“عكس الحقيقة ليس الكذب وإنما السردية”.. هكذا افتتح الشاعر والأكاديمي الإيطالي باولو فاليزيو مقاله الأخير على صحيفة “إل سوسيدياريو” الإيطالية بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول الماضي والذي خصصه للحرب الدائرة في فلسطين.
وفيه يقول فاليزيو إننا بحاجة للتفكير في معنى الحقيقة بمعناها المطلق وهو ما يضعنا أمام تشكُّل دارج حوّلها إلى سردية، “فالحق مفهوم صلب، موجز، مباشر، وتصعب مراوغته”.
يقول أستاذ الأدب الإيطالي في جامعة كولومبيا الأميركية إن كل سردية هي عمل مصطنع، مليء بالمزالق، يتنقل بين “ما يقال” و”ما لايقال”، وهكذا “غدت السردية أسطورة طفولية شبه علاجية، أو خدعة سياسية أيديولوجية أخرى”.
ويتساءل الكاتب الإيطالي “ما السبيل إذن لتجنب العدمية في هذا الطرح”؟، ثم يجيبنا قائلا: “لنُعِد كلمة “حقيقة” إلى حجمها الأصغر من “الحق”، وذلك حتى نعترف بجانبها الذاتي والاستكشافي حتما؛ ولنجرب الإصغاء للحظة إلى أولئك الذين يعملون في مجال السرد، مثل الروائيين والشعراء والمفكرين ونقاد الأدب، هؤلاء المحللون غير المرئيون تقريبًا للمجتمع، يبيّنون لنا (في ممارساتهم كما في تحليلاتهم) أن تقنيات السرد في كل رواية على تعقيداتها لا توظَّف من أجل المتعة المنحرفة للكاتب والمتمثلة في تعقيد الأمور، ولكن لأنها انعكاس للحياة البشرية”.
السياسة كإعلانات تجارية
يتابع الكاتب مقتبسا عن الناقد الإيطالي جورجيو لينغواغلوسا: “مؤخرا كتب لينغواغلوسا على إحدى المدونات أن السياسة الخارجية اليوم أصبحت عبارة عن إعلانات. لذا فالخطاب الشعري الذي يريد تمثُّل مواضيع السياسة الخارجية لا يمكنه سوى تبني لغة الإعلانات”.
وهنا يتوقف فاليزيو محتجا: “يمكن للمرء أن يعترض فورا على هذا الكلام متعللا بأن الخطاب الشعري الأصيل ليس خطابًا “يتناول السياسة الخارجية” حتى يصبح تقليدا لأسلوب الإعلانات؛ إلا أن هذا الاستفزاز المفاجئ يدفعك للتفكير في الأمر برمته، خاصة في هذه الأوقات”.
ويضعنا هنا فاليزيو ومن ورائه لينغواغلوسا أمام معضلة سيولة أجناس الكتابة في حقبة ما بعد الحداثة والتي أصبحت فيها الحدود غير مرئية بين مفاهيم بديهية في ميدان العلوم الاجتماعية على غرار “المرأة” و”الرجل”، فما بالك بالحدود بين قصيدة النثر والمقال الصحفي.
وهو ما يجعلنا ندرك أننا أمام تعقيد جديد لا يشكل انعكاسا للتركيب الطبيعي للحياة الذي يسعى الحبك الروائي لمحاكاته، وإنما حالة مصطنعة من الاضطراب والتداخل في المدلولات أدى لتشوه مفهوم “الحقيقة” نفسه في حقبة ما بعد الحداثة.
هذه الحقبة التي دخلها العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي (وهناك من المؤرخين من يحددها بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001) صنعت خطابا إعلاميا تحول من نقل الوقائع إلى نقل السرديات ليس دونما تشويش وارتباك من حالة تداخل الخطابات ببعضها في ذهن المتلقي.
ومرد ذلك انصهار المفاهيم ولا يقينية المعنى بالمفهوم الذي يطرحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في النظرية التفكيكية ويشرحه كريس باركر في “معجم الدراسات الثقافية”: “لا يوجد مصدر أولي للدلالة، ولا معنى شفافا يمتلك حضورا ذاتيا، بل بالأحرى المعنى منزلق دائما تحت سلسلة من الدوالّ المخلخلة لاستقراء المدلول”.
وفي حالة السرديات المرافقة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تستوقفنا على منصة أمازون مراجعة نُشرت بتاريخ 18 نوفمبر/تشرين الثاني لكتاب صدر في طبعته الثانية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بإيطاليا عن دار فيلترينيللي الكبيرة بعنوان “حماس: من المقاومة إلى الحكم الدكتاتوري” للصحفية الإيطالية باولا كاريدي.
وتعليقا على المراجعة، قالت قارئة على منصة أمازون: “… يجب أن أعترف بأن بنية هذا الكتاب محيرة للغاية. ما سبب هذه الحاجة الملحة لتخيل كل الأحداث على الطريقة الروائية أو إدراج عناصر عاطفية أو فلسفية بالضرورة في النص. هل من شأن هذا جعل النص أكثر إثارة للاهتمام، أو ربما إظهار الكاتبة نفسها أنها واسعة المعرفة؟”.
وتضيف أن “هذا يصرف الانتباه عن هدفها الأساسي، وهو تفسير شيء ما، سواء كان أصل “حماس” أو تاريخ هذا التنظيم. بصراحة، بعد أن انتظرت بفارغ الصبر إصدار هذا العمل، أشعر بخيبة بعض الشيء. كنت أتوقع نصا واضحا وخطيا وقبل كل شيء يشرح أسباب قيام “حماس” وتطورها ونجاحها”.
وتتابع القارئة، بعد تأكيدها أنها “لم تفهم رأسها من رجليها” في الكتاب: “(…) إدراج الصور الأدبية وتوظيف اللحظات “الشعرية” والعاطفية الشبيهة تقريبا بالرواية لا تساعد القارئ”.
تململ من السردية السائدة
والحقيقة أن الإيطاليين على اختلاف مستويات التلقي لديهم بدءًا من أدباء كبار على غرار باولو فاليزيو مرورا بالقراء العاديين ووصولا إلى رواد مواقع التواصل الاجتماعي قد بدؤوا بإظهار تململ واضح من المبالغات السردية والشعرية والاقتراض الذي زاد عن حده من تقنيات الكتابة الروائية إلى التقارير الصحفية.
وتفجَّر ذلك في بداية عملية طوفان الأقصى حين نشر موقع “هافبوست إيطاليا” تقريرا عن قتلى 7 أكتوبر/تشرين الأول الإسرائيليين في حفل غلاف غزة أتى بعنوان: “أحبكِ.. آخر كلمة قالها لها قبل أن يُقتل”. لتأتي الردود على منصة فيسبوك لموقع هافبوست ساخرة من أسلوب التقرير: “ها قد بدأنا بالدراما وبوضع الموسيقى الحزينة في خلفية الفيديوهات”.
وأصبحت الكثير من المشهديات المنتشلة من الأفلام الرومانسية وغيرها من الحبكات التراجيدية الحزينة هي ما يشكل أساس الخطاب الإعلامي الخاص بالسياسة الخارجية في الغرب وحيث لم يعد يخلو أي برنامج سياسي إيطالي من “مونولوغات” انفعالية على طريقة المسرحيات الشكسبيرية يلجأ إليها الصحفي أو المعلق السياسي للدفاع عن سرديته، ما يضع أداءه في محرق التركيز على حساب الحقيقة التي يوردها.
وهنا يلفت كريغ موراي الدبلوماسي البريطاني السابق نظر المتابع في حوارٍ له مع الجزيرة مباشر إلى أن نقطة القوة لدى دفاع جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية كان تقديمها حقائق ووقائع صرفة مقابل مرافعة إسرائيل التي استندت إلى المشاعر والعواطف، “هم لا يتوقعون أن المحكمة ستصدقهم بل مرافعتهم كانت موجهة لأنصارهم وللبروباغندا”.
ويتابع موراي في تصريحاتٍ من أمام المحكمة أن: “مرافعة جنوب أفريقيا أقوى لأنها لم تستخدم صور المجاز (…) ولم يكن هدفها الصدمة أو المسرحيات أو العواطف”.
هكذا نجد فاليزيو يدعو في مقاله لوضع الأمور في نصابها داعيا صراحة لنصب مسرح بين رام الله وتل أبيب تعرض فيه مسرحية “روميو وجولييت” أو “جولييت وروميو” لن نختلف على الأمر (يقول فاليزيو، في إشارة تهكم ناعمة على النسخ المعاصرة من مسرحية شكسبير ومعها النظرية النسوية) وذلك للتعلم مباشرة وبصدق من دروس الأدب بدل تطويع تقنيات التراجيديا لخدمة أجندات سياسية.
حروب “الشو”
والحقيقة أن توظيف تقنيات “الشو” في سَوق أخبار الحروب والجرائم قد بدأ بإثارة حفيظة المتلقي الغربي في السنوات الأخيرة، وتحول إلى ثيمة سينمائية مع الممثل الإيطالي ماتشيو كاباتوندا في فيلم “جريمة قتل على الطريقة الإيطالية” (2017)، وهو فيلم كوميدي يحكي افتعال رئيس بلدية صغيرة تتكون من 16 نفرا لجريمة قتل في بلدته من أجل لفت انتباه الإعلام الوطني للبلدة وجلب السياح وإنعاش الاستثمار.
التوجه العاطفي لمسرحة المآسي البشرية وتصييرها مواد استعراضية غدا أيضا ثيمة جرت معالجتها روائيا لدى الكاتب الإيطالي سالفاتوري داما في روايته “أحيانا أبالغ” (2021) حيث وصف داما الدموع الاصطناعية وأوركسترا التصفيق المفتعل كأدوات للإعلام المعاصر، وهي كلها حركات لم تعد تستهوي المتلقي الغربي الذي ضاعت منه الحقيقة في كل هذه التفاصيل المصطنعة.
والمثير للاهتمام هو أن هذا التوجه يجد له تحديدا عند التيارات النسوية حاضنة أساسية، ليس فقط لسهولة استدعاء الدموع والعواطف في إطارها، لكن لما تكتنفه هذه النظرية الاجتماعية ومعها “نظرية الجندر” من سيولة بنيوية تجعلها قابلة للتوظيف والحشر في أي سردية.
تكريس السردية
ومن ذاك ما يُلاحظ لدى السيناتور السابق في البرلمان الإيطالي سيموني بيلون الذي يُعد من أبرز المعارضين لأيديولوجيا الجندر في إيطاليا، لكنه أيضا من أكبر مؤيدي إسرائيل، لذا فكلما زادت وتيرة القتل في غزة وانعدمت فرص التعتيم على المجازر اليومية نجده يخرج على صفحاته في منصات التواصل الاجتماعي بصور من المظاهرات الداعمة لفلسطين في إيطاليا بمشاركة جمعيات نسوية والعابرين جنسيا تلوح بأعلام المثلية الجنسية لنجد بيلون يذكر الإيطاليين أن هؤلاء غير القادرين على التمييز بين المرأة والرجل هم من يريد تعليمنا الفرق بين المعتدي والمعتدى عليه.
كل هذا في محاولة لشبك سردياتٍ متنافرة ببعضها بعضا من الطرفين (بيلون المؤيد لإسرائيل وجمعيات المثلية الجنسية المؤيدة لفلسطين) لأجل تكريس سرديتهم كل واحد من جهته عن طريق عملية خلط الأوراق وبلبلة عقل المتلقي، مستغلين الطبيعة المنزلقة للسردية بتعبير فاليزيو والتي تحتمل زج كل يوم تفاصيل جديدة بما يخدم أهداف السارد الذاتية. كل ذلك في مقابل صرامة الحقيقة، وموضوعيتها، وإيجازها ومباشرتها.
غير أن ما نلاحظه من تغير للمزاج الشعبي الغربي حيال السرديات وتنبهه لطبيعتها المراوغة والمطاطية جعلته ينتفض طلبا للحقيقة العارية أو الوقائع الصرفة بتعبير كريغ موراي، بل الحق بمعناه المطلق يقول باولو فاليزيو في مقاله مستحضرا بِيلاطُسُ من إنجيل يوحنا، الوالي الروماني الذي يعتبره نيتشه أهم صوت نقدي في “العهد الجديد” والذي وقف متسائلا أمام المسيح «ما الحَقُّ؟» وذلك بعد أن سلمه له اليهود من أجل قتله ولكنه خرج عليهم بعد حوار قصير مع المسيح قائلا: “أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً”.
سؤال بيلاطس الجوهري “مَا الحَقُّ؟” نجده يعود ليرن في أذن الغربي كلما فاضت السرديات بتفاصيل تشرد عن الحقيقة، تاركة إياه ضائعا بين تفاصيل ومنزلقات يُفترض أن يتلمس خيط الحق وسطها وبين ركام شخصيات ومشهديات لا تحصى لروايات عدمية تقوم أساسا على فكرةِ لا يقينيةِ المعنى.
كل ذلك في ظل الحظر الغربي على خطب المقاومة الفلسطينية وهي التي يحرص الناطق الإعلامي باسمها على تقديم بيانات دقيقة ومباشرة وموجزة بأسلوب خطابةٍ كلاسيكي يستدعي فيها كل مرة بذات الصلابة والثبات الحقيقة بمفهومها المطلق، متجها بها إلى “الشعب الفلسطيني وجماهير الأمة العربية والإسلامية وكل أحرار العالم” وكأنه يقول: “كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي”.