أحدث هجوم “طوفان الأقصى” المباغت على إسرائيل، وهو الأوسع نطاقاً منذ عقود، صدمة نفسية لإسرائيل شديدة واضطراباً مستمراً، لدرجة أنَّ الشكوك في الغرب صارت تدور حول قدرات جيشها وأجهزة استخباراتها وحكومتها وقدرتها على السيطرة على ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون في وسطها.
قال يوفال شاني، أستاذ القانون الدولي في الجامعة العبرية في القدس، لصحيفة The New York Times الأمريكية: “لقد اهتز الإسرائيليون حتى النخاع. هناك غضب ضد حماس، لكن أيضاً ضد القيادة السياسية والعسكرية التي سمحت بحدوث ذلك. كنت تتوقع من دولة بهذه القوة أن تمنع مثل هذه الأمور، لكن برغم مرور 75 عاماً على إنشاء إسرائيل، فشلت الحكومة في الاضطلاع بمسؤوليتها الرئيسية؛ وهي حماية حياة مواطنيها”، حسب تعبيره.
إسرائيل المضطربة تُجبَر على العودة إلى معضلتها الأزلية: وجودها
تقول صحيفة “نيويورك تايمز” إن إسرائيل دخلت بعد هذا الهجوم فصلاً جديداً في معضلتها؛ مهما كانت نتيجة الحرب التي بدأت للتو. ففي النهائية، إسرائيل لم تتحرك إلى ما هو أبعد من الصراع الذي يطاردها منذ إنشاء الدولة الحديثة في عام 1948: وهي مطالبات الإسرائيليين والفلسطينيين، بنفس الشريط الضيق من الأرض الواقع بين البحر المتوسط ونهر الأردن.
ورغم محاولاتها للاندماج مع المنطقة والتطبيع مع الحكومات العربية وترويجها لـ”الشركات الناشئة المزدهرة” معها، لا يمكن لإسرائيل أن تخفي إلى الأبد عدم الاستقرار المترسخ الذي تعاني منه منذ إنشائها. والآن صارت الصدمة التي أصابت صورتها الذاتية عظيمة إلى الحد الذي قد يجعل إسرائيل تدخل في فترة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية العميقة، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
يرى شاني أن “الحكومة كانت مهووسة بخطة لا علاقة لها بالأمن القومي. وهناك صلة واضحة بين ذلك والأداء الإسرائيلي السيئ في الأحداث الأخيرة. ولا يبدو الأمر جيداً بالنسبة لنتنياهو”.
ومع ذلك، فإنَّ حرب أكتوبر 1973 -أو ما يسميها الإسرائيليون “يوم الغفران”- التي شكَّلت صدمة نفسية عميقة بنفس القدر لإسرائيل، لم تقلب السياسة الوطنية رأساً على عقب على الفور. لكن في غضون أربع سنوات، في عام 1977، هُزِمَت حكومة حزب العمل التي حكمت إسرائيل منذ تأسيسها، واستولت حكومة الليكود اليمينية على السلطة بانتصار ساحق، وبالكاد استطاع حزب العمل التعافي من آثارها خلال العقود الخمسة الماضية.
حكومة نتنياهو تعيش في حفرة عميقة
ومن المؤكد أنَّ حكومة نتنياهو اليمينية تبدو وكأنها تعيش في حفرة عميقة، وتواجه قرارات مؤلمة بشأن مدى شمول الانتقام الإسرائيلي في قطاع غزة، الذي تسيطر عليه حركة حماس، ويعاني منذ فترة طويلة من تراكم الفقر والاستياء، في ظل حصار إسرائيلي مستمر منذ 16 عاماً.
ولسنوات عديدة، تزايد الافتراض وهماً داخل إسرائيل بأنَّ القضية الفلسطينية فقدت أهميتها، وأنَّ سياسة المماطلة التكتيكية، مع تزايد حجم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، من شأنها ضمان عدم قيام أية دولة فلسطينية على الإطلاق.
وصارت كلمة “الوضع” تُستخدَم لوصف العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وهو مصطلح أجوف يعبر عن الوضع الراهن القابل للاشتعال. وبرز نتنياهو باعتباره بطل نهج “المماطلة أمام القرارات الصعبة” الذي ترك حل الدولتين عالقاً بين الحياة والموت. وطبّعت إسرائيل العلاقات مع العديد من الدول العربية الصغيرة. واختفت القضية الفلسطينية من الأجندة العالمية. وكان هناك حديث عن “شرق أوسط جديد”.
انفجار البركان الفلسطيني
بيد أنَّ كل هذا لم يتمكن من إخفاء المشكلة الكبيرة: الغضب الفلسطيني المتزايد إزاء الإذلال والتهميش الذي أدى بالفعل إلى تصاعد أعمال العنف في الضفة الغربية هذا العام.
وكان الوضع الراهن في حقيقته يحمل في طياته إراقة الدماء من خلال إضفاء الطابع المؤسسي على التقدم المُطرِد للسيطرة الإسرائيلية على أكثر من 2.6 مليون فلسطيني في الضفة الغربية المحتلة والقبضة الإسرائيلية الخانقة على قطاع غزة المحاصر، حيث يعيش ما يقدر بنحو 2.1 مليون فلسطيني آخر.
وقالت ديانا بوتو، وهي محامية فلسطينية تعيش في حيفا للصحيفة الأمريكية: “إذا كان هناك درس واحد نتعلمه من هذا، فهو أنَّ هذا لم يكُن فشلاً أمنياً؛ بل كان فشلاً من جانب العالم في معالجة الصراع. فكل يوم يشهد عنفاً. نستيقظ وننام على العنف، وممارسته ضد الفلسطينيين”.
وأضافت أنَّ فلسطينيي الداخل، الذين يشكلون أكثر من 20% من سكان إسرائيل، اندهشوا مما حدث وشعروا بالقلق بشأن المستقبل، لكن كان هناك أيضاً “شعور بالفخر لأنَّ الأشخاص الواقعين تحت أشد الحصار تمكنوا من اختراقه”. لكن يمتزج هذا الشعور بالخوف.
بينما قالت ريم يونس، سيدة أعمال فلسطينية تعمل في مجال التكنولوجيا الفائقة في مجال علم الأعصاب في الناصرة: “نحن ممزقون.. والآن لا نعرف ما يمكن توقعه ونشعر بالخوف”.
وفي رسالة مسجلة، وصف محمد ضيف، قائد الجناح العسكري لحركة حماس، هدف “العملية” بأنه ضمان “أن يفهم العدو أنَّ زمن جنونهم دون محاسبة قد انتهى”. ومن الواضح أنَّ القصد من هذا البيان هو إيقاظ الفلسطينيين من إذعانهم وعجزهم في غزة والضفة الغربية.
لكن التكلفة بالنسبة للجانبين يمكن أن تكون مرتفعة للغاية. فقد أظهرت العملية للعالم أنَّ كل إسرائيلي، على حد تعبير عالم السياسة الإسرائيلي شلومو أفنيري، “يشكل بالنسبة لحماس هدفاً مشروعاً للقتل”. وهذا لن يساعد القضية الفلسطينية الأوسع مع الحكومات الغربية.
نتنياهو أمام خيارات صعبة ومعقدة
وتوعد نتنياهو بـ”حرب طويلة وصعبة تدخل الآن مرحلة هجومية، التي ستستمر بلا قيود وبلا فترة راحة حتى تحقيق الأهداف”. وقد قُتل بالفعل أكثر من 400 فلسطيني.
ومن الواضح أنَّ إسرائيل تشعر بالإغراء الشديد لشن هجوم كاسح للتأكد من أنَّ حماس لن تكون قادرة على تنفيذ مثل هذه العملية مرة أخرى. ومن الأمثلة على ذلك الهجوم الضخم الذي وقع في جنوب لبنان عام 2006؛ ومنذ ذلك الحين ظلت الحدود هادئة نسبياً رغم أنَّ حزب الله أطلق قذائف مدفعية يوم الأحد، 8 أكتوبر/تشرين الأول، على ثلاثة مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها.
لكن في غزة، يُشكِّل وجود العشرات وربما المئات من الرهائن الإسرائيليين لدى حماس عاملاً معقداً للغاية. فمن شأن أية احتمالية لإعدام الرهائن رداً على هجوم إسرائيلي أن يتحول لقضية سياسية داخلية متفجرة. لذا يواجه نتنياهو واحداً من أكثر التحديات حساسية.
وقال شاني عن الهجوم الإسرائيلي الوشيك رداً على ما حدث -في إشارة إلى القيود القانونية المفروضة على استخدام القوة العسكرية: “من المؤكد أنَّ جدلاً سيُثار حول قضايا القانون الدولي فيما يتعلق بتناسب رد الفعل والأضرار الجانبية. لكن الاهتمام السياسي بضبط النفس محدود للغاية. وسيكون هذا اختباراً جدياً لإسرائيل”.
وكان الاختبار الأطول أمداً واضحاً لبعض الوقت. وقد لخص ذلك قبل سنوات داني ياتوم، مدير الموساد (وكالة الاستخبارات الإسرائيلية)، بين عامي 1996 و1998، حين قال إنَّ دولة إسرائيلية واحدة بين البحر والأردن، تشمل الضفة الغربية، “سوف تتدهور إلى دولة فصل عنصري وإما دولة غير يهودية. إذا واصلنا السيطرة على الأراضي، فأرى أنَّ ذلك يشكل خطراً وجودياً”.
ولم يرغب نتنياهو قط في الاستماع إلى مثل هذه التحذيرات أو الدخول في محادثات جادة من أجل تحقيق السلام على أساس الدولتين. ولا يمكن التلويح بعواقب هذه السياسة إلى الأبد في الحديث عن شرق أوسط جديد لامع.