انحدرت الثقة في نتنياهو في إسرائيل لمستوى غير مسبوق، وليس فقط بسبب إخفاقه في منع عملية طوفان الأقصى، ولكن لأنه يدير الحرب على غزة، ليس بهدف تحرير الأسرى، أو القضاء على حماس، كما يقول للإسرائيليين، بل بهدف إطالة أمد الحرب للبقاء في الحكم.
وبدت مظاهر عدم الثقة هذه واضحة في المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء الإسرائيلي، الخميس 18 يناير/كانون الثاني.
ومع أن أغلب الإسرائيليين كان يشكّ بالفعل في قدرة نتنياهو على قيادة الحرب في غزة على النحو المرجو، فإن هذه الشكوك زادت عليها الآن المخاوف من تفاقم التصعيد في الاشتباكات الجارية مع حزب الله، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
كان اللقاء باعثاً على الاستياء وخيبة الأمل لدى كثير من الإسرائيليين، فقد بدا لهم أن نتنياهو لا يزال منهمكاً في التحركات المؤثرة في حملته الانتخابية ومنشغلاً بها عن سائر الأمور.
وقد انتحت ملامح الارتباك والخوف التي ظهرت عليه بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وحلَّ مكانها الآن الغطرسة والتشدد، لا سيما في مواجهة الصحفيين الذين تجرأوا على سؤاله أسئلة أصعب قليلاً من أسئلة “قناة 14” الإخبارية التي يعدُّها قناة تابعة له.
فقد جادل نتنياهو الصحفيين وأصرَّ في عنادٍ على عدم الإقرار بأي خطأ ارتكبه، وأبى أن يتحمّل شيئاً من المسؤولية عن التقصير والإخفاقات التي يسَّرت السبيل لنجاح هجوم حماس ووقوع الحرب.
تجنب اتخاذ قرارات حاسمة في الحرب هو محور سياسة نتنياهو
وزاد من الطين بلة لدى الإسرائيليين، أنه قد ظهر لهم أن تجنُّب نتنياهو لاتخاذ قرار حاسم بشأن الحرب في غزة والشمال ليس أمراً طارئاً اقتضاه سير الأمور، بل هو الركن الأبرز لسياسته في الوقت الحالي.
وقد تحاشى نتنياهو الصدام المباشر مع الصحفيين، لكنه تعهَّد بحرب طويلة -لمدة عام على الأقل- في غزة، ورفض الحديث عن أي سبيل قريب لإنهاء الحرب.
كما تجنَّب الحديث الصريح عن محنة الأسرى الإسرائيليين هناك والأخطار المحدقة بحياتهم، وتجاهل الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بتزايد الاضطراب في الضفة الغربية.
عضو مجلس الحرب يعترف بأنهم يكذبون على شعبهم
بعد ساعتين من المؤتمر الصحفي لنتنياهو، بثَّت القناة 12 الإخبارية الإسرائيلية مقابلة أجرتها مع غادي آيزنكوت، الوزير والعضو في المجلس الخماسي لإدارة الحرب على غزة.
وجاءت تصريحات آيزنكوت في اللقاء مناقضة لتصريحات نتنياهو، واستدعت المأساة التي تعرضت لها عائلته -مقتل ابنه غال مئير آيزنكوت في غزة- اهتماماً كبيراً من الإسرائيليين بما قاله في المقابلة، وأثار الصدق والصراحة اللذين تحدث بهما عن محنة عائلته تعاطفاً جماً لديهم، حسب الصحيفة الإسرائيلية.
وأقرَّ آيزنكوت بأن القيادة الإسرائيلية لا تخبر مواطنيها بالحقيقة في شأن الحرب الجارية في غزة، وحين سُئل عن ثقته برئيس الوزراء، أبى القول إن لديه ثقة شخصية به، وقال إنه يثق بآليات صنع القرار في مجلس وزراء الحرب. ودعا آيزنكوت إلى المبادرة بخطوات سريعة لحلِّ أزمة المحتجزين الإسرائيليين في غزة، ولو بأثمان باهظة.
ورأى آيزنكوت، الذي كان رئيساً لأركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، أنه “من المستحيل استعادة الرهائن أحياء قريباً دون اتفاق”.
ورجح وجود أكثر من 100 أسير ما زالوا في غزة، معتبراً أن هناك حاجة لإبرام صفقة جديدة من أجل استعادتهم.
على الصعيد السياسي، اقترح إجراء انتخابات عامة مبكرة في غضون بضعة أشهر.
وكشفت مصادر سياسية في تل أبيب أن آيزنكوت، رفض اقتراحاً تبلور في كواليس الأزمة القيادية الإسرائيلية، يقضي بأن يتولى رئاسة الحكومة الحالية بدلاً من بنيامين نتنياهو مدة سنة، حتى يساعد في إخراج إسرائيل من أزمتها، لكنه رفض، من باب الأمانة لرئيس حزبه بيني غانتس. وقال إنه مقتنع بأن إسرائيل تحتاج إلى إجراء انتخابات مبكرة فوراً لتغيير الحكومة، ومنح الشعب حق اختيار قيادة جديدة.
وعندما لُفت نظر آيزنكوت إلى أن الانتخابات في خضم الحرب ستلحق ضرراً في الوحدة الوطنية التي تجلت في بداية الحرب، قال: “إن انعدام ثقة الجمهور الإسرائيلي بحكومته ليس أقل خطورة من الآثار التي يمكن أن تتركها الصراعات السياسية في المعركة الانتخابية”.
وقالت هذه المصادر إن عدداً من نواب حزب الليكود، كانوا شركاء في هذه المحاولة، ومعهم أيضاً عدد من الجنرالات المسؤولين السياسيين السابقين وعدد من الشخصيات الإسرائيلية التي تحافظ على تواصل مع الإدارة الأمريكية ومع يهود الولايات المتحدة.
وانضم عضوا حزب المعارضة آيزنكوت وبيني غانتس، وهو أيضاً رئيس أركان سابق بالجيش، إلى حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد فترة وجيزة من 7 أكتوبر/تشرين الثاني 2023.
وزير الدفاع كاد يشتبك بالأيدي داخل مكتب رئيس الوزراء ولوّح باستدعاء لواء غولاني
من جهة أخرى، فإن تدابير صنع القرار في حكومة الحرب تأثرت كذلك بالظروف العسكرية والسياسية المعقدة للحرب، لا سيما وأن نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، اللذين يديران مسار الحرب والمفاوضات بشأن المحتجزين، بالكاد يتحدث أحدهما إلى الآخر. بل إن غالانت أعرب علناً في الأسبوعين الماضيين عن تأييده للنظر في خطط إدارة الأمور بعد انتهاء الحرب، أما نتنياهو فيأبى مناقشة هذه الخطط حتى الآن خوفاً من إغضاب شركائه في الحكومة من اليمين المتطرف.
ولقد بات الخلاف بين نتنياهو وغالانت، يوصف بأنه قد يؤدي إلى خطر أمني ووجودي على إسرائيل”.
وأفاد موقع “واللا” الإسرائيلي بمحاولة وزير الدفاع يوآف غالانت لاقتحام مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حيث كانت الأمور أن تصل إلى التشابك بالأيدي.
ووفق المصدر، فقد سُمع وزير الدفاع يقول إنه في “المرة القادمة سيأتي ومعه قوة من لواء غولاني”.
كما هدد غالانت، بحسب المصدر، وزير الشؤون الاستراتيجية بإحضار قوة من لواء غولاني للسيطرة على الوضع في مجلس الحرب الإسرائيلي.
لا يعني ذلك أن وزير الدفاع غالانت وعضو مجلس الحرب آيزنكوت على وفاق في جميع الأمور، لكن علاقة غالانت وبيني غانتس، رئيس حزب الوحدة الوطنية وعضو مجلس الحرب والشريك المقرب لآيزنكوت، علاقة جيدة في الواقع. والجنرالات الثلاثة لديهم شكوك عميقة في مقاصد رئيس الوزراء، وهم غير راضين عن الطريقة التي يدير بها السياسة في إسرائيل.
وعلى الرغم من أن معارضي نتنياهو ينتظرون خطوات سياسية جريئة من خصومه في مجلس الحرب، فإن نتنياهو يبدو أنه لا يزال أشد عزماً من جميع منافسيه على إدارة الأمور بمنطق الصراع السياسي وأكثر التفاتاً منهم إلى حسابات السياسة والتمسك بالحكم.
واستأنف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، اتصالاته الهاتفية مع نتنياهو يوم الجمعة 19 يناير/كانون الثاني، وذلك بعد أن كان بايدن قد أوقف هذه الاتصالات منذ شهر غضباً من رفض نتنياهو الموافقة على ترتيبات للإفراج عن عائدات الضرائب المجمدة التي يفترض أن تحصل عليها السلطة الفلسطينية.
وسرَّب أعضاء في إدارة بايدن للصحافة الأمريكية أن بايدن ضغط على نتنياهو للموافقة على إقامة دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب، وأن نتنياهو لم يرفض الفكرة. إلا أن هذا الرأي المنسوب لنتنياهو جاء مخالفاً لنهجه المعروف والمزاعم التي يروجها عن نفسه في إسرائيل، فهو يصف نفسه هناك بأنه الشخص الوحيد الذي يستطيع التصدي لجميع المساعي الرامية إلى قيام مثل هذه الدولة.
وعلى أثر ذلك، أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بياناً، السبت 20 يناير/كانون الثاني، ادَّعى فيه أن نتنياهو لا يزال معارضاً لأي نوع من السيادة الفلسطينية في قطاع غزة.
إسرائيل تمنح الأمريكيين مهلة أسبوعين للتصرف مع حزب الله
في غضون ذلك، ذكرت صحيفة The Washington Post الأمريكية يوم الجمعة 19 يناير/كانون الثاني، أن إسرائيل منحت الأمريكيين بضعة أسابيع إضافية للمفاوضات غير المباشرة مع حزب الله، وذلك لحلِّ الأزمة على الحدود اللبنانية سلمياً، وإجبار حزب الله على الانسحاب من المنطقة.
وقالت مصادر أمريكية ولبنانية للصحيفة إن مبعوث بايدن إلى المنطقة، عاموس هوشستين، قدَّم للطرفين مقترحاً يتضمن تراجع حزب الله إلى مسافة بضعة كيلومترات شمالاً، وإعطاء وحدات الجيش اللبناني في جنوب البلاد دوراً أكثر تاثيراً في تأمين المنطقة.
قضية الأسرى أصبحت ملحة واتهامات للجيش بتعريض حياتهم للخطر
وتختلف قضية “حل الدولتين” عن قضية الأسرى المحتجزين في غزة، فقضية الأسرى مسألة ملحة يجب معالجتها في أقرب وقت لإنقاذ المحتجزين، لا سيما وقد أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي بالفعل عن مقتل كثيرين منهم. فقد أُعلن الأسبوع الماضي عن مقتل أسيرين آخرين، هما يوسي شرابي وإيتاي سفيرسكي. وأثارت ميراف، شقيقة إيتاي سفيرسكي، مزيداً من المخاوف لدى أهالي الأسرى، بقولِها إن العائلة علمت أنه قُتل بعد هجوم إسرائيلي في المنطقة التي كان محتجزاً فيها. أما جيش الاحتلال الإسرائيلي فقال إنه لم يكن يعلم أن سفيرسكي محتجز في مكان قريب. وقالت ميراف إن شقيقها ليس المحتجز الوحيد الذي تعرض لحادثة مماثلة.
ويرى معظم ذوي الأسرى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يخفق فقط في تحرير الأسرى، بل إن عملياته في غزة تعرِّض مزيداً منهم للخطر. ومن ثم، أقامت بعض العائلات مخيماً احتجاجياً أمام منزل نتنياهو في قيسارية مساء السبت 20 يناير/كانون الثاني. ومن المرجح أن تشهد إسرائيل مزيداً من الاحتجاجات خلال الأيام المقبلة في ظل تزايد المخاوف من تأثير استمرار الحرب على حياة الأسرى وسلامتهم.
وأصبحت صفقة الأسرى أكثر إلحاحاً في ضوء الأخبار عن تدهور أحوال المحتجزين الإسرائيليين في غزة. وتتزايد المصاعب الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل على حدودها الشمالية، لا سيما وهي عاجزة عن إعادة سكان المستوطنات الحدودية إلى منازلهم.
وتقول صحيفة Haaretz “يبدو أن إسرائيل تقترب من محطة اتخاذ القرار، حتى لو كان نتنياهو لا يريد ذلك حتى الآن ولا يزال مشغولاً بوعود النصر الشامل في غزة. وبناء على ذلك، فإن المسار السياسي لإسرائيل يتوقف على قرارات شريكي نتنياهو في حكومة الحرب، غانتس وآيزنكوت، هل يستمران في حكومة الحرب، أم ينسحبان منها ويتخذان مساراً آخر؟