قد يتساءل البعض لماذا تستميت ألمانيا وإنجلترا وأمريكا في دعم إسرائيل؟ وقد تتعدد الإجابات؛ إذ يذهب البعض للبعد الوظيفي لدولة إسرائيل كحامية للمصالح الأمريكية والغربية، وبعضها يركز على طبيعتها الاستعمارية ووظيفتها في نزع ثروات الشرق الأوسط، وقد يتغافل عن البعد العقدي وتاريخ دعم البروتستانتية لليهود.
إذ لهذا الدعم بُعد عقدي إلى جوار الوظيفي والاقتصادي، وهو ما يعرف بالصهيونية المسيحية أو غير اليهودية، والتي كان رائدها هو مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي، وهي مسيرة طويلة من ترسيخ مفاهيم دعم اليهود وتحفيزهم على العودة إلى فلسطين.
البداية من ألمانيا: مارتن لوثر
في عام 1483م وُلد مارتن هانز لوثر في مدينة أيسليبن، وكان أبوه رجلاً صارماً فظاً، ومناهضاً لرجال الدين، وعمل بالفلاحة والتعدين، وأمه متواضعة خجولة كثيرة الصلاة، وكانا يؤمنان بكثير من الخرافات الدينية، التي تأثر بها مارتن حتى نهاية حياته، وقد عانى في نشأته من طفولة قاسية، حتى قال إن ذلك كان سبباً لالتحاقه بالدير وأن يصير راهباً.
ومبكراً في المدرسة اللاتينية، تلقى الكثير من الضرب بالعصي مع الكثير من الوعظ، وفي الثالثة عشرة انتقل إلى مدرسة ثانوية تديرها جمعية دينية، ثم في عام 1501م أرسله والده إلى الجامعة في إرفورت، حيث درس اللاهوت والفلسفة، تأثر ببعض آراء علماء الإنسانيات، إلى أن حصل على درجة الماجستير في الآداب عام 1505م، ولكنه بعد شهرين فقط قرر أن يكون راهباً، فالتحق بأحد أديرة إرفورت.
وخلال حياته الكهنوتية اطلع على آثام الكنيسة والبابوات وخطاياهم، حتى إنه لما ذهب إلى روما سجد عند مشاهدتها، ولكنه بعد ذلك قال في وصفها إنها مدينة تدعو للمقت والكره، علق ويل ديورانت على موقفه من البابوات بأنه من المحتمل أن يكون بسبب عدم تيسر دخوله في أوساط رجال الكهنوت الكبار.
إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين، وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت العشاء.
مارتن لوثر
وقد ساورته الكثير من الشكوك العقائدية، واطلع على الكتاب المقدس باللاتينية، وأخذ شيئاً فشيئاً في صياغة الأفكار التي سوف ترسم له الطريق فيما بعد، وتحديداً فكرة الخلاص عن طريق الإيمان وليس بالأعمال، خاصة بعد أن ترقى لدرجة دكتور في اللاهوت عام 1512م في جامعة فيتنبرج، وكان له كرسي تعليم الكتاب المقدس وتفسيره. وظل في هذه الجامعة يعبر فيها عن آرائه ومعتقداته بشكل واضح وصريح، ويعيش في الدير المجاور لها، حتى وفاته 1546م.
إقرأ أيضاً: مارتن لوثر الذي لا تعرفه.. أحرق رسالة البابا وحارب الكنيسة الكاثوليكية ليؤسّسَ ثاني أكبر مذهب مسيحي
صعود البروتستانت: الصراع مع الكنيسة
في عام 1517م ألف لوثر منشوراً عنوانه “بحث في بيان قوة صكوك الغفران”، وعلقه على باب الكنيسة، وكان هذا بمثابة بدء إعلان حرب على الكنيسة الكاثوليكية، وكأن الآلاف من المسيحيين كانوا ينتظرون هذه الحرب على الكنيسة.
انطلقت الحركة المضادة للكنيسة من عقالها، وانصرف الناس عن صكوك الغفران، وباءت جميع محاولات الكنيسة لاحتواء لوثر بالفشل، لاسيما من الأمراء والحكام الذين ساندوه، طامعين في الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة.
وفي عام 1520م أصدر البابا قرار الحرمان في حق لوثر وأتباعه، ولكن لوثر جمع الناس وحرق قرار البابا أمام أعينهم. وانقسم الناس إلى فريقين، فقد وافق المجلس النيابي “الدايت” على منشور الحرمان، ولكن حاكم سكسونيا قام بحماية لوثر، وأصبح أتباع لوثر يسمون بالمحتجين (the protestants).
هذه الثورة على الكنيسة التي قادها لوثر، وجاءت بفهم جديد للمسيحية أفرز ما عرف بالكنيسة البروتستانتية، من أهم مخرجاتها، أو من أهم المستفيدين منها كانوا هم اليهود.
كيف ساعد لوثر على تغيير وضع اليهود في أوروبا؟
أوضاع اليهود قبل لوثر كان تاريخ لاضطهاد طويل بسبب نظرة الكنيسة الكاثوليكية لليهود باعتبارهم قتلة المسيح، بالإضافة للوضع الاقتصادي لليهود وعملهم في الربا وبالتالي أصبحت عندهم ثروات طائلة، وبالتالي نظر إليهم على أنهم يتحكمون اقتصادياً في المجتمعات الأوروبية.
في كتابه الذي أصدره في عام 1523م “المسيح ولد يهودياً”، كان فيه من النصح للمسيحية بتحسين علاقاتهم وتعاملهم مع اليهود والتعاطف معهم. وتبريره في ذلك أن المسيح نفسه ولد يهودياً. وكان لهذا الاتجاه من لوثر تفسيراته، منها أن الهدف هو تحويل اليهود إلى المسيحية، ليعتنقوا العقيدة المسيحية ويتحولوا إلى مسيحيين مخلصين.
بينما يذهب آخرون إلى أن سبب التعاطف من لوثر تجاه اليهود هو استمالتهم في صفه لما لهم من نفوذ مالي وقدرات اقتصادية، وكان هذا دأب الكثير من رجالات السلطة والكنيسة حتى يومنا هذا. وقد استخدم مارتن قدراته الخطابية وتأثيره الطاغي على الجمهور خاصة الألماني، في تحقيق انتشار واسع لآرائه الجديدة هذه على المجتمع المسيحي تجاه اليهود.
وقد حذا حذوه حملة لواء الدعوة البروتستانتية في ربوع أوروبا، مثل زوينجلي في سويسرا، وكالفن في فرنسا، وكان لذلك أثره في تبني بعض السياسيين ذلك التوجه في تحقيق الحرية الدينية تجاه اليهود، كما في حالة كرومويل في انجلترا.
دعم البروتستانتية لليهود
دعم البروتستانتية لليهود جاء من خلال مؤسسها مارتن لوثر، إذ تضمن كتابه بعض النقاط التي ساهمت في إعادة موضعتهم في أوروبا، وساهمت في صعود اليهود، وكانت أهم تلك النقاط التي استفاد منها اليهود، أنه برَّأهم من دم المسيح، ولو بطريقة غير مباشرة، فاليهود يصلون بالمسيح بنسب مباشر، أما النصارى فهم الغرباء والأباعد إذ ينتمون إلى روما والجرمان والإغريق.
كما رفع قدرهم فوق النصارى، حيث اعتبر المسيحيين كالكلاب، لا مكان لهم إلا تحت مائدة اليهود يلتقطون منهم الفتات المتساقط. إذ يبدو أن اليهود هم السادة والنصارى العبيد، وفهم الناس بذلك أن اليهود هم شعب الله المختار لهذه السيادة، فهم إخوة الرب وأبناء الرب.
وهكذا أسهم لوثر في تهيئة المجتمعات الأوروبية للقبول بعقائد جديدة، تخالف العقائد الكنسية الكاثوليكية المستقرة بزعامة الكنيسة الأم في روما. ومن هذه العقائد اليهود شعب الله المختار، وأرض الميعاد، ومعركة آخر الزمان (هرمجدون)، والحكم الألفي السعيد للسيد المسيح وهو أن يحكم المسيح ألف عام في آخر الزمان، وهذا لا يكون إلا بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة.
لماذا ترسخت أفكار البروتستانتية حول اليهود؟
ساعد لوثر في فرض آرائه وانتشارها وخصوصاً تلك التي تتعلق بدعم البروتستانتية لليهود، وفي وقوفه أمام سلطة الكنيسة في روما عدة أمور، أهمها ظهور الطباعة، وقد أحسن استخدامها في نشر آرائه وأفكاره، وكانت كتبه وأوراقه الأكثر رواجاً بصورة لا تصدق، وكان تقريباً أربعة أخماس ما يطبع مؤيداً للإصلاح الديني.
ثانياً احتدام الصراع السياسي بين الكنيسة وكثير من الحكام والملوك، ما جعل بعض الأمراء ينضمون إلى جناح لوثر في معاداة الكنيسة. ثالثاً نهوض الفكر العلماني ومضادته للكنيسة واصطدامه معها، خاصة مع ظهور حركة الإنسانيين ثم حركة لوثر، والدعوة إلى التفسير الحرفي لنصوص الكتاب المقدس، ونزع سلطة الكنيسة على الأفراد فيما يتعلق بفهم الكتاب المقدس.
رابعاً المكان الذي انطلق لوثر في دعوته كان جامعة فيتنبرج التي كان لها مكانة علمية كبرى، وصارت المهد الأساسي للتعاليم اللوثرية، وكانت منافساً قوياً للتعليم التقليدي في السوربون، وتعتبر التعاليم التي قامت عليها هذه الجامعة هي التي ساعدت على تحول إنجلترا إلى المذهب البروتستانتي.
خامساً أدى ما عرف بالتوافق الانتقائي بين أخلاق البروتستانتية التي تحفز على العمل وعدم قبول الوضع القائم كالفقر، وتقدس مراكمة الثروة، التي توافقت مع روح الرأسمالية كما سماها ماكس فيبر، إذ انتشرت البروتستانتية في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا، وهي الدول الرائدة للرأسمالية، وبالتالي صار دعم اليهود جزءاً من ثقافة الرأسمالية. بل يصبح دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ذا بعد خلاصي توراتي، منبعه دعم البروتستانتية لليهود.
استفادة اليهود من جائزة لوثر والبروتستانتية
وعلى الرغم من أن لوثر قد انقلب على اليهود وعلى موقفه منهم في نهاية حياته، إلا أن السهم الذي أطلقه قد انطلق من غير رجعة، فقد تلقف اليهود كتاب لوثر المسيح ولد يهودياً ونشروه على أوسع نطاق، وروجوا له بقوة، واستعملوا لوثر وكتابه ضد عدوهم الكبير البابا وكنيسة روما.
كانت كنيسة روما سبب اضطهاد اليهود لقرون طويلة، حيث اعتبرت الكنيسة اليهود هم قتلة المسيح، لذلك حكم الله عليهم بالشتات والطرد من الأرض المقدسة، ولا مستقبل لهم فيها، ولا حق لهم في الرجوع إليها، وخلاصهم الروحي لا يكون إلا بالرجوع إلى المسيحية.
ووصل الأمر باحتفاء اليهود بلوثر والبروتستانتية ذروته، حيث لاقى البروتستانت في ربوع أوروبا الترحيب الحار من زعامات اليهود الدينية والمدنية، حتى إن حاخامات اليهود اعتبروا ظهور لوثر وانتشار دعوته علامة مؤكدة على قرب مجيء المسيح المنتظر.
وبذلك أعاد لوثر ومن جاء بعده من زعماء البروتستانتية المسيحيين إلى الكتاب المقدس، وجعلوا التوراة مادة رئيسة للقراءة والإيمان، وخاضعة للتفسير الديني، بل وللإيمان الشخصي، وليس توجيهات وتفسيرات الكنيسة، ومع انتشار الطباعة طبعت التوراة على نطاق واسع وبدأ الكثيرون باقتنائها في بيوتهم.
كان هذا هو الباب الذي جعل الطريق مفتوحاً لاكتشاف الجذور اليهودية للمسيحيين، أو بداية التهويد في الفكر المسيحي المخترق لدى التيارات البروتستانتية على اختلافها، وهو النمط الديني المسيطر على أروقة السياسة والاقتصاد العالمي اليوم وتحديداً في الدول الغربية، كالولايات المتحدة الأمريكية والكنيسة الأنجليكانية في إنجلترا، والبروتستانتية في ألمانيا وصولاً حتى إثيوبيا.
إقرأ أيضاً: “اطردوهم من أوروبا إلى أرض كنعان”.. ماذا تعرف عن كراهية الأوروبيين لليهود؟
كيف استفاد اليهود من حالة التسامح الديني في أوروبا لمصلحتهم؟
سرعان ما انتشرت أفكار مارتن لوثر (1483-1546م) حول التعاطف مع اليهود وقبولهم في المجتمعات المسيحية، والنصح للمسيحيين بتحسين علاقاتهم وتعاملهم مع اليهود، ودهم البروتستانتية لليهود. كانت أفكار مارتن لوثر والبروتستانتية لها كبير الأثر على أوروبا، وكانت سبباً رئيسياً في إحداث تغييرات كبرى.
إذ أدى الاحتجاج البروتستانتي للسيطرة على الصراعات والحروب الدينية والسياسية في أوروبا، وانشطار الكنيسة الأم إلى كنائس متعددة، وظهور التسامح الديني، وظهور القومية والهويات المتعددة، وغير ذلك من الآثار الكبيرة التي حلت بالساحة الأوروبية.
فقد أقام لوثر ثورة على فساد الكنيسة وتقاليدها وتعاليمها، فيما عرف بحركة الإصلاح الديني، وخاض معها صراعاً من أجل إثنائه عن آرائه، انتهت باتهامه بالهرطقة وطرده من الكنيسة الكاثوليكية، بعدها بدأت الحركة البروتستانتية في النمو والانتشار.
ثم اتسع الصدام بين البروتستانت والكاثوليك، خاصة بعد دعم بعض الأمراء والحكومات المحلية لجانب لوثر، وانتشار دعوته في ربوع أوروبا، وانضمام العديد من اللاهوتيين والزعماء الدينيين لحركة الإصلاح، وتحدي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
تحولت البروتستانتية من حركة إصلاحية داخل الكنيسة إلى حركة عقائدية مستقلة ومناهضة لها، كان لليهود فيها مكانة مرموقة، حتى علق ويل ديورانت في قصة الحضارة على بعض الإصلاحات البروتستانتية: إن في ذلك دلالة على عودة المسيحية البروتستانتية إلى تقاليدها اليهودية الأولى.
اشتعال الحروب الدينية: هولدريخ زوينجلي
كانت سويسرا مركزاً رئيسياً للإصلاح البروتستانتي، وظهر فيها العديد من قادة وزعماء البروتستانتية والإصلاح الديني، ومن أهمهم اثنان: زوينجلي وكالفن، وقد عززا دعم البروتستانتية لليهود، كما عززت العداء لهم، إذ بسبب اشتعال الحروب الدينية في أوروبا يضطهد الكاثوليك اليهود أكثر كردة فعل على النزاع مع البروتستانت.
كان هولدريخ زوينجلي (1484-1531) كاهناً كاثوليكياً، ولكنه أصبح رائداً في حركة الإصلاح، وأحد دعاة حركة الإنسانية التي بدأت مع عصر النهضة الأوربية. ولد ونشأ في سويسرا، وبدأ دعوته في زيوريخ بسويسرا، وأصبح قسيساً.
تأثَّر بآراء مارتن لوثر، ودعا إلى نفس المبادئ التي دعا إليها، ووافقه في الكثير من آرائه ومواقفه، وإن كان اختلف معه في بعض المسائل مثل رمزية العشاء الأخير، وصلت إلى حد العداء بين الطرفين وأتباعهما، بل إن لوثر اعتقد أن زوينجلي كاهن كافر.
كما اختلفا في أسلوب معارضة الكنيسة الكاثوليكية، وهذا من أهم مسائل الخلاف في القضية البروتستانتية، ووافقه عليها كالفن كما سيأتي، حيث استخدم زوينجلي القوة في سبيل نشر مبادئه، ابتداءً من الحظر التجاري الذي فرضه على بعض المقاطعات الكاثوليكية في شرقي سويسرا، إلى حصول أول الحروب بين الكاثوليكية والبروتستانتية، وهي المعركة التي وقعت في كابل أم ألبيس عام 1531، وهي المعركة التي قتل فيها هو وخمسمئة من رجاله وهم يحاصرون الكانتونات الكاثوليكية.
وهذه علاقة متوترة في تاريخ المعارضة السياسية، وهي جزء من جدلية التاريخ وحركته وقد تصل إلى مرحلة السنة الكونية، حيث نجد المعارضة عادة ما تنقسم إلى فريقين رئيسيين؛ فريق يؤثر الوسيلة الإصلاحية وفي البروتستانتية مارتن لوثر، وفريق يؤثر استعمال القوة وهم هنا زوينجلي وكالفن، اللذان أشعلا فتيل الحروب الدينية في أوروبا.
دعم البروتستانتية لليهود: جان كالفن
وُلد ونشأ جان كالفن في فرنسا، وتثقَّف بثقافة قانونية حقوقية، لكنه مال عنها إلى الدراسة اللاهوتية، فتأثَّر بآراء مارتن لوثر، ووصف بأنه التلميذ العبقري له. ذابت أفكار زونينجلي في أفكار كالفن، وانتشرت أفكار كالفن اللاهوتية من خلال كتبه ومؤلفاته ورحلاته، في تشكيل اللاهوت البروتستانتي المعروف باسم اللاهوت الكالفني، من أهم وأكبر فروع البروتستانتية.
اتهم في عيد جميع القديسيين 1533م بأنه حرر الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه نيكولاس كوب مدير جامعة السوربون بفرنسا التي كانت مركزاً لأكثر علماء الكاثوليكية، والذي يتضمن شرحاً لآراء مارتن لوثر؛ مما أغضب آباء الكنيسة عليه، فاضطرَّ إلى الهرب إلى جنيف في سويسرا.
في عام 1535م، شارك في حوار مع الأساقفة الكاثوليك، انتهى بانسحاب الكاثوليك، مما مكَّنه وأصحابه من الاستيلاء على الكنائس الرئيسية الثلاثة في المدينة، وتحويلها إلى كنائس إنجيلية أو بروتستانتية.
خالف كالفن لوثر أيضاً في سرِّ فرضية العشاء الرباني، وفي رأي لوثر في إشراف الحكومة على الكنائس؛ لما رأى ما يحدث للبروتستانت في فرنسا، وطالب بأن تحكم الكنيسة نفسها بنفسها، وعلى الحاكم المدني أن يساعدها ويحميها، مما كان سبباً في انقسام الكنيسة الإنجيلية إلى لوثرية وكالفينية (الإصلاحية – الكالفينية).
وقد تمتع كالفن في سويسرا بمستوى كبير من القوة والنفوذ، يقول المؤرخ فيرتز فيشر: “أصبحت الكالفينية أكثر أشكال الإصلاح البروتستاني اتساعاً”. تميَّزت حركة كالفن بالانتشار في فرنسا، وأصبحت الدين الرسمي في أسكتلندا، كما امتدت إلى المقاطعات شرق سويسرا، واعتنقها معظم سكان المجر.
واعتنقتها الدول الإسكندنافية (الدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا)، حيث شهدت هذه الدول الانتشار الكبير للبروتستانتية الكالفينية خلال فترة الإصلاح، وغيرها من بلدان أوروبا حتى بلغت أمريكا، ولأمريكا وإنجلترا رواية أخرى.
وكان من نتيجة ذلك أن انفصلت الكنيسة الألمانية عن الكنيسة الأم في روما، وتسمت بالكنيسة البروتستانتية، وكذلك في سويسرا على يد زونجلي، ثم انتقلت عدواها إلى إنجلترا على يد هنري الثامن (1491-1547م)، ومنها إلى فرنسا على يد كالفن، وفي سائر بلدان القارة، وهكذا بدأت نشأة الصهيونية المسيحية.
كيف دعمت البروتستانتية الكالفينية اليهود؟
تشظت الكنيسة الموحدة في أوروبا، وتعددت الكنائس في عموم أوروبا بصورة عدائية تنذر بعواقب خطيرة، وقد ظهرت حركات إصلاحية أيضاً داخل الكنيسة الأرثوذوكسية البيزنطية حركة “البوجوميل”، وصعود الدولة العثمانية ودخل الإسلام أوروبا من شرقها، مما أدى إلى اشتعال الصراع في القارة الأوروبية حتى الحرب العالمية الثانية.
استفاد اليهود من أفكار كالفن الداعية إلى وجوب العودة إلى الكتاب المقدس، والتمسك بتفسير نصوصه حرفياً، وكان ذلك الباب الذي ولج منه اليهود إلى الكالفينية، وهو في ذلك مثل أستاذه لوثر.
وقد زاد من أتباعه وداعميه من يهود أوروبا عامة وإنجلترا خاصة إقراره بمشروعية الربا، وقد كان لهذه الدعوة أعظم الوقع في نفوس اليهود في ربوع الأرض كافة بل وغير اليهود، لاسيما وأوروبا مقبلة على عصر التجارة العالمية والرأسمالية، فيما سمّاه ماكس فيبر التوافق بين أخلاق البروتسانت وروح الرأسمالية، وربما هنا بدأت تنشأ الفكرة الصهيونية غير اليهودية.
وقد ذكر ويل ديورانت في قصة الحضارة وقوع كالفن تحت التأثير اليهودي، بل أكثر من ذلك فقد زعم ليونارد يونج أن كالفن أصوله يهودية، وتحول اسمه من كوهين إلى كالفن، ثم انتقل من فرنسا إلى سويسرا، وفرق عدداً كبيراً من رجاله لبذر بذور الثورة تحت ستار الدين، وهو تفسير بسيط لسبب تطوير عقيدة دعم البروتستانتية لليهود التي بلورها كالفن.
وبالفعل شاعت الثورات في عموم أوروبا وبدأت مرحلة الصدام والحروب في الفترات اللاحقة، وأشار إلى أن ظاهر الحركة دينية، وباطنها تعتمد على الشريعة الموسوية ونظام السبت وقواعد التوراة، ونشأ بعد هذا بزمن فرق البروتستانتية بالعشرات، وكان منها من كان نصيراً للصهيونية، واليهودية العالمية.
هكذا فتحت البروتستانتية الباب على مصراعيه للمسيحيين للإقبال على الكتاب المقدس ودراسته، خاصة العهد القديم أو التوراة، فتعرفوا على تاريخ وقصص وأنبياء اليهود في فلسطين، حتى صار التاريخ الوحيد لدراسة تاريخ اليهود والشرق الأوسط في أوروبا، بما احتوى من أساطير ونبوءات وتقاليد وقوانين العبرانيين، وتم قبول جميع ذلك من قبل الإصلاح الديني، ولم يتم إخضاعه للتساؤل والنقد.
البعد الخلاصي عند المسيحية الصهيونية
كان دعم البروتستانتية لليهود اعتقاداً منهم بالدور الذي سيقومون به بعد عودتهم إلى فلسطين، بالتمهيد لنزول المسيح الثاني، وإن اختلفوا في كيفية حصول ذلك اختلافاً كبيراً، فمنهم من كان يرى شرط دخولهم المسيحية أولاً ومنهم من لم يشترط، وذلك كله وفقاً لاختلافهم الكبير في تفسير قضية الملك الألفي السعيد، ولكن على كل حال فإن عودتهم إلى فلسطين مرتبطة بالنزول الثاني للمسيح.
وكل ذلك لم يكن له وجود في الإيمان الكاثوليكي الذين يعتقدون أن اليهود كأمة قد انتهى شأنها بعد طردهم من فلسطين على أيدي البابليين، وأن قضية عودتهم إلى فلسطين هي التي حدثت على يد الملك قورش الفارسي، وأما القدس فهي عاصمة العهد الجديد.
ويعتقد الكاثوليك أن اليهود قد عوقبوا بالشتات بعد طردهم على يد تيتوس الروماني 81م، وذلك للأبد وليس لهم مكان في العالم، لا عودة لهم إلى فلسطين عقوبة على إنكارهم المسيح وعدم الإيمان به.
لذلك كان هذا الصراع الدموي بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانت، الذين جاءوا يهدمون هذا الصرح الإيماني الضارب في التاريخ، وأعادوا وضع اليهود كأمة من جديد على خارطة العالم، بعد أن كانوا منسيين لفترات تاريخية طويلة تزيد على 1500 عام.
عزز ذلك هيمنة الرأسمالية وصعودها عبر التجارة ثم الصناعة، ولذلك نجد أن عقيدة دعم اليهود وعودتهم بأي ثمن إلى فلسطين هي عقيدة بروتستانتية عند الساسة الأمريكيين، بعيداً عن شق المصالح والدور الوظيفي، له بُعد عقدي، حتى ربما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن الكاثوليكي متأثر بهذا الاعتقاد البروتستانتي لأنه أصبح عرفاً عقدياً في العقائد الرأسمالية المهيمنة.