استغرقت إسرائيل 3 سنوات لتشييد حاجزها الأمني بأحدث التقنيات الفائقة لرصد أي حركة من قطاع غزة، حتى ولو كانت لعصفور يقترب من السور، فكيف فضحت عملية “طوفان الأقصى” أسطورة الجيش الأكثر “تقدماً” في المنطقة؟
رصد تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تفاصيل بناء ذلك الحاجز الأمني، الذي قضت دولة الاحتلال 3 أعوام في تزويده بأحدث التقنيات الفائقة بطول قطاع غزة، وبلغ طوله 40 ميلاً، مصحوباً بالرادار والمستشعرات المصممة لاكتشاف التوغلات الماكرة للفلسطينيين العازمين على تنفيذ هجمات سرية في إسرائيل.
لكن ما حدث يوم السبت، 7 أكتوبر/تشرين الأول، ضرب مثالاً صارخاً على الأساطير التي يسعى جيش الاحتلال الإسرائيلي لإحاطة نفسه بها، والأسطورة هذه المرة متمثلة في تسليط الضوء على القدرات السيبرانية وجمع المعلومات الاستخباراتية والأسلحة المتطورة، وتركيز كل ذلك على منع هجمات المقاومة الفلسطينية المسلحة، حيث جاء “طوفان الأقصى” ليأخذ إسرائيل على حين غرة، من خلال هجوم بري وجوي وبحري منخفض التقنية نسبياً.
“طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته “حماس” على العملية العسكرية الشاملة، رداً على “الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني”. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة أو تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب“، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
إسرائيل والموقف في قطاع غزة
يتأهب الآن جيش الاحتلال الإسرائيلي لإمكانية تنفيذ اجتياح بري شامل لقطاع غزة، حيث سيضطر للاعتماد بدرجة أكبر على المشاة وقوات المدفعية التقليدية، لكنها جوانب عسكرية صارت تحتل موقعاً متأخراً في قائمة الأولويات خلال السنوات الأخيرة، وحيث قد تنجر إلى معارك تدور من شارع إلى شارع وإلى حرب مدن.
آفي ياجر، الباحث لدى المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب في إسرائيل، قال لوول ستريت جورنال إن جيش إسرائيل “كان يتأهب للحرب الخطأ”.
إذ تم توجيه الاهتمام العسكري مؤخراً إلى الضفة، حيث نشرت إسرائيل قوات لقمع أي مقاومة فلسطينية مسلحة، وركزت تحذيرات الاستخبارات الإسرائيلية المتعلقة بوجود حرب وشيكة على الشمال، وعلى التهديد القادم من حزب الله، حليف إيران، وذلك حسبما قال المحللون العسكريون.
حتى يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، اعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن سياسة تعزيز اقتصاد غزة كانت تعني أن قادة حركة حماس غير مهتمين بشن هذا النوع من الهجمات العابرة للحدود التي نفذتها مؤخراً، وبدا أن استراتيجية “الاقتصاد مقابل الأمن” التي روجت لها إسرائيل وحلفاؤها قد آتت أُكلها بالفعل.
وتم ترويج تلك الاستراتيجية في أعقاب وقف إطلاق النار بين حماس ودولة الاحتلال، بوساطة مصرية، يوم 21 مايو/أيار 2021. وكان اتفاق وقف إطلاق النار ذاك قد أنهى حرباً استمرت 11 يوماً، وشهدت انقلاباً استراتيجياً في موازين القوة، بعد أن وصلت صواريخ المقاومة إلى جميع المدن والمناطق الإسرائيلية وأصابت الحياة في إسرائيل بشلل تام، ليتحقق انتصار لم يكن متوقعاً لصالح المقاومة الفلسطينية، رغم الفارق الهائل في الإمكانيات العسكرية بين الجانبين.
وكان من أبرز تداعيات حرب غزة، في مايو/أيار 2021، خسارة بنيامين نتنياهو منصبه كرئيس للوزراء، رغم أنه تسبب في إشعال الحرب سعياً للتشبث بالمنصب وتفادي الإدانة في محاكمته بالفساد، ومن ثم تولى ائتلاف غير متجانس بزعامة نفتالي بينيت ولابيد- حكومة برأسين- المسؤولية، وبدا أن لابيد، الذي كان يتولى وزارة الخارجية يسعى للتوصل إلى اتفاق “سلام” مع قطاع غزة بشروط جديدة، وأبدت حركة المقاومة الإسلامية انفتاحاً على الفكرة.
لكن مع مجيء الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نتنياهو، وعضوية زعماء الأحزاب الدينية المتطرفة وأحزاب المستوطنين، سعت تل أبيب إلى ضم الضفة الغربية المحتلة بشكل كامل، من خلال التوسع في تشييد مستوطنات جديدة وشرعنة البؤر الاستيطانية غير الشرعية، وهدم قرى وبلدات فلسطينية وتهجير أهلها، والاعتداء اليومي على المسجد الأقصى وأحياء القدس الشرقية المحتلة، والمداهمات المتكررة لجيش الاحتلال على مخيمات ومدن الضفة الغربية، وارتقى أكثر من 300 شهيد فلسطيني خلال أقل من 10 أشهر من تولي الحكومة المسؤولية.
ومن ناحية أخرى، أظهرت أحداث مطلع الأسبوع أن حماس صارت متطورة بدرجة أكبر، إذ استخدم هجوم “طوفان الأقصى” مزيجاً من الصواريخ والسفن البحرية والطائرات المسيرة والمقاتلين المسلحين، الذين وصلوا إلى نقطة بعيدة حتى مستوطنة أوفاكيم، التي تقع على بعد أكثر من 20 ميلاً بعيداً عن غزة.
“طوفان الأقصى”.. مفاجأة استراتيجية
دانييل ليفي، وهو مفاوض إسرائيلي سابق من أجل السلام مع الفلسطينيين، والرئيس الحالي لمشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط، الذي يعمل على حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قال للصحيفة الأمريكية: “عانت إسرائيل من مفاجأة استراتيجية، برغم كل الأسلحة وبرمجيات التجسس ذات التقنيات الفائقة المتطورة، وجهاز استخباراتي ذي شهرة عالمية”. وأوضح: “لا تستطيع إسرائيل أن تُبقي شعبها آمناً بعد الآن، وسوف يصعُب التعافي من هذا”.
وفي الوقت نفسه، قال متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي إن القوات المسلحة تركز على السيطرة في الصراع الحالي، وإنها ستناقش الاستعدادات والتحضير لهجوم حماس العابر للحدود بعد انتهاء القتال، وهو ما قالت المقاومة إنه تحرك “تنتظره ومستعدة له”.
وفي حين أن إسرائيل طالما ركزت على تحقيق ميزة تكنولوجية ضد أعدائها- إذ يُعتقد على نطاق واسع أنها طورت أسلحتها النووية للمرة الأولى في ستينيات القرن الماضي- فقد سرّع جيش الاحتلال تحولاً نحو المنظومات الجوية والدفاعية والاستخباراتية المتطورة خلال العقدين الماضيين.
بالنسبة للجيش الإسرائيلي، فإن حرب 2006 مع حزب الله، حيث خاض حرب عصابات فوق التلال الصخرية جنوب لبنان، أظهرت القيود أمام المدفعية والقنابل المتطورة في المعارك التي تُخاض ضد المسلحين في المدن والشوارع. وفي هذا الإطار بدأت القيادة الإسرائيلية في الاعتقاد بأن التهديدات الرئيسية للأمن لم تعد الاجتياحات البرية، على شاكلة ما شهدته إسرائيل في الحروب السابقة ضد الدول العربية، والتي كان آخرها حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بل إنها صارت تهديدات غير تقليدية من الصواريخ وهجمات المقاومة المسلحة من جماعات غير تابعة لدول مثل حماس وحزب الله، وذلك وفقاً لياجر.
من أجل تلك الغاية، استثمر جيش الاحتلال في القدرات الاستخباراتية والسيبرانية والدفاعية من أجل التعامل مع التهديدات من حزب الله وحماس، وتخفيف مخاطر ترسانة الصواريخ المتزايدة في إيران. وفي عام 2011، نشرت إسرائيل منظومة القبة الحديدية، التي تستهدف الصواريخ قصيرة المدى، واستثمرت في نشر منظومات أخرى للتعامل مع الصواريخ طويلة المدى.
وعندما دخلت إيران الحرب الأهلية في سوريا، نفذ الطيارون الإسرائيليون آلاف الغارات الجوية في سوريا، التي عرقلت جهود طهران التي تستهدف إمداد حزب الله، حليفها في لبنان، بالصواريخ المتطورة. وصارت وحدة الاستخبارات المعروفة باسم الوحدة 8200، المسؤولة عن التجسس الإلكتروني عن طريق جمع الإشارات، واحدة من أكبر وأشهر وحدات جيش الحتلال، التي ساعدت أيضاً في دفع اقتصاد إسرائيل، عن طريق زرع من يوصفون بأنهم “الفتيان العباقرة” في مجال الحاسوب، داخل قطاع التكنولوجيا.
لكن رغم كل ذلك، فاجأت حركة حماس في عام 2014 جيش الاحتلال عن طريق شن هجمات ضد إسرائيل من غزة، عبر شبكة من الأنفاق التي حُفرت أسفل الجدار. وشنت إسرائيل عمليات برية استمرت لـ50 يوماً في غزة لتدمير الأنفاق.
ورداً على ذلك، لجأ جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى التكنولوجيا مرة أخرى. وبدأ في العمل على منظومة تسمى Obstacle (العقبة)، قادرة على المساعدة في اكتشاف الأنفاق، ولاحقاً كشف عن نظام السياج الحدودي. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، بيني غانتس، إن الحاجز وضع “جداراً حديدياً” حول غزة، ليحمي الإسرائيليين من المقاومة المسلحة لحماس، تماماً مثلما تحمي منظومة القبة الحديدية من الصواريخ.
يقول ياجر إن الجيش الإسرائيلي بدأ عام 2015 في العمل على خطة تجديد تقل بموجبها أعداد القوات وقوات الاحتياط. ونشر ياجر الإثنين 9 أكتوبر/تشرين الأول دراسة حول هذا التحول. انخفض عدد ضباط الصف بنسبة 10%، ليصير 40 ألف ضابط صف، وجرى تقصير مدة الخدمة في الجيش للرجال بأربعة أشهر، لتصير 32 شهراً.
ورفض متحدث باسم غانتس، الذي صار في الوقت الحالي عضواً في الكنيست الإسرائيلي ورئيس حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي، التعليق على الأمر.
قال الجنرال المتقاعد ياكوف عميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “في نهاية المطاف، عليك أن تقرر: هل تستثمر في التكنولوجيا أم لا، الاستثمار في التكنولوجيا يعني تقليل المال في مسائل أخرى”.
التحول التقني في جيش الاحتلال
حمل قادة الجيش اللاحقون لواء تحويله ليصير أعلى مهارة وأكثر توجهاً ناحية التكنولوجيا. قال كوبي مايكل، الباحث البارز لدى معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS): “نتحدث عن عملية قائمة منذ وقت طويل، حيث أُضعفت القوات البرية للجيش الإسرائيلي”.
ومع تحول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مزيد من التقنية المتطورة، بدأت حماس في العمل مثل الخصوم العسكريين التقليديين، وليس بوصفهم مجرد مقاومة مسلحة مشاكسة. شيدت حماس، التي تسيطر على قطاع غزة منذ أكثر من عقد، جحراً من القواعد تحت الأرض لتكون مركزاً للقيادة والتحكم من أجل أي صراع مستقبلي، وصارت أكثر دقة في إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل.
برزت القبة الحديدية مرة أخرى بوصفها قصة نجاح أخرى في عام 2021، عندما اعترضت آلافاً من القذائف التي أُطلقت تجاه إسرائيل. والاستجابة العنيفة لجيش الاحتلال الإسرائيلي عبر الغارات الجوية، التي دمرت أجزاء من البنية التحتية العسكرية لحماس، أقنعت المسؤولين الإسرائيليين بأن حركة المقاومة الإسلامية قد تم إرهاقها من جولات العنف المتكررة مع إسرائيل.
وما زاد الموقف تعقيداً في “طوفان الأقصى” هو تصاعد وتيرة العنف في الضفة الغربية المحتلة، والذي أججته استفزازات الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل بحق القدس والمسجد الأقصى، وبالتالي وجهت حكومة نتنياهو، المدعومة من قادة المستوطنين الذين يعيشون في الضفة الغربية المحتلة، اهتمامها ما تشهده الضفة والقدس من اضطرابات لا تتوقف.
في يونيو/حزيران الماضي، رفع الجيش الإسرائيلي عدد الكتائب على الأرض في الضفة الغربية، التي زادت من 13 كتيبة تقريباً إلى 25 كتيبة خلال 18 شهراً، وفقاً للإعلام الإسرائيلي، وهو ما يعادل إضافة آلاف من القوات البرية. ألقى المعلقون الإسرائيليون باللوم في الاستجابة البطيئة لهجمات حماس على حدود غزة، على الحقيقة التي تقول إن كثيراً من القوات كانت في الضفة الغربية المحتلة.
أبلغ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ريتشارد هيشت، الصحفيين بأن نشر القوات بين غزة والضفة الغربية لم يكن متصلاً. وأوضح: “لدينا أيضاً قوات نُشرت بالقرب من غزة”. وقال مارك دوبويتز، رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن (FDD)، إن تصاعد العنف في الضفة الغربية المحتلة يبدو الآن أنه كان خطوة محسوبة لتشتيت الانتباه عما يُخطَّط له في غزة.
وأوضح: “إنه لأمرٌ صحيح أن سيناريو وجود مفاجأة استراتيجية تتمثل في ضرب إسرائيل عند حدودها الجنوبية، وتسلُّل أكثر من 1000 من مقاتلي حماس، كان أولوية أدنى ضمن أهم سيناريوهات التخطيط الخاصة بالجيش الإسرائيلي”.