محمود وادي، الذي قال إنه تدرب في أماكن كان يسمع فيها صوت رصاص البنادق، ويرى المضايقات الإسرائيلية بالأسلحة، ويعرف كيف هو الحصار مجازاً وحقيقة من خلال منع أي إنسان من الدخول أو الخروج من مكان، وربما اعتقاله إذا أمكن.
خرج محمود من فيلم الرعب المذكور، وظن أن النجاة بمطاردة الأحلام، وأصبح مهاجماًاً لأندية كبيرة في مصر آخرها نادي المقاولون العرب، لكن من الواضح أن وادي لم يفعل إلا ما كان يستوجب أن يفعله أي إنسان يبحث عن تحقيق أي شيء إيجابي وسط كل هذه الظروف الصعبة؛ إذ رحل عن فلسطين لكنها لم ترحل عنه، وترك في فلسطين ذكرياته كلها وغادرها بجسده ليس إلا، واتجه نحو الأردن واستقر في النهاية بمصر، وبينه وبين قطاع غزة، وأهله، حدود لن يتخطاها إلا بموافقة الاحتلال على ذلك، وإذا تخطاها فإن احتمالية عودته للخروج منها تبقى محل شك كذلك!
مر على الحرب في غزة أكثر من ثلاثةة أشهر ولم تنتهِِ، وكل يوم يرتقي فيها مئات الشهداء، بينما لا يجد وادي حتى أبسط الوسائل ليطمئن على عائلته ليعرف أحوالهم في ظل هذا الألم، حيث قال محمود وادي إن الاتصالات انقطعت بينه وبين أسرته، بينه وبين أمه، لا يعرف إلا أن غزة تعيش مشهداً أسوأ بكثير من كل المشاهد التي قد عاشها محمود وادي نفسه، وهو الذي تعايش مع ثلاث حروب في قطاع غزة، يعرف جيداً كيف هي الحياة مع الحصار وطائرات الاستطلاع والقصف والدمار، وكيف هو النزوح، وكيف يعيش الإنسان عُمره كله قلقاً من أشياء حدثت ومن أشياء لم تحدث بعد!
وجد محمود وادي في مصر وأنديتها الفرصة التي كان يستحقها في فلسطين، وربما يشعر الآن بأن الأرض التي كان يسكنها تُفقد منه شيئاً فشيئاً، فأسرته التي كان يتشارك معها الضحكات رغم الحصار والحروب، صار يحتاج لقرار دولي لوقف إطلاق النار ليستطيع أن يسأل أمه “كيف ياما؟”، ربما يشعر محمود اليوم بأنه هيفقد الأرض التي تربى فيها بكل ما فيها من كون ذاته، كل هذه الأمور يفقدها كأنه كان لا بد من أن يخسر في كافة الأحوال!
ذات يوم، قال محمود وادي إن في غزة، إذا استدعاك ريال مدريد للعب فيه، فإنه من المستحيل الخروج أبداً، وقد يكون هذا الحديث في حد ذاته كافياً لتأكيد مدى بشاعة العالم كله، على مدى بحث محمود وادي وغيره عن فرصة حقيقية تُشعرهم بإنسانيتهم، لكن تخيل أن البندقية والدبابة والضابط المغرور يمنعونهم عن هذه الأحلام، يسرقون أراضيهم، وينهبون مراكزهم مثلما يغتصبون أراضيهم، ويبنون لأنفسهم أحلاماً مسروقة كان أهل فلسطين أولى وأحق بها من التهجير أو النالنزوح داخل أراضيهم المحتلةة.