في كل معركة جديدة تخوضها المقاومة في قطاع غزة خلال السنوات الماضية، كانت هناك دوماً مفاجأة فيما يتعلق بالأسلحة، حيث يكون هناك سلاح جديد يصدم إسرائيل، ولكن في معركة طوفان الأقصى، كان ما صدم إسرائيل هو التخطيط للعملية وأداء المقاومة الفلسطينية ومقاتليها، خاصة كتائب عز الدين القسام.
فخلال المعارك السابقة، كانت المقاومة تكشف أداة جديدة مثل الأنفاق، أو سلاحاً جديداً مثل صاروخ بمدى أطول، أو الطائرات المسيّرة التي تقلق تل أبيب بشكل خاص؛ لأنها أبطأ من الصواريخ ومحركاتها كهربائية ومصنوعة من مواد غير معدنية، ما يجعلها صعبة الرصد من قبل القبة الحديدية.
ولكن الأمر مختلف هذه المرة، فباستثناء الأسلحة المضادة للطائرات المنتجة محلياً، “متبر 1” التي كشفت عنها القسام، وأنظمة المدفعية الصاروخية التي جرى تصويرها، فإنه لم تكن هناك أسلحة جديدة كثيرة أعلنت عنها المقاومة في عملية طوفان الأقصى، خاصة أن المعركة الأخيرة لم يمضِ عليها سوى عامين، والأسلحة تحتاج لزمن طويل للتطور، كما أن الحصار على غزة يزداد استحكاماً بشكل يقلل فرص وصول أسلحة من الخارج.
مغامرة الكوماندوز.. مفاجأة المقاومة في “طوفان الأقصى” تتفوّق على إسرائيل عبر خيال هوليوودي
ولكن مفاجأة المقاومة الكبرى كانت في التخطيط للعملية الذي اتسم بخيال هوليودي، فاق توقعات الاحتلال إضافة للتكتم على التخطيط والتدريب، بشكل أحرج أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية.
وفي قلب ذلك، جاء التطور المذهل لأداء المقاومين.
ولسنوات اعترفت إسرائيل بتطور أداء مقاتلي فصائل المقاومة في غزة، ولكن ظلت تتعامل معهم وتتحدث عنهم باعتبارهم ما زالوا أقل كفاءة من جنود الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
ولكن معركة طوفان الأقصى تشير إلى أن هذا بات منظوراً عفى عليه الزمن.
فأداء المقاومين كان أعلى بكثير من حتى وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، من خلال الكفاءة العالية لعملية التسلل، بما فيها تنفيذ مناورات صعبة مثل عملية الإبرار البحري من قبل الكوماندوز البحري، وهي عمليات صعبة على أقوى الجيوش، ولكن الأهم عملية الإبرار الجوي غير المسبوقة على هذا النطاق في التاريخ.
وأيضاً عبر واحدة من أجرأ عمليات الإسقاط الجوي في التاريخ من خلال الإنسان الطائر
فالجيوش التقليدية الكبرى تقوم بعمليات الإبرار الجوي عبر إلقاء المظليين من طائرات النقل الكبيرة أو المروحيات خلف خطوط العدو، وهي عملية معقدة ونادرة بين الجيوش، وكثيراً ما تنتهي بالفشل، وآخر جيش نفذها على نطاق واسع كان الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية.
ولكن المقاومة الفلسطينية لا تمتلك طائرات نقل ولا مروحيات، فلجأت لسلاح فاجأ الإسرائيليين، وهو مظلات يرتديها المقاتلون مع مراوح لإطلاقهم للجو بدلاً من الطائرات، مع ركوبهم ما يشبه الدراجات المزودة بعجلات للقيام بالإقلاع والهبوط.
فاستعاضت المقاومة بالطائرات بجعل المقاومين أنفسهم هم الطائرات، طائرات بشرية ببصمة رادارية محدودة، مكنتهم من تجاوز الرادارات الإسرائيلية بعدما أطلقت المقاومة وابلاً من الصواريخ ذات البصمة الرادارية العالية لإرباك القبة الحديدية وكأنها حولت عيب صواريخ المقاومة لميزة تفتح الطريق لسلاح آخر.
ومع أن استخدام الطائرات الشراعية أمر حدث في عمليات سابقة للمقاومة الفلسطينية، خاصة في الستينيات والسبعينيات، كما أن تقنية الطيران الذي يجمع بين المظلة والعجلات والمراوح معروفة.
ولكن على الأغلب لم يسبق استخدامها في المجال العسكري أو على الأقل على هذا النطاق الواسع.
إليك نقاط تفوق المقاومة الفلسطينية على الإسرائيليين
أولهما الخيال والتكتم.. حتى المشاركون بالعملية لم يعرفوا بها!
الجوانب المثيرة للانتباه في هذا الجانب من العملية هي عديدة، وأولها الفكرة التي تعبّر عن خيال عسكري جريء، والخيال العسكري هو عادة نقطة تفوق مفصلية في أي معركة، الجانب الثاني القدرة على التكتم على التدريب على هذه العملية التي تحتاج لأراضٍ مفتوحة وواسعة في غزة، التي تعد أشد مكان في العالم خضوعاً للمراقبة، مما يجعلها قابلة للرصد من قبل إسرائيل، ومن المحتمل أن إسرائيل قد رصدت بعض التدريبات، ولكن لم تعطيها حق قدرها أو لم تفهم هدفها وهذا إنجاز آخر.
ولقد بلغ قدر تكتم القسام وسرايا القدس على العملية ما أفادت به تقارير من أن كثيراً من قادة حماس لم يعرفوا عنها شيئاً، بل إن المقاتلين الذين كانوا يخضعون للتدريب لم يعرفوا تفاصيل العملية.
ويظهر ذلك أن المقاومة الفلسطينية قد قطعت شوطاً كبيراً في بناء مؤسسات مرنة وقائمة على التطوع، ولكن حازمة بشكل صارم يمنع تسرب أسرارها حتى لو على سبيل الصدفة أو الثرثرة، وهذا أمر صعب في المجتمعات العربية المعروف عنها بطبيعتها ميلها لحب الكلام وعدم التحفظ وصعوبة حفظ الأسرار، كل ذلك في مجتمع صغير وسكانه متلاصقون ومناطقه الخاوية قليلة، وما زال متداخلاً مع إسرائيل التي زرعت فيه منذ عقود عملاء وأجهزة تصنت فائقة القدرات.
خدعت أقوى جهازي مخابرات في العالم اللذين يعلمان ما يدور بين المرء وزوجه
كما أن تل أبيب هي واحدة من أكثر دول العالم تقدماً في مجال التنصت الإلكتروني، وبرمجياتها الخبيثة وأجهزتها تلقى رواجاً في العالم، وباتت أجهزة الاستخبارات العربية من زبائنها المفضلين.
كما أنها الحليف المقرّب والمدلل للولايات المتحدة التي لديها سلسلة لا مثيل لها من أقمار التجسس، إضافة إلى أهم وكالة للتجسس الإلكتروني في العالم وهي وكالة الأمن القومي الأمريكي، وشركات التكنولوجيا الأمريكية هي التي تدير الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي الخاصة بها تخترق الهواتف المحمولة وتعلم ما يدور بين المرء وزوجه حتى أن حديثاً حميمياً بين رجل وامرأة في غرفة نومهما عن أمر خاص، يمكن أن يعقبه أن يجد الزوجان إعلاناً مرتبطاً بهذا الأمر على هاتفيهما.
وهناك مؤشرات على أن حركات المقاومة الفلسطينية، وكذلك حزب الله من جراء سنوات خبرتها الطويلة في الصراع مع إسرائيل، تعلمت أن تتجنب بشكل كامل الاتصالات الإلكترونية القابلة بطبيعتها للاختراق.
ولقد دفعت حركات المقاومة الفلسطينية تحديداً على مدار عقود ثمناً باهظاً من دماء قادتها ومقاتليها لتعلم هذا الأمر، وتجدر الإشارة إلى أن حماس احتجزت لسنوات الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في غزة، دون أن تعثر عليه إسرائيل.
هل نفذت عملية تشويش إلكترونية على إسرائيل؟
الجانب الثالث، وهو الأكثر غموضاً حتى الآن، هو كيف اخترقوا الحدود الإسرائيلية دون أن تنتبه تل أبيب في البداية رغم أن الحائط الذي يحاصر غزة وتكلف المليارات مدجج بالرادارات وأجهزة الرصد والتنصت التي يفترض أن ترصد تسلل أي عنصر فردي وليس ألف مقاتل أو حتى ألفين كما تشير تقديرات إسرائيلية أخيرة.
والسؤال: هل تم ذلك عبر عامل المفاجأة، أم من خلال عمليات تشويش إلكترونية؟ وهو ما إذا تبين صحته سيكون نقلة نوعية للعنصر البشري المقاوم في غزة، خاصة أن حزب الله سبق أن مارس عملية قرصنة محدودة خلال حرب إسرائيل مع لبنان عام 2006، وللإيرانيين تجارب في القرصنة والحرب الإلكترونية مع الإسرائيليين.
ولكن حتى إيران، الدولة الوحيدة التي تمد المقاومة الفلسطينية بالسلاح والدعم الفني، اخترقتها إسرائيل مراراً، وكشفت كثيراً من أسرار برنامجها النووي واستهدفت منشأتها وعلمائها، بينما لم تفعل ذلك مع عملية طوفان الأقصى.
وتجدر الإشارة إلى أن تقارير أمريكية تفيد بأن إيران فوجئت بالعملية مثلها أمريكا وإسرائيل، علماً بأنه في الأغلب حتى لو سبق أن قدمت طهران وحزب الله دعماً فنياً استفيد منه في عملية طوفان الأقصى، فعلى الأرجح أن ذلك دون أن يعلما ماهية العملية، وقد يكونوا قد علما بوجود عملية نوعية كبيرة، أما تفاصيل العملية فالأغلب أن القسام لم تخبرهما، لأن ذلك قد يعرض العملية للكشف، خاصة في ضوء الاختراقات الإسرائيلية السابقة لإيران.
كلمة السر في إتقان التدريب
أما الجانب الرابع، فهو إتقان التدريب على هذه المناورات الصعبة، في وقت يتهم فيه الإنسان العربي من قبل خصومه وحتى من قبل بني أهله بالعجز والكسل والفشل في التطور والابتكار واكتساب المهارات الجديدة وإجادتها.
وبدت واضحة كفاءة التخطيط والتدريب في أن عملية الاختراق الجوي، لم تشهد خسائر تُذكر على ما يبدو، فاتحة الباب لتدفق أعداد هائلة من المقاتلين عبر أسوار غزة الحصينة تقدر بألف مقاتل، ولم تفد تقارير عن إسقاط أي من المقاتلين الجويين خلال العملية.
من ناحية أخرى، فإن المقاتلين -سواء القادمون من الجو أو البر أو البحر- قاتلوا لأيام خلف خطوط إسرائيل محققين إصابات كبيرة في الجيش الإسرائيلي، بينما بدا واضحاً أن خسائرهم أقل، بل إن حماس كانت قادرة على استبدال بعض المقاتلين الذين خاضوا أياماً من القتال، وسط تقارير عن استخدامها لأنفاق أيضاً للوصول للخطوط الإسرائيلية الخلفية.
إلى جانب الكفاءة التي أبداها المقاتلون من خلال القتال خلف خطوط العدو وهو أصعب عمل عسكري على الإطلاق، والقدرة غير المفهومة على توفير الإمداد والتموين لهم، فإن اللافت أننا أمام مقاتلين ذهبوا بلا وجل، وهم يعلمون أن الموت هو مصيرهم.
ولكننا لسنا أمام عملية انتحارية غير مدروسة؛ لأنه رغم وقوع خسائر بين مقاتلي المقاومة الذين شاركوا في العملية، فإنها تبدو أقل من خسائر العسكريين الإسرائيليين، كما أن كثيراً منهم عادوا لغزة.
اللافت أيضاً أن قرار حماس بالدفع بنحو ألف مقاتل داخل إسرائيل مع وجود احتمال لفشل العملية، وأنهم كان يمكن ألا يعود منهم أحد، يعد مؤشراً على امتلاك المقاومة لأعداد كبيرة من المقاتلين المناظرين؛ لأنها تعلم أنها تحتاج لأعداد كبيرة من مقاتلي النخبة لمواجهة أي توغل إسرائيلي محتمل.
المقاومة كان لديها 70 ألف مقاتل وقد تكون أعدادهم قد زادت مؤخراً
وهذا يعود بنا لخطاب سابق لقائد حماس في غزة يحيى السنوار وجَّه فيه باسم كل الفصائل المسلحة ما يشبه رسالة تحذير لإسرائيل إن حاولت احتلال غزة، قائلاً إن “عدد المقاتلين في القطاع يُقدر بحوالي 70 ألفاً من الشباب، سيخرجون من باطن الأرض بمضادات دروع، وسيطلقون صواريخ ستحيل مدن إسرائيل إلى مدن أشباح”، وإنّهم يملكون مئات الكيلومترات من الأنفاق تحت الأرض، وآلاف الكمائن، وجميعها صُنعت في غزة.
كما هدّد السنوار إسرائيل، بقدرة المقاومة على ضرب تل أبيب مدة ستة أشهر متواصلة، برشقات صاروخية متتالية، تفوق أعدادها عشرات المرات ما تعرضت له من قصف خلال عام 2014.
وفي عام 2021، قال قائد كبير في الجيش الإسرائيلي إن حماس لديها 30 ألف رجل، من بينهم 400 كوماندوز بحري تلقوا تدريبات ومعدات متطورة لتنفيذ عمليات بحرية، إضافة إلى 7 آلاف صاروخ وعشرات الطائرات بدون طيار، حسبما نقل عنه موقع the Times of Israel.
ولدى حماس 300 صاروخ مضاد للدبابات و100 صاروخ مضاد للطائرات، حسب القائد الإسرائيلي الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، وقد تكون هذه الأرقام قد ارتفعت بشكل كبير؛ لأن هذا التصريح صدر قبل أكثر عامين.
ويعتقد أن حماس تقسم قواتها إلى قوات كوماندوز أو النخبة وقوات عسكرية أساسية وقوات شرطة، إضافة لقوات احتياطية من المتطوعين والشباب، وقد تكون الأخيرة أكبر حجماً من التقديرات السابقة.
وقال القائد الإسرائيلي إن حركة الجهاد الإسلامي الأصغر، التي غالباً ما تعمل بشكل مستقل عن حماس، تمتلك ترسانة مماثلة. ويشمل ذلك 6000 صاروخ وعشرات الطائرات بدون طيار والصواريخ المضادة للدبابات والطائرات ونحو 400 من القوات البحرية.
وتصف مصادر عسكرية إسرائيلية قوة حماس العسكرية بأنها تعادل القوة النيرانية لدولة أوروبية صغيرة، بينما عدد السبعين ألف مقاتل الذين تحدث عنهم السنوار والذي قد يكون قد زاد بشكل كبير مؤخراً، وهو عدد يقارب جنود بعض الجيوش الأوروبية الصغيرة وحتى المتوسطة.
المقاومة تركز في الاستثمار بالبشر
هذه الزيادة العددية، والتطور النوعي في قدرات الفرد، الذي أظهرته العملية الأخيرة هو محصلة لعملية استثمار طويلة الأمد من قِبل فصائل المقاومة الفلسطينية، لاسيما حماس، في العنصر البشري بشكل أساسي.
وحتى في مجال تصنيع الأسلحة، لم تترك فصائل المقاومة نفسها رهينة للأسلحة التي تأتيها من حزب الله وإيران عبر التهريب، فهي أن اكتفت بها ستصبح رهينة بدورها لمواقف طهران والحزب المثيرة للجدل في سوريا والخلاف السني – الشيعي بالمنطقة، كما أن الاكتفاء بالاعتماد على السلاح الوارد من الخارج يعرضها للخطر في حالِ كشفِ منافذ التهريب وتشديدها أثناء الحروب.
فحماس ومعها الجهاد لم يستثمروا في الحصول على السلاح فقط، بل في العقول التي تصنع السلاح، فطوَّروا الصواريخ من صواريخ كان يصفها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالكارتونية لصواريخ تطال معظم إسرائيل وتجبرها على إغلاق مطار تل أبيب، كما طوَّرت نسخها الخاصة من الطائرات المسيرة اعتماداً على النسخ الإيرانية، ولكن النسخ الفلسطينية ملائمة لظروف المعركة مع إسرائيل ومشكلات الحصار.
الضيف استراتيجي رفيع المستوى.. وتركيبة غزة والمقاومة تجمع بين شيئين كانا يبدوان نقيضين
واليوم تُثبت عملية طوفان الأقصى أن حماس تستثمر بشكل كبير في رأس المال البشري، العامل في التخطيط والتدريب، وفي هذا الإطار يقول خبير مصري مقرب للحكومة التقى محمد الضيف، الرجل الذي عولج في مصر، بعدما كاد يقضي حتفه عدة مرات، إن الضيف رجل لديه تفكير استراتيجي وعسكري رفيع المستوى.
ولكن الأمر لا يقتصر على الضيف، ولكن الأمر مرتبط أيضاً بتركيبة غزة وحماس الاجتماعية والأيديولوجية، قطاع غزة واحدة من أكثر مناطق الأرض اكتظاظاً وتعرضاً للحصار، ولكن القطاع ومقاومته يأبون الاستسلام لهذا المصير، فغزة على قدر فقرها وبطالتها لديها معدل تعليم جيد، وجامعات كفؤة، وطلابها يُقبلون بنهم على الابتعاث قدر استطاعتهم للخارج، وكثير منهم يسافر لتلقي التعليم في مصر تحديداً (كثير من قادة حماس تلقوا تعليمهم في غزة).
وحماس التي تنحدر من حركة الإخوان المسلمين، تقليدياً، كثير من قادتها مهندسون وأطباء وأساتذة جامعات، مثل أغلب التيار الإسلامي المعتدل في العالم العربي، وذلك عكس القيادات اليسارية في العالم العربي الذين يتركز وجودهم في المجال الثقافي والأدبي، ومع أن هذا جعل تأثير الإسلاميين المعتدلين في مجال الفن والثقافة والأدب والدراسات الاجتماعية والسياسية محدوداً، ولكن الطابع العلمي العملي للحركة يجعلها تركز على فكرة العلم التطبيقي، والاستفادة منه باعتبارها أداة القوة الحقيقية، وغزة رغم عزلتها، شبابها منفتحون على مصادر العلم التي لا يمكن للحصار وقفها، وحماس تسعى لتحاكي كل ما هو جديد، بما في ذلك ما هو جديد لدى عدوتها إسرائيل.
فالحالة الاجتماعية للمقاومة تجمع بين ما كان يظن أنهما نقيضان أيديولوجيا دينية وطنية محافظة، ولكنها منفتحة بل متلهفة للعلم والتطور، وحتى الأخذ من العدو.
يراقبون إسرائيل بطريقة أكفأ مما تراقبهم بها
وتحديداً، هذا الجهد لمراقبة إسرائيل وفهمها وحتى التعلم منها، بدا واضحاً أيضاً في عملية طوفان الأقصى، فمقابل العمى الذي أصاب إسرائيل بشأن العملية، كان مقاتلو المقاومة لديهم مخططات تفصيلية بأماكن القتال ومواقع الجيش الإسرائيلي وتحركاته، ونقاط ضعفه.
إننا أمام تخطيط يتسم بطابع علمي دقيق نادراً ما نراه في العالم العربي، كما أننا أمام عملية تدريب استمرت لسنوات بدأب شديد، ويساعد على ذلك طبيعة كتائب عز الدين القسام، التي تركز على العمل العسكري، وتطوير قدراتها، دون أن يشغلها عن ذلك أي هدنة مع إسرائيل، أو جهود الجناح السياسي لحماس لتخفيف الحصار، أو زيادة نصيب عمال غزة من فرص العمل في إسرائيل، أو جهود الجناح السياسي لتحريك الهبَّات الشعبية في غزة على الحدود مع إسرائيل.
فلم تثنِ هدنات غزة التي تبرمها حماس وعادة تلتزم بها أو إغراء عمليات الإعمار التي لا تنفذ في الأغلب، كتائب القسام على تعزيز جهودها لتطوير قدراتها العسكرية.
والبنية الاجتماعية والأيديولوجية للكتائب والحركة وغزة تساعد على ذلك، مجتمع محافظ ملتزم بالقضية، فبعض رجال القسام وهبوا حياتهم بالمعنى الحرفي لها ليس فقط بمعنى الاستعداد للموت، بل أيضاً تخصيص معظم أوقاتهم لعملية التدريب والتطوير.
إننا أمام بنية علمية معزولة، ولكن متطلعة، ولا تترك فرصة لتطوير نفسها والتعلم من المنافذ العلمية القليلة المتاحة.
إنها تتعلم حتى من الأفلام البوليسية الأمريكية
نحن أمام حصار كان يمكن أن يكون عامل يأس وإحباط، ولكن المقاومة حولته لمحفز للاعتماد على الذات، وأمام رؤية تتعلم من تجارب المقاومة في العالم، بدءاً من فيتنام، مروراً بحزب الله، وحتى من إسرائيل.
بل وحتى من أفلام الأكشن الأجنبية؛ حيث كان يقول قائد كتائب عز الدين القسام الراحل صلاح شحادة لتلاميذه: ولكم في مشاهدة الأفلام البوليسية أجر.
إننا أمام أيديولوجيا دينية صلبة، ولكن منفتحة، ترى في نفسها حركة تحرر وطني بمرجعية إسلامية، ولا تعادي أحداً سوى الاحتلال، حتى لو كان أشد داعميه مثل الولايات المتحدة، ولم تتدخل في شؤون الدول العربية الداخلية، فحتى عندما سفك دماء الشعب السوري خلال الثورة، خرجت حماس من البلاد دون أن تكون طرفاً في الأزمة، وحتى مع الإطاحة بحكم الرئيس المدعوم من الإخوان المسلمين في مصر، حرصت الحركة على عدم التدخل في الشؤون المصرية والاحتفاظ بعلاقة جيدة للغاية مع القاهرة تصل لعلاقة شخصية وطيدة مع قيادات المخابرات المصرية.
هل تسير على خُطى إسرائيل؟
خلق كل ذلك حالة احترافية عسكرية لدى القسام، وأيضاً سرايا القدس، مشوبة بمزيج من النفس الجهادي والرؤية العلمية، تشبه لحد كبير الحالة الاحترافية التي أنشأت دولة إسرائيل وحوَّلت اليهود من جماعات وظيفية مشتتة تعمل بالأساس في التجارة والربا والوساطة المالية إلى عصابات كفؤة عسكرياً، وتستند لمجتمع زراعي أُسس بشكل علمي، رغم أن اليهود لم يكونوا يوماً مزارعين، ولكن بهدف ربطهم بالأرض المحتلة، ممهدة لتأسيس دولة متقدمة لديها أقوى جيش في الشرق الأوسط، وواحد من أقوى الجيوش في العالم، وعقيدة عسكرية استفادت من الأساليب العسكرية للأعداء الألمان السابقين.
يتبقى لغزة أن تعمل ليست فقط على بناء قدراتها العسكرية الذاتية، بل تطوير هذا النهج الاكتفائي المستند على العلم، والمدفوع بإصرار وطني وديني لحالة اقتصادية واجتماعية عامة، فكما باتت حركات المقاومة تعتمد على نفسها في تصنيع أسلحتها على إمكانيات غزة المحاصرة، فعلى كل غزة فعل المستحيل، وتحقيق قدر من الاكتفاء الاقتصادي ولو جزئياً، والعمل على إنتاج وتصنيع كل ما يمنعه الحصار عنها.