جريمة تنسيك سابقتها، هكذا هي سياسة الاحتلال الإسرائيلي في حربه غير المسبوقة على الفلسطينيين في قطاع غزة، فمع تعدد جرائم الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال في حربه التي دخلت شهرها الرابع، لم يسلم أحدٌ من تلك الجرائم ضد الإنسانية، فحتى الأموات الذين يسكنون مقابر غزة الذين نالوا في حياتهم قسطاً من همجية الاحتلال، كان لهم وهم في قبورهم نصيبٌ آخر من إرهاب الجيش الإسرائيلي.
فقد وثّق حديثاً ناشطون صوراً تظهر قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتجريف مقبرة البطش بحي الشجاعية، وإخراج الجثامين من قبورها والتنكيل بها، ولم تكن تلك الحالة هي الوحيدة على مدار أكثر من 90 يوماً من العدوان.
فكانت كل مقبرة في شمال قطاع غزة مسرحاً لعمليات جيش الاحتلال الذي لم يكتفِ بتمركز آلياته بمحيطها، بل أوغل في تجريف قبورها وسرقة جثامين الشهداء المدفونين داخلها؛ الأمر الذي أدى بالفلسطينيين إلى دفن ضحاياهم بعيداً عن المقابر التي يسيطر عليها ويتمركز بها جيش الاحتلال، حتى لو كلفهم الأمر حفر قبرٍ في مدارس الإيواء أو ساحات المستشفيات. فماذا يقول القانون الدولي عن جريمة انتهاك حرمة المقابر ونبش قبورها؟
الاحتلال ينتقم من مقابر غزة
تعد مقبرة بيت حانون، إحدى أقدم مقابر غزة، وتقع على بعد نحو كيلومترين فقط من حاجز إيرز، نقطة عبور المشاة الرئيسية إلى الأراضي المحتلة. وتبلغ مساحة المقبرة 720 متراً مربعاً تقريباً.
كانت مدينة بيت حانون في شمال شرقي قطاع غزة من أولى المدن التي استهدفتها الغارات الجوية الإسرائيلية، التي لم تستثنِ منشأة أو مبنى من المدينة.
ووثّق الصحفي حسام شبات، الدمار الواسع الذي خلّفه جيش الاحتلال خلال توغله وتمركزه في مقبرة بيت حانون، إذ نبش وجرّف مئات القبور في هذه المقبرة التاريخية، التي حوّلها الاحتلال إلى قاعدة عسكرية لمتابعة توغله في بيت حانون.
كما دمر الاحتلال أجزاء من المقبرة المعروفة باسم “المقبرة البرية”، والمسجلة لدى وزارة الأوقاف الفلسطينية في غزة باسم مقبرة الشيخ رضوان، والتي تقع بين حي النصر وحي الرمال بمدينة غزة، ويتجاوز عمرها 100 عام، وتعتبر أكبر مقبرة في القطاع، ودفنت فيها شخصيات فلسطينية اعتبارية، مثل الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ورئيس الحركة الراحل عبد العزيز الرنتيسي، والشهيد محمد الأسود، أحد أبرز المقاومين التابعين لـ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والملقب باسم “جيفارا غزة”.
كما دمر الاحتلال المقبرة الشرقية المطلة على شارع صلاح الدين، شرقي بلدة جباليا، والتي شاهد عشرات من النازحين وجود المركبات العسكرية فيها.
ولم تكن مقبرة الفالوجا في بيت لاهيا بأكثر حظاً من مقابر غزة السابقة، إذ وثّق في 14 ديسمبر/كانون الأول، الصحفي إسلام بدر، في مقطع فيديو، حجم الدمار الذي خلّفه جيش الاحتلال بعد انسحابه من مقبرة الفالوجا، ونبشه القبور وانتهاكه جثث الشهداء في المقبرة.
وفي 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، وثّق مقطع فيديو جريمة تدمير الاحتلال وتجريفه مقبرة الشيخ شعبان بمدينة غزة، وهي المقبرة التي كان يقيم بها عدد من الأسر الغزية ضمن مساكن عشوائية.
وتعرضت مقبرة “الشهداء” في بلدة بيت لاهيا للتدمير أيضاً، كما تعرضت للمصير نفسه مقبرة “علي بن مروان” في حي التفاح بالشجاعية شرقي مدينة غزة، ودمّرت أيضاً مقبرة “القديس برفيريوس” المسيحية، التي دُفن فيها عدد من الشخصيات المسيحية المهمة في تاريخ القطاع، كما جرى تدمير مبنى الكنيسة المجاور للمقبرة.
وفي 8 يناير/كانون الثاني 2024، انتشر مقطع فيديو يوثّق تدمير قوات الاحتلال مسجد الظلال الذي يقع بجانب مقبرة بني سهيلا، ويُظهر المقطع أيضاً عمليات تجريف كبيرة تعرضت لها المقبرة.
إدانة دولية لجرائم الاحتلال ضد مقابر غزة
أدان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لعديد من مقابر غزة وإلحاق دمار واسع بها ونبش وتخريب بعض القبور، ووثق المرصد الانتهاكات الإسرائيلية التي طالت غالبية مقابر غزة، وخلفت حفراً كبيرة بداخلها، مع وجود شبهات حول سرقة جثث، أو سرقة أعضاء من جثث يُعتقد أنها تعود لنشطاء فلسطينيين.
ورصد المرصد إنشاء أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية في محافظات قطاع غزة لدفن شهداء الهجمات الإسرائيلية؛ في ظل صعوبة الوصول إلى المقابر الرئيسية، والاستهداف الإسرائيلي المستمر للمقابر ومحيطها، مشيراً إلى لجوء عائلات إلى إنشاء مقابر جماعية عشوائية داخل الأحياء السكنية وأفنية المنازل والطرقات لدفن ذويهم.
ماذا يقول القانون الدولي عن جريمة انتهاك حرمة مقابر غزة ونبش قبورها؟
باستباحة جيش الاحتلال مقابر غزة، يكون قد ارتكب جريمة حرب تنص عليها القوانين الدولية، إذ ينص القانون الدولي الإنساني على أنه يجب مراعاة حرمة الموتى، والتحقق من أنهم دفنوا بالطريقة اللائقة، والعمل على تمييز مقابرهم؛ لتيسير الاستدلال عليها وحماية المقابر.
وتنص المادة 17 من اتفاقية جنيف الأولى، على أن على أطراف النزاع التحقق من أن الموتى قد دفنوا باحترام وطبقاً لشعائر دينهم إذا أمكن، وأن مقابرهم تُحترم، وتُجمع تبعاً لجنسياتهم إذا أمكن، وتصان بشكل ملائم، وتميز بكيفية تمكن من الاستدلال عليها دائماً.
وطلباً لهذه الغاية، وعند نشوب الأعمال العدائية، تنشئ أطراف النزاع إدارة رسمية لتسجيل المقابر، لتيسير الاستدلال عليها فيما بعد، والتحقق من هوية الجثث أياً كان موقع المقابر، ونقل الجثث إلى بلد المنشأ.
كما تنص المادة 34 من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقية جنيف على عدم انتهاك رفات الأشخاص الذين توفوا بسبب الاحتلال أو في أثناء الاعتقال الناجم عن الاحتلال أو الأعمال العدائية، وتأمين حماية هذه المدافن وصيانتها بصورة مستمرة.
في حين أن القاعدة 113 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر للقانون الدولي الإنساني العرفي تنص على أنه “يتخذ كل طرف في النزاع كل الإجراءات الممكنة لمنع سلب الموتى ويحظر تشويه جثث الموتى”.
بينما تنص القاعدة 115 من القواعد نفسها على أنه “تعامَل جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام وتحترم قبورهم وتصان بشكل ملائم”.
إنتهاك حرمة مقابر غزة جريمة يعاقب عليها حتى القانون الإسرائيلي
وفي الوقت الذي تنتهك فيه إسرائيل حرمة مقابر الفلسطينيين في غزة وتجرّف قبور شهدائهم، نجد القانون الإسرائيلي يحمي المقابر العسكرية الإسرائيلية، إذ تنص المادة 7 بقانون المقابر العسكرية على أنه لا يجوز لأي شخصٍ إخراج جثة من مقبرة عسكرية إلا بترخيص من جهة مختصة، ووفقاً لشروط الترخيص.
ويعاقب القانون نفسه بالسجن 3 سنوات، كل شخص يخرج جثة من مقبرة عسكرية بدون ترخيص أو بدون شروط الترخيص، كما يعاقب بالسجن 6 أشهرٍ من أزال شاهد قبر في المقبرة العسكرية بدون تصريح قانوني.