لم يمر الصراع في فلسطين منذ تأسيس إسرائيل قبل 76 عاماً بمرحلة أكثر نضجاً للتوصل إلى حل نهائي مثلما يحدث الآن، بحسب تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية.
“تناقض شرق أوسطي”، تحت هذا العنوان نشرت فورين بوليسي تقريرها، الذي يرصد كيف أن المأساة الحالية على أرض فلسطين التاريخية تمثل أكثر “لحظة وضوح” بشأن العناصر الجوهرية الحتمية لبناء تسوية سلمية مستقبلية.
كانت إسرائيل قد شنَّت منذ عملية “طوفان الأقصى” العسكرية، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، قصفاً جوياً وبحرياً على قطاع غزة، تبعه اجتياح بري، تسبب في ارتقاء أكثر من 26 ألف شهيد، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، من نساء وأطفال، كما دمرت البنية التحتية للقطاع بشكل كامل.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” على العملية العسكرية الشاملة، التي بدأت فجر 7 أكتوبر/تشرين الأول، رداً على “الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني”، والتي تجاوزت كل الخطوط الحمراء منذ تولي أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً المسؤولية أواخر عام 2022.
حرب نتنياهو على غزة
منذ تأسيس إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948 ووقوع النكبة الفلسطينية، لم تتوقف جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني كما لم تتوقف مقاومة هذا الاحتلال بأدوات متعددة، لكن الاختلاف الجوهري بين العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة وبين ما سبقه هو أنه ما أن تتوقف الحرب هذه المرة، ستحين ساعة الحساب بشأن الصراع بشكل عام، بحسب تقرير فورين بوليسي.
وإذا كانت إسرائيل، أو المعسكر اليميني المتطرف فيها، يقف الآن متحداً خلف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة، فإنه مع أن تتوقف آلة الحرب عن الدوران، وتهدأ المشاعر الملتهبة، سيد نتنياهو نفسه في مواجهة أمواج عاتية من جميع الاتجاهات ستتسبب في غرقه سياسياً لا محالة. بل إن هذه الأمواج المنتقدة لنتنياهو والمطالبة برحيله لم تتوقف وازدادت حدة رغم استمرار الحرب.
فقد بنى نتنياهو ومجلس الحرب الإسرائيلي حساباته في شن الحرب على غزة بدافع انتقامي للهزيمة المدوية التي تعرض لها الاحتلال أمام المقاومة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ووضع أهدافاً مستحيلة التنفيذ كالقضاء على حماس وتحرير الأسرى المحتجزين في القطاع بالقوة.
بدأت إسرائيل عدوانها من خلال قصف مكثف وعشوائي وغير مسبوق، جواً وبراً وبحراً، على قطاع غزة، فيما سمته المرحلة الأولى، ثم بدأت اجتياح القطاع بريا يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهي المرحلة الثانية، التي حاولت حكومة الاحتلال إطالة أمدها قدر المستطاع، لكنها اضطرت لاحقاً لتسريح جزء من القوات العاملة في القطاع، وأعلنت الانتقال للمرحلة الثالثة.
الآن وبعد ما يقرب من 5 أشهر، بات واضحاً أن تحقيق “الحسم العسكري” أمر بعيد المنال، وأن جيش الاحتلال ليس لديه القدرة على تحقيق “أهداف الحرب” المعلنة في قطاع غزة باستثناء تدمير أسس الحياة المدنية، وهو الأمر الذي ينعكس على تعقد المشهد السياسي في ظل زيادة الضغوط الدولية والأمريكية لتغيير شكل الحرب دون وجود تصور لكيفية إنهائها.
لا يمثل هذا العدوان الإسرائيلي الانتقامي فكرة سيئة وحسب بل قفزة إلى المجهول بأهداف يستحيل تنفيذها. وحتى تعديل الأهداف مؤخراً، أي تقويض حكم حماس في غزة، ليس نتاجاً لتفكير استراتيجي مدروس وإنما رد فعل عشوائي من جانب من يفترض أنهم حراس أمن إسرائيل، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
هدف القضاء على حماس
بعد عقود من الاحتلال الإسرائيلي الخانق، كان لا بدَّ أن يحدث انفجار فلسطيني ضخم، بغض النظر عن طبيعته وأدواته، بحسب تقرير فورين بوليسي، الذي يرى أن حماس كان بمقدورها أن “تختار الاحتجاجات السلمية عند حدود القطاع كما فعلت قبل 5 سنوات، لكن التأثير الأضخم هذه المرة جاء من خلال تقويض السور الحديدي الإسرائيلي حول القطاع”.
لكن من المهم هنا التذكير بأن حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع حاولوا بشتى الطرق التصدي للاحتلال ولفت نظر دول المنطقة والعالم لما ترتكبه إسرائيل من جرائم واستفزازات بحق الفلسطينيين في القطاع المحاصر والضفة والقدس المحتلين دون أن يحرك أحد ساكناً.
فتشكيل وبرنامج حكومة نتنياهو الحالية أثار القلق في واشنطن نفسها، وحذرت وسائل الإعلام الأمريكية من خطورة الموقف في فلسطين واحتمال انفجاره في أي لحظة؛ إذ نشرت صحيفة نيويورك تايمز، أواخر يناير/كانون الثاني 2023 أي بعد شهر واحد من تشكيل تلك الحكومة، تقريراً يرصد كيف أن استفزازاتها تزيد من خطر التصعيد في فلسطين المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين في الضفة، ووضع الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة.
وحتى الآن بعد انفجار الموقف وشن الحرب على غزة، لا يزال نتنياهو يفضّل تعريض إسرائيل للخطر على تعريض حكومته للتفكك، بسبب مواصلة انقياده إلى نوازع المنتمين إلى اليمين المتطرف في الحكومة، بشأن ضم فلسطين وبناء المستوطنات، والتفوق العرقي اليهودي، وتأجيج الحروب، بحسب تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.
إذ اعتبرت الصحيفة أن هذا هو التفسير الوحيد لتجاهله المفزع للتحذيرات المتكررة من جيش الاحتلال الإسرائيلي وجهاز الأمن العام “الشاباك” بشأن مغبة اضطراب الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة. يأتي ذلك على الرغم من أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أرسلت إلى الحكومة إنذاراً لا لبس فيه، بأن على إسرائيل أن تفعل شيئاً لتخفيف الظروف الاقتصادية الآخذة في التدهور بسرعة في الضفة الغربية، كما أخبر الأمريكيون الحكومة الإسرائيلية بالرأي نفسه.
وفي السياق ذاته، يمثل ما تقوم به إسرائيل الآن في قطاع غزة من استهداف للمدنيين “خطوة على طريق تدمير الاحتلال نفسه”، وليس تدمير حماس، حيث يزيد هذا العدوان من تصميم أهل القطاع على الانضمام للمقاومة كونها السبيل الوحيد للوقوف في وجه إسرائيل، بحسب تقرير فورين بوليسي.
لا حل للصراع إلا بإقامة دولة فلسطينية
ترى فورين بوليسي في تقريرها أن إسرائيل كانت لديها خيارات أخرى قبل انفجار السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ففي ضوء مسيرة التطبيع، التي انطلقت عام 2020، تمتعت إسرائيل بعلاقات دبلوماسية مع عدد متزايد من الدول العربية، وكان بإمكانها البناء على ذلك وتوسيع اندماجها في المنطقة، إذا لم تنتهج استراتيجية تجاهل الفلسطينيين تماماً وكأنهم غير موجودين.
وهنا يكمن “التناقض” فيما يجري حالياً. فلكل هذه العوامل، أصبح ميلاد عملية سلام جديدة من تحت أنقاض الدمار الحالي أمراً أكثر قوة من أي وقت مضى، وذلك لسببين.
الأول: هو انهيار أسطورة سعت إسرائيل، وتحديدا نتنياهو، لتكريسها على مدى سنوات طويلة. هذه الأسطورة هي أن الفلسطينيين شعب مهزوم ومستسلم وأن القضية الفلسطينية باتت مهجورة ومنسية، وهي الأسطورة التي يصفها تقرير فورين بوليسي بأنها كانت دائماً “كلام فارغ وترهات يستحيل تصديقها”.
الثاني: هو الوهم أن القضية الفلسطينية يمكن إدارتها وليس حلها. بمعنى أن تفعل إسرائيل ما تشاء وتواصل تهجير الفلسطينيين وابتلاع أراضيهم دون أن يحدث شيء. الآن تحطم هذا الوهم ولا بدَّ من حل جذري للقضية الفلسطينية وإلا سيكون هناك انفجارات أخرى لن تسلم المنطقة ولا العالم بأسره من شظاياها المتطايرة.
ومن المستحيل أن يتم حل القضية بشكل جذري دون أن تنهي إسرائيل وبشكل كامل احتلالها للضفة الغربية والقدس المحتلة وحصارها على غزة حتى يتمكن الفلسطينيون من العيش بحرية وكرامة وإقامة دولتهم المستقلة، بحسب المجلة الأمريكية.
ومنذ حرب 1967، التي احتلت فيها إسرائيل باقي فلسطين، كان كل انفجار يؤدي إلى حديث عن مؤتمرات للسلام حتى وإن لم يؤدّ أي منها إلى نتيجة فعلية، من حرب 1973 حتى المبادرة العربية “الأرض مقابل السلام” عام 2002. لكن نتنياهو اخترع مفهومه الخاص “السلام مقابل السلام”، وهو الوهم الذي باعه للإسرائيليين وللعالم، حتى جاء انفجار “طوفان الأقصى” ليحطم هذا الوهم بشكل لا رجعة فيه.
وفي هذا الإطار وبالنسبة للمستقبل، لا توجد حاجة لاختراع العربة، فالسلام لا يكون إلا بين دول مستقلة وذات سيادة، وهذا هو المسار الوحيد لإنهاء الكابوس الحالي من التدمير والعنف، تقول فورين بوليسي في تقريرها.
وتوجد جميع مقومات وعناصر هذا السلام في المبادرة العربية التي دعمتها أيضاً منظمة التعاون الإسلامي، وهي مبادرة تحتاج لإعادة إحيائها وربما مراجعة بعض بنودها، إذا ما اقتضت الحاجة، على شكل سريع، وأن تكون مشفوعة بضمانات مؤكدة للفلسطينيين بأنهم سيكونون آمنين ومستقرين في أراضيهم وتحت علم دولة فلسطين المستقلة.
وربما يكون سقوط قتلى أمريكيين، في هجوم الأردن الأحد 28 يناير/كانون الثاني 2024، جرس إنذار أخير لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للنظر في أصل الصراع الجاري حالياً وعدم الانجرار إلى توسيعه، فهذا بالضبط ما يريده نتنياهو.