كما حدث في كل حروب الشرق الأوسط السابقة، من المحتمل أن يؤدي الصراع الذي اندلع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية منذ السبت الماضي إلى تعطيل الاقتصاد العالمي، وربما يدفع به إلى الركود في حال انجذبت إليه المزيد من الدول. كيف ذلك؟
اندلاع حرب أوسع في الشرق الأوسط قد يدفع الاقتصاد العالمي إلى الركود
يقول تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية، إن هذا الخطر يُعد حقيقياً بالتزامن مع استعداد الجيش الإسرائيلي لاجتياح غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي أعلنتها حماس. وقد وصل عدد القتلى في هجوم حماس نحو 1400 إسرائيلي وإصابات آلاف آخرين. في حين وصل عدد الشهداء الفلسطينيين الذين من بينهم مئات الأطفال والنساء لأكثر من 2000 شهيد ونحو 8000 جريح نتيجة القصف الجوي الإسرائيلي المتواصل على غزة.
في الوقت نفسه، هناك مخاوف أمريكية وإسرائيلية من أن الجماعات المسلحة التي تدعم حماس في لبنان وسوريا قد تنضم إلى القتال. ومن المحتمل أن يؤدي التصعيد الحاد إلى دخول إسرائيل في مواجهة مباشرة مع إيران، التي تدعم حركة حماس بالأسلحة والمال. وفي سيناريو كهذا، يُقدِّر خبراء Bloomberg Economics الأمريكية أن أسعار النفط قد ترتفع إلى 150 دولاراً/برميل، مع انخفاض معدل النمو العالمي إلى 1.7% -في ركود سيقتطع نحو تريليون دولار من الناتج العالمي.
وقد تتردد أصداء هذا الصراع من الشرق الأوسط لتبلغ جميع أنحاء العالم، وذلك لأن المنطقة تُعد مورداً أساسياً للطاقة وممراً بحرياً رئيسياً.
حرب جديدة في المنطقة ستشعل التضخم من جديد وترفع أسعار النفط
ويبدو الاقتصاد العالمي اليوم أكثر عرضةً للخطر، إذ لا يزال الاقتصاد العالمي يحاول التعافي من نوبة التضخم التي تفاقمت بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا العام الماضي، ولهذا فإن اندلاع حربٍ أخرى في المنطقة المنتجة للنفط قد يُعيد إشعال التضخم من جديد. وربما تمتد التداعيات الأوسع بدايةً من تجديد الاضطرابات في العالم العربي، ووصولاً إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجرى العام المقبل -والتي تؤثر أسعار البنزين على مشاعر الناخبين فيها بشدة.
تتوقف كل هذه الآثار المحتملة على كيفية تطور الحرب على مدار الأسابيع أو الأشهر المقبلة. وفحص خبراء Bloomberg Economics التأثير المحتمل على النمو والتضخم العالميين في ظل 3 سيناريوهات.
في السيناريو الأول، ستظل الأعمال العدائية محصورةً داخل غزة وإسرائيل بشكل كبير. أما في السيناريو الثاني، فسيمتد الصراع إلى الدول المجاورة مثل لبنان وسوريا، اللتين تستضيفان على أرضهما جماعات مسلحة قوية مدعومة من إيران، ما سيعني تحول الصراع إلى حرب بالوكالة بين إسرائيل وإيران في الأساس. بينما سيشهد السيناريو الثالث تصعيد الصراع إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين خصمين إقليميين.
سنسلك الاتجاه نفسه في جميع السيناريوهات، حيث سترتفع أسعار النفط ومعدل التضخم مع تباطؤ النمو، لكن حجم تلك الآثار هو الذي سيختلف من سيناريو لآخر. وكلما اتسع نطاق الصراع أكثر، تحولت أثاره من إقليمية إلى عالمية بدرجةٍ أكثر.
ولا شك أن النطاق الحقيقي للمخاطر والاحتمالات يُعد أوسع وأكثر تعقيداً مما تعرضه هذه السيناريوهات. لكن السيناريوهات التي نرسمها هنا يجب أن تساعد على الأقل في تأطير نظرتنا للمسارات المستقبلية المحتملة.
السيناريو الأول: صراع محدود في غزة
في 2014، أدى اختطاف وقتل 3 إسرائيليين على يد حماس إلى وقوع اجتياح بري لغزة خلّف أكثر من 2000 شهيد. ولم يمتد القتال إلى خارج الأراضي الفلسطينية، لهذا كان تأثيره بسيطاً على أسعار النفط -والاقتصاد العالمي بالتبعية.
وقد تجاوزت حصيلة قتلى الأسبوع الماضي ذلك الرقم بكثير. ومع ذلك، سنجد أن تكرار تلك القصة المأساوية ربما يكون أحد المسارات المحتملة للصراع الحالي -وقد يتزامن هذا مع فرضٍ أكثر صرامة للعقوبات الأمريكية على النفط الإيراني.
إذ زادت طهران إنتاجها من النفط بما يصل إلى 700 ألف برميل/يوم خلال العام الجاري، بعد أن ألمحت صفقات تبادل السجناء وفك التجميد عن الأصول إلى انفراجة في العلاقات مع الولايات المتحدة. وتقدر وكالة Bloomberg ارتفاع أسعار النفط بما يتراوح بين 3 و4 دولارات في حال اختفت البراميل الإيرانية تحت الضغط الأمريكي.
وسيكون التأثير على الاقتصاد العالمي محدوداً في سيناريو كهذا، خاصةً إذا عوضت السعودية والإمارات البراميل الإيرانية المفقودة باستخدام قدرتهما الإنتاجية الاحتياطية.
السيناريو الثاني: حرب بالوكالة وانفجار الشارع العربي ضد الأنظمة بسبب الركود والتضخم
ماذا لو لم تنحصر الحرب في غزة؟ تبادل حزب الله، المدعوم من إيران، إطلاق النار مع القوات الإسرائيلية على الحدود بالفعل، وقال إنه ضرب موقعاً للجيش الإسرائيلي بصاروخ موجّه.
وإذا امتد الصراع إلى لبنان وسوريا، حيث تدعم إيران الجماعات المسلحة هناك أيضاً؛ فسوف يتحول الوضع إلى حرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل رسمياً -وبهذا سترتفع التكلفة الاقتصادية للصراع.
وقد يؤدي التصعيد في هذا السياق إلى رفع احتمالات وقوع صراع مباشر بين إسرائيل وإيران، ما سيرفع أسعار النفط أكثر على الأرجح. يُذكر أن سعر الخام قفز بمقدار 5 دولارات للبرميل خلال الحرب الدموية القصيرة التي اندلعت بين حزب الله وإسرائيل عام 2006. وعلاوةً على الصدمة الناتجة عن سيناريو الحرب المحدودة، ستؤدي الحرب بالوكالة اليوم إلى رفع الأسعار بنسبة 10% لتبلغ 94 دولاراً/برميل.
ومن المحتمل أن تتصاعد التوترات في المنطقة الأوسع، إذ تغرق مصر ولبنان وتونس في حالة ركود اقتصادي وسياسي. وربما يؤدي رد إسرائيل على هجوم حماس إلى إثارة الاحتجاجات. وليست هناك مسافة بعيدة تفصل المسيرات المناهضة لإسرائيل عن التحول إلى اضطرابات مناهضة للحكومات في الشارع العربي. ولهذا ليس تكرار سيناريو الربيع العربي مستبعداً، بحسب بلومبرغ.
وسينبع التأثير الاقتصادي العالمي في هذا السيناريو من صدمتين: الأولى هي قفزة في أسعار النفط بنسبة 10%، والثانية هي ميل لتجنب المخاطر في الأسواق المالية كما حدث أثناء الربيع العربي. وتشهد احتمالات الصدمة الثانية زيادة بمقدار 8 نقاط على مؤشر VIX، وهو مقياس تجنب المخاطر المُعتمد على نطاقٍ واسع.
وسيؤدي ذلك إلى تراجع النمو العالمي بنسبة 0.3% في العام المقبل -أي فقدان نحو 300 مليار دولار من الناتج العالمي-، ما سيُبطئ وتيرة النمو العالمي لتبلغ 2.4%. وهذا يعني أننا سنسجل أضعف مستويات النمو منذ 3 عقود، باستثناء فترة أزمة كوفيد عام 2020 والركود العالمي عام 2009.
كما أن ارتفاع أسعار النفط سيزيد التضخم العالمي بنسبة 0.2%، ليصل إلى قرابة الـ6%، مع استمرار الضغط على البنوك المركزية لمواصلة تشديد سياستها النقدية حتى في ظل النمو المخيب للآمال.
السيناريو الثالث: حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل ستؤدي لصدمة اقتصادية عالمية
تُعَدُّ احتمالات اندلاع صراع مباشر بين إيران وإسرائيل منخفضة، لكن هذا السيناريو يظل خطيراً بحسب بلومبرغ. إذ قد يؤدي تحقيقه إلى حدوث ركود على مستوى العالم. حيث سيسفر ارتفاع أسعار النفط وهبوط الأصول المخاطرة عن توجيه ضربة قوية للنمو، مع الدفع بمعدل التضخم إلى الارتفاع.
وقال حسن الحسن، زميل الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: “لا أحد في المنطقة يريد تصعيد صراع حماس مع إسرائيل إلى حرب إقليمية شاملة، بما في ذلك إيران نفسها”. لكن هذا لا يعني أن هذا السيناريو مستحيل الحدوث، وخاصة في ظل المشاعر القوية حيال الصراع حالياً. لهذا قال الحسن إن “احتمالية سوء التقدير تُعد كبيرة”.
وإذا اندلعت مواجهة بين إسرائيل وإيران؛ “فمن المرجح أن تسعى طهران لتنشيط كامل شبكة وكلائها وشركائها داخل سوريا، والعراق، واليمن، والبحرين”، بحسب الحسن. وأضاف: “ستكون لدى إيران فرصة الاختيار من قائمة طويلة من الأهداف الأمريكية الصلبة والناعمة في المنطقة”.
وسيشهد هذا السيناريو إضافة التوترات المتزايدة بين القوى العظمى إلى هذا الخليط المتقلب. حيث أن الولايات المتحدة حليفة مقربة لإسرائيل، بينما تعمق الصين وروسيا علاقاتهما مع إيران. ويقول المسؤولون الغربيون إنهم قلقون من استغلال الصين وروسيا للصراع الدائر، بهدف تشتيت الانتباه والموارد العسكرية بعيداً عن أجزاء أخرى من العالم.
وسترتفع أسعار النفط بشكلٍ جنوني؛ نظراً لأن خمس إمدادات النفط العالمية تقريباً تأتي من منطقة الخليج. وليس من المستبعد أن نشهد تكرار الضربة التي وجهها المسلحون الموالون لإيران إلى منشآت أرامكو السعودية عام 2019، والتي عطلت قرابة نصف إمدادات النفط السعودية.
ومن المحتمل ألا يتضاعف سعر الخام أربعة أضعاف كما حدث عام 1973، عندما حظرت الدول العربية تصدير النفط انتقاماً من الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل في تلك الحرب. لكن في حال تبادلت إيران وإسرائيل إطلاق الصواريخ اليوم؛ فقد تزيد أسعار النفط كما حدث بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990. وفي ظل الأسعار الحالية المرتفعة اليوم، ستؤدي زيادة الأسعار بالحجم نفسه إلى وصول سعر البرميل لـ150 دولاراً.
وربما تعجز قدرة الإنتاج الاحتياطية للسعودية والإمارات عن إنقاذ الوضع في حال قررت إيران إغلاق مضيق هرمز، الذي تمر عبره خمس إمدادات النفط العالمية كل يوم. وستشهد الأسواق العالمية ميلاً أكثر حدة لتجنب المخاطر، وذلك بدرجةٍ قد توازي القفزة التي شهدها مؤشر VIX بمقدار 16 نقطة عام 1990.
وبحساب هذه الأرقام، يتوقع نموذج خبراء الاقتصاد في Bloomberg تراجع النمو العالمي بمقدار 1% -ليصل معدل النمو إلى 1.7% فقط عام 2024.
وستؤدي صدمة اقتصادية بهذا الحجم إلى عرقلة الجهود العالمية لخفض الأسعار، ما سيترك معدل التضخم العالمي عند مستوى 6.7% خلال العام المقبل. وسيظل معدل التضخم المستهدف للاحتياطي الفيدرالي عند 2% أمراً بعيد المنال، كما ستمثل أسعار البنزين الباهظة عقبةً في طريق حملة إعادة انتخاب جو بايدن.
المسار “الأكثر سوداوية”
إن ارتفاع حصيلة القتلى يزيد احتمالية الانتقام الدموي واندلاع حرب إقليمية. لكن موازين الاحتمالات ما تزال تصب في صالح الصراع المحدود، مع تكلفة باهظة على صعيد المعاناة البشرية، وبتأثير محدود على الاقتصاد والسوق.
والأمر الوحيد المؤكد هو أن آمال بناء شرق أوسط أكثر استقراراً قد تمزقت. إذ شهدت السنوات الأخيرة إعادة التقارب بين السعودية وإيران، وإبرام اتفاقيات سلام بين إسرائيل وعدة دول عربية، ما رفع سقف التوقعات بأن المنطقة ربما تتجه لإنهاء عقود من الصراعات.
لكن المنطقة تواجه اليوم حريقاً جديداً. وربما أظهر لنا الهجوم الروسي على أوكرانيا، والحرب التجارية الأمريكية-الصينية، وتصاعد التوترات بشأن تايوان أن الجغرافيا السياسية قد عادت لصدارة المشهد كمحرك أساسي للنتائج الاقتصادية والسوقية. لكن تلك الجغرافيا السياسية لم تترك صدارة المشهد مطلقاً داخل الشرق الأوسط.