في أجواء مفعمة بالحماس والترقب، تتلألأ سماء كوت ديفوار، مستضيفةً فعاليات بطولة كأس أمم أفريقيا الجارية، حيث تتنافس الأمم الأفريقية على أرض الملاعب، مجسدةً ملحمة كروية تُسطّر فصولها أقدام اللاعبين، وتصدى لها عشاق الساحرة المستديرة. في ظل هذا الحدث الرياضي البارز ينبغي لنا التوقف عند اللحظات التأسيسية التي شهدت ميلاد بطولة كأس أمم أفريقيا، مستعرضين تاريخها ومسيرتها منذ الأيام الأولى.
تأسيس أمم أفريقيا ومبتدع الفكرة
تعود جذور بطولة الأمم الأفريقية إلى خمسينيات القرن الماضي، حينما بدأت المداولات بشأن تأسيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم، وانطلقت الفكرة من السودان، وقاد المشروع الطموح رئيس الاتحاد السوداني لكرة القدم آنذاك، عبد الحليم محمد.
خلال مؤتمر “فيفا” الثالث في مدينة لشبونة البرتغالية، عام 1957، أُعلن رسمياً عن تأسيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم. كانت الدول المؤسِّسة للاتحاد هي: مصر والسودان وإثيوبيا وجنوب أفريقيا. كان الهدف من هذه المبادرة هو توحيد الدول الأفريقية من خلال لغة كروية عالمية، ما يُعزز الأخوة والتعاون بين الشعوب الأفريقية.
كان أول رئيس للاتحاد الأفريقي لكرة القدم (كاف) هو المهندس المصري عبد العزيز عبد الله سالم، وكان على رأس أولويات عمله تنظيم بطولة للمنتخبات الأفريقية، وكان هذا شغله الشاغل وأولويته القصوى.
من هو عبد العزيز سالم؟
للمهندس عبد العزيز عبد الله سالم تاريخ عريق، فهو العَلَم البارز في ميادين العمل الزراعي العام، والشخصية الاجتماعية والرياضية التي أثرت في الساحة المصرية والأفريقية. هو أول مصري وعربي وأفريقي يحصد عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، وهو المكان الذي كان يعد حكراً على الأوروبيين والغربيين دون سواهم.
أمام هذا الرجل الفذ، الذي يمتلك همة عالية وعزيمة لا تلين، لم يكن ليستسلم دون تحقيق هدفه، فقد سار في أغوار الحياة محققاً انتصارات متتالية، رافعاً راية مصر وأفريقيا عالياً.
لمع اسم المهندس عبد العزيز عبد الله سالم كأحد أبرز خبراء الزراعة في مصر، وتُوجت مسيرته بالتقدير والإعجاب في الحقبة الملكية المصرية وحقبة ثورة 23 يوليو 1952. ولد سالم في أبو كبير بالشرقية عام 1895، ترعرع في أسرة من كبار أعيان الريف المصري، وأكمل تعليمه في مدينة الزقازيق قبل أن يبحر في رحلة علمية انتهت بتخرجه في كلية الزراعة في القاهرة.
في بداية الثلاثينيات بدأ رحلته العملية في وزارة الزراعة، ثم رحلة أخرى في التربية والتعليم حتى عام 1938. عاد بعدها إلى الزراعة، حيث عمل في الأملاك الأميرية، قبل أن يصبح مساعد وكيل الوزارة عام 1936. ومع بزوغ فجر الثورة المصرية، في 23 يوليو 1952، عاد اسمه للواجهة مرة أخرى، عندما تم تعيينه وزيراً للشؤون البلدية والقروية في حكومة علي ماهر باشا، قبل إنشاء وزارة الزراعة التي أُسست مع الثورة.
خلال واحدة من أخطر مراحل الحياة السياسية المصرية، اختاره الرئيس محمد نجيب وزيراً، ليقود مرحلة تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، وتولى منصب وزير الزراعة، من 12 سبتمبر 1952 حتى 7 ديسمبر 1952. وبعد مغادرته وزارة الزراعة اختاره الزملاء الزراعيون نقيباً لهم.
عشق المهندس عبد العزيز عبد الله سالم كرة القدم منذ شبابه، حيث مارس اللعبة في فريق كلية الزراعة بالجامعة، عشقه لكرة القدم المصرية دفعه للمساهمة من ماله الخاص في إثراء الفرق المصرية، ومنحها حضوراً متميزاً في مبارياتها الكروية أمام الفرق الأوروبية. وقد ترأس الاتحاد المصري لكرة القدم، خلفاً للفريق محمد حيدر باشا، وزير الحربية، في ثلاث دورات.
تاريخ كأس أمم أفريقيا
أما بخصوص كأس أمم أفريقيا فقد تحقق الحلم فعلاً في عام تأسيس الاتحاد نفسه، فتم تنظيم البطولة في الأراضي السودانية، وأعلن عن مشاركة الدول الأربع المنظمة قبل أن يتم استبعاد منتخب جنوب أفريقيا، “البافانا بافانا” بسبب سياسات الفصل العنصري.
كانت قرعة بطولة أمم أفريقيا قد أوقعت منتخب مصر في مواجهة السودان ومنتخب إثيوبيا في مواجهة جنوب أفريقيا، وبسبب استبعاد جنوب أفريقيا وصلت إثيوبيا للنهائي مباشرة. وفي مواجهة الأشقاء تمكَّن المنتخب المصري من الفوز على نظيره السوداني بهدفين لهدف، وفي المباراة النهائية اكتسحت مصر إثيوبيا برباعية نظيفة.
كان المهندس عبد العزيز سالم قد اشترى كأس البطولة من ماله الخاص من منطقة خان الخليلي في مصر، وكانت شبيهة بكأس رابطة الأبطال الإنجليزية.
بعد مرور عامين على النسخة الأولى فتحت مصر أبواب القاهرة العامرة لاستقبال الدورة الثانية من عرس الأمم الأفريقية. ضمت البطولة الأسماء الثلاثة نفسها التي شهدت البداية، لكن بنظام المجموعة الواحدة. استطاع الفراعنة وبقيادة الثنائي المتألق محمود الجوهري وميمي الشربيني التتويج باللقب.
في عام 1962، احتضنت أرض إثيوبيا النسخة الثالثة من هذه الملحمة الكروية، بمشاركة منتخبات أوغندا، وإثيوبيا، تونس ومصر. في الدور نصف النهائي، تمكن الإثيوبيون من تجاوز التونسيين، بينما أكمل المصريون مسيرتهم بالانتصار على أوغندا. لكن في المباراة النهائية، تحول الحلم المصري إلى ذكرى أليمة بعد الهزيمة برباعية أمام إثيوبيا.
في فصل جديد من فصول البطولة، شهد عام 1963 تطوراً ملحوظاً في نظام المنافسة، حيث انقسم المشهد إلى مجموعتين متحمستين من ثلاثة فرق. تواجَهَ بطلا المجموعتين في النهائي، بينما تبارى صاحبا المركز الثاني على الميدالية البرونزية. في هذا العام، استضافت غانا البطولة وفازت بها.
لكن بدءاً من عام 1990، شهدت البطولة توسعاً آخر في حجم المنافسة، لتضم 12 فريقاً مقسمة إلى ثلاث مجموعات. ومع استمرار الزمن، شهدت البطولة تطورات جديدة، لتصل في عام 1996 إلى مشاركة 16 فريقاً، مقسمة إلى أربع مجموعات، في نظام استمر حتى نسخة 2017. ومع حلول عام 2019، ارتقت البطولة درجة أخرى في سلم التطور، ليصل عدد المنتخبات المشاركة إلى 24 منتخباً، موزعة على 6 مجموعات، في إعلان جديد عن فصل مشوق من فصول التنافس الأفريقي.
أرقام البطولة القياسية
تتربع مصر على عرش “أمم أفريقيا”، بسبع كؤوس متفوقة على الكاميرون صاحبة الخمس كؤوس. وفي رحلة السعي نحو الذهب، تلتقي خطى “الفراعنة” مع “النجوم السوداء”، كلاهما وصل للمباراة النهائية 9 مرات مسجلين بذلك أعلى نسبة مشاركة بالنهائي. ومن بين الأمم الأفريقية، تبرز مصر كمنتخب وحيد قهر الزمان، متوجاً باللقب في ثلاث دورات متتالية، في أعوام 2006، و2008، و2010، في رحلة أسطورية خلدت جيلاً ذهبياً للكرة المصرية.
أما على المستوى الفردي، فسطَّر الكاميروني صامويل إيتو أسطورته، بالرقم القياسي لعدد الأهداف المسجلة بالبطولة بـ18 هدفاً. بينما يظهر المهاجم حسام حسن في قائمة الأساطير، بهدفه المسجل في شباك الكونغو الديمقراطية في نسخة 2006، ليصبح أكبر لاعب سناً يهز الشباك في تاريخ البطولة، بتسديدة خارقة أطلقها عن عمر ناهز الـ39 عاماً و5 أشهر.
ومن بين العمالقة، يبرز الحارس الدولي السابق، عصام الحضري، كأكبر لاعب سناً يخوض غمار أمم أفريقيا، حيث حمى عرين مصر في بطولة 2017 أمام الكاميرون، عن عمر يناهز 45 عاماً. وتزين صدره أيضاً بالرقم القياسي لأكثر لاعب تُوج بالبطولة، مشاركاً القمة مع النجم المعتزل أحمد حسن، كل بأربعة ألقاب متألقة.
في سجل الأمجاد أيضاً، يتفرد المصري محمود الجوهري والنيجيري ستيفان كيشي، كنجوم أضاءت السماء كلاعبين ومدربين، محتضنين لقب منتخبات بلادهما. وفي الساحة، يتألق الإيفواري لوران بوكو كمنفرد بتسجيل خمسة أهداف في مباراة واحدة، في نسخة 1970 ضد إثيوبيا.