يواصل جيش الاحتلال القصف المجنون وغير الإنساني لقطاع غزة، بغطاء أمريكي وغربي، والهدف هو نكبة جديدة للفلسطينيين تكون أسوأ من نكبة 1948، فهل تستطيع إسرائيل تنفيذ هذا السيناريو؟ أم للمقاومة رأي آخر؟
وتحت عنوان “فرض الحصار على غزة ليس حلاً”، نشرت صحيفة فورين بوليسي الأمريكية تحليلاً يرصد السيناريوهات المحتملة لما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من قصف غير مسبوق لقطاع غزة منذ عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته “حماس” على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب“، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
غزة المحاصرة تتعرض لقصف غير مسبوق
في مطلع الأسبوع أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “حالة الحرب” بعد أن نفّذ مقاتلون من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ومن فصائل مقاومة أخرى عملية طوفان الأقصى، التي نتج عنها مقتل ما لا يقل عن 1300 إسرائيلي، واستشهد، حتى مساء الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول، أكثر من 1500 فلسطيني وأصيب آلاف آخرون، ومن المرجح أن ترتفع هذه الأرقام بشكل كبير، خاصة على الجانب الفلسطيني، مع استمرار الصراع.
إن القصف الإسرائيلي الحالي على غزة، وإن كان غير مسبوق في عنفه وسعاره، هو الأحدث في سلسلة طويلة من مثل هذه الجرائم على مدى العقدين الماضيين. ووقعت هجمات كبرى في الأعوام 2006 و2008 و2010 و2012 و2014 و2018 و2021، كل عامين تقريباً. حيث اتبعت إسرائيل استراتيجية “قص العشب”، وهي عبارة تستخدمها لوصف القصف الدوري للفلسطينيين في المنطقة لإبعاد المقاومة المسلحة. ولكن في كل مرة تقول إسرائيل إنها ستقوم بإضعاف وتدمير قدرات المقاومين في غزة، سرعان ما يثبت هؤلاء أنهم قادرون على توسيع وزيادة قدراتهم.
وكان استعراض هذه القدرات هذا الأسبوع واسع النطاق، لدرجة أنه تسبَّب في ذهولٍ لخبراء الاستخبارات. ربما تكون غزة هي البقعة الأكثر تعرضاً للمراقبة العسكرية على وجه الأرض. ظلت المنطقة تحت الحصار لمدة عقد ونصف من الزمان، مع حصار بحري إسرائيلي وطائرات مسيَّرة تحلق بشكل روتيني في سماء المنطقة. تقوم أجهزة اعتراض الصواريخ الإسرائيلية ذات التقنية العالية والجدران والأسوار وأجهزة كشف الأنفاق تحت الأرض بدوريات مستمرة في القطاع. لكن حماس لا تزال قادرة على شن هجومها الجوي والبري والبحري الضخم ومتعدد المراحل.
سعت دولة الاحتلال مراراً إلى معرفة ما يجب فعله بقطاع غزة، حتى قبل الانسحاب البري الإسرائيلي من القطاع في عام 2005. من قبل، قال إسحق رابين، الذي كان رئيساً لوزراء إسرائيل في أوائل التسعينيات: “أتمنى لو أستطيع أن أتمكّن من ذلك. أستيقظ ذات يوم لأجد أن غزة قد غرقت في البحر”. لكن المليوني فلسطيني الذين يطالبون بالتحرر من القفص الذي تحاصرهم به إسرائيل، يواصلون حرمان القادة والمسؤولين الإسرائيليين من النوم طوال الليل.
وتشير أحداث الأيام الأخيرة بوضوح إلى فشل الجهود العسكرية الإسرائيلية. ولا يرجع ذلك إلى الافتقار إلى المحاولة؛ فقد جلبت الحملات العسكرية الإسرائيلية في غزة الموت والدمار على سكانها المحاصرين لسنوات. وفي كل مرة يُقتل مقاتلون فلسطينيون، كما يُقتل آلاف آخرون من المدنيين الفلسطينيين. من المفترض أن العديد من المقاتلين الفلسطينيين الذين شاركوا في هجوم طوفان الأقصى لم يكونوا قد وُلِدوا عندما بدأت إسرائيل حملتها لاغتيال القادة الفلسطينيين في غزة لأول مرة في عام 1993.
إسرائيل تكرر المحاولات الفاشلة نفسها
ولكن رغم أن النهج العسكري الذي اتبعته إسرائيل في التعامل مع غزة كان بمثابة فشل ذريع، فالذي يحدث الآن ليس إلا تكرار للنهج الفاشل نفسه، إذ حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالفعل من أنه “سيحول جميع مخابئ حماس إلى ركام”. وبعد أن سقط عدد هائل من القتلى الإسرائيليين في هجوم المقاومة، تحظى الحملة الانتقامية المسعورة للاحتلال بفسحة غير مسبوقة من قبل حلفائها الغربيين، وبخاصة الولايات المتحدة. وبالنسبة للفلسطينيين، فإن هذا لا يعني إلا أن يكونوا ضحايا لمجازر اعتادوها لكنها غير مسبوقة هذه المرة، حسبما تقول الأمم المتحدة.
ورغم أن إسرائيل احتلت الأراضي الفلسطينية لأكثر من نصف قرن، بلغ العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين مستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة. وخلصت جماعات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية والفلسطينية إلى أن إسرائيل ترتكب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، وقالت الأمم المتحدة إن عام 2022 كان العام الأكثر دموية على الإطلاق بالنسبة للفلسطينيين الذين قُتلوا في الضفة الغربية على يد القوات الإسرائيلية. وتسير عمليات القتل في عام 2023 لتتجاوز هذه الأرقام؛ فقد قُتل أكثر من 200 فلسطيني من الضفة الغربية حتى الآن على خط النار الإسرائيلي هذا العام.
بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية في الحكومة التي وصفها كاتب أمريكي شهير هو توماس فريدمان بأنها “الأكثر تطرفاً دينياً وقومياً”، طالب علناً “بإبادة” قرية حوارة الفلسطينية، الواقعة في الضفة الغربية المحتلة. ولم يمر يوم تقريباً إلا وارتقى شهيد فلسطيني أو أكثر برصاص الاحتلال -سواء جنوده أم شرطته أم مستوطنوه- في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين، وفي قطاع غزة المحاصر.
واستشهد 38 طفلاً فلسطينياً في الضفة الغربية المحتلة برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الأشهر التسعة الأولى من 2023 (تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA)، وفي عام 2022، استشهد 35 طفلاً فلسطينياً بالرصاص نفسه، طبقاً للتقرير ذاته، فماذا كان رد فعل جميع الأطراف في المنطقة والعالم؟ لا شيء سوى التنديد أحياناً والصمت غالباً.
وينتشر المستوطنون الإسرائيليون أيضاً في الضفة الغربية المحتلة، وينفذون هجمات جماعية اعتبرها حتى المسؤولون الإسرائيليون “مذابح”. الحكومة الإسرائيلية الحالية هي الحكومة الأكثر يمينية وتطرفاً في التاريخ، وتضم سياسيين مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي كان يعتبر خطيراً جداً لدرجة أنه لم يتمكن حتى من الالتحاق بالجيش الإسرائيلي.
السعي إلى “نكبة” جديدة
والآن يتصاعد الحديث عن “نكبة أخرى” في فلسطين. كانت النكبة عبارة عن تطهير عرقي جماعي لفلسطين التاريخية في عام 1948، عندما تأسست إسرائيل وأُجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على ترك منازلهم والتحول إلى وضع اللاجئين. معظم سكان غزة اليوم موجودون في المنطقة بسبب النكبة، ولا يزالون محرومين من العودة إلى منازل أجدادهم في إسرائيل والضفة الغربية الحاليتين.
ويدعو السياسيون الإسرائيليون إلى تطهير الفلسطينيين عرقياً مرة أخرى. غرّد عضو كنيست إسرائيلي ينتمي إلى حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو في نهاية هذا الأسبوع: “في الوقت الحالي، هدف واحد: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة 1948”.
لكن من الخطأ الاعتقاد بأن هذا الشعور هو نتاج الهجوم الأخير الذي شنته المقاومة، بحسب تحليل فورين بوليسي، في الواقع، هذه هي المنطقة التي سيطر عليها عدد متزايد من الإسرائيليين لفترة طويلة. أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث عام 2016 أن ما يقرب من نصف اليهود الإسرائيليين يريدون طرد العرب أو نقلهم من إسرائيل. لقد تحرك الجمهور الإسرائيلي أكثر نحو اليمين في السنوات التي تلت ذلك.
دفع التدهورُ المستمر لحالة حقوق الإنسان للفلسطينيين، مايكل بارنيت، الأستاذ في جامعة جورج واشنطن والباحث في شؤون الإبادة الجماعية، إلى كتابة مقال في وقت سابق من هذا العام عن العنف السياسي في لمحة بعنوان: “هل إسرائيل على شفا الإبادة الجماعية؟”، وكتب أن “الأبحاث حول الإبادة الجماعية على مدى العقود العديدة الماضية قدّمت نظرة ثاقبة للشروط المسبقة، والتي توفّر نقطة انطلاق معقولة… قد تكون العديد من الدول مؤهلة لذلك، لكن إسرائيل تفي بكل الشروط”.
كان ذلك في شهر مارس/آذار. واليوم، بينما تقصف إسرائيل غزة مرة أخرى وتستعد لغزو بري دموي، تعهد نتنياهو “بالانتقام القوي”. وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أنه سيشدد الحصار القائم على غزة، ويقطع أي دخول للوقود والغذاء والأشخاص إلى القطاع. وقال غالانت إن إسرائيل تخوض حرباً ضد “الوحوش”. إن العقاب الجماعي لسكان غزة بالكامل واللغة اللاإنسانية التي يستخدمها مسؤول الدفاع الإسرائيلي البارز تنذر بالأسوأ على الإطلاق.
وتقول فورين بوليسي إنه يتعين على المجتمع الدولي أن يدق ناقوس الخطر على الفور لمنع ارتكاب الفظائع وجرائم الحرب، التي يمكن لإسرائيل ذات القيادة المضطربة أن ترتكبها بسهولة مرة أخرى. لكن حتى الآن، ليست هذه هي الرسالة التي يرسلها معظم المسؤولين الغربيين.
إذ غردت السفيرة ديبورا ليبستادت، المبعوثة الخاصة لوزارة الخارجية الأمريكية لمراقبة ومكافحة معاداة السامية -وهي عالمة في مجال الإبادة الجماعية- يوم الأحد: “لا يحق لأحد أن يقول لإسرائيل كيف تدافع عن نفسها وتمنع وتردع الهجمات المستقبلية”.
كما أوضح البيت الأبيض دعمه الثابت لإسرائيل، بل وقام بنقل السفن البحرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لردع الجهات الفاعلة الأخرى عن التدخل. وسوف يُقرأ هذا في إسرائيل على أنه ترخيص لارتكاب فظائع أكبر من أي وقت مضى. ومن خلال القيام بذلك، ستستخدم إسرائيل الأسلحة التي زودتها بها الولايات المتحدة، والتي من المفترض أن تنظمها القوانين الأمريكية التي تضمن استخدامها للأمن الداخلي والدفاع المشروع عن النفس وعدم تصعيد الصراع. لا تتخلى واشنطن عن مسؤوليتها الرسمية والأخلاقية فحسب، بل إنها تسمح بارتكاب فظائع جماعية في وقت تعلو فيه جميع أعلام الإبادة الجماعية.
ما الذي يمكن أن يحقق أي استفادة من ذلك، غير الموت والدمار؟ في هذه المرحلة الحرجة، هناك طريقان أمام صناع القرار في إسرائيل وشركائها الغربيين. يؤدي أحد المسارات إلى طريق من القتل والقمع والكراهية والفظائع الجماعية المحتملة بشكل غير مسبوق، كل ذلك مع الحفاظ على احتمال أن تتكرر هذه الأحداث مرة أخرى بعد فترة قصيرة من الزمن. ويتطلب المسار الآخر أن يطالب القادة بحل المظالم السياسية الأساسية للفلسطينيين، والتي تشكل المصادر النهائية للعنف. يتطلب المسار الأول قادة يتمتعون بالسلطة. وهذا الأخير يتطلب قادة يتمتعون بالشجاعة والكرامة.