تتجه أوروبا إلى أخطر منعطفٍ لها منذ عقود، مع توسع تسلح روسيا وتعثر الهجمات المضادة الأوكرانية وسيناريو عودة ترامب للبيت الأبيض، وسط مخاوف من احتمال تفكك الناتو تدريجياً إذا تصاعدت الاتجاهات الانعزالية الأمريكية الرامية للتخلي عن دور واشنطن المركزي في الحلف.
وتتساءل الدول والجيوش الأوروبية حول ما إذا كان سيتعين عليها اجتياز هذه الأزمة دون حليفتها لنحو 80 عاماً. وليس السؤال هنا حول احتمالية تخلّي الولايات المتحدة عن أوكرانيا، بل حول احتمالية تخلّيها عن أوروبا كلها، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
إذ سيتطلب سد أوروبا للفراغ الذي سيتركه الغياب الأمريكي من أوروبا فعل ما هو أكثر من مجرد زيادة الإنفاق الدفاعي. إذ سيتعيّن عليها إعادة النظر في طبيعة قوتها العسكرية، ودور الردع النووي في الأمن الأوروبي، والتداعيات السياسية بعيدة المدى على التنظيم والهيكلة العسكرية، خاصة في حال أدت الخطوات الأمريكية إلى تفكك الناتو أو إفراغه من الدور القيادي الأمريكي.
وقد فكّرت أوروبا في لحظةٍ كهذه لسنوات طويلة. واعتنقت دولها اليوم فكرة “الاستقلال الاستراتيجي” الأوروبي التي كانت تدعو لها فرنسا وحدها في السابق. كما زاد الإنفاق الدفاعي بشكلٍ كبير الآن، بعد أن بدأ يرتفع في أعقاب الغزو الروسي الأول لأوكرانيا عام 2014.
أوروبا نمرٌ من ورق عسكرياً، وزيادة الإنفاق لن تغير هذه الحقيقة
إنفاق أوروبا الدفاعي لا يزيد قوتها القتالية إلا قليلاً وعلى نحوٍ غير مكافئ، كما أن قواتها المسلحة المجتمعة أصغر من مجموع أجزائها. ولا تزال القارة على بعد سنوات من أن تكون قادرةً على الدفاع عن نفسها أمام هجوم من قوات روسية أُعيد تشكيلها، والتي قد تظهر بدورها في أواخر عشرينيات القرن الجاري، خاصة إذا تحقق سيناريو تفكك الناتو.
وفي قمة العام الماضي، وافق زعماء الناتو على أولى خطط الدفاع الوطني الشاملة منذ الحرب الباردة. وقال مسؤولو التحالف إن تلك الخطط ستتطلب زيادةً بمقدار الثلث تقريباً في أهداف الإنفاق على تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية الحالية (التي لم تتحقق بعد).
لكن زيادة المال لن تكون كافية. إذ تكافح كافة الجيوش الأوروبية تقريباً من أجل بلوغ أهداف التجنيد الخاصة بها، كما هو الحال في الولايات المتحدة. علاوةً على أن زيادة الإنفاق بعد عام 2014 لم تحقق سوى نموٍّ ضئيل بدرجةٍ مقلقة على صعيد القدرات القتالية. حيث كشف بحث أجراه مركز أبحاث International Institute of Strategic Studies في لندن مؤخراً أن عدد الكتائب القتالية لم يزد تقريباً منذ عام 2015 (حيث أضافت فرنسا وألمانيا كتيبة واحدة فقط)، أو انخفض في بعض الحالات -بمقدار خمس كتائب في بريطانيا. وخلال مؤتمرٍ العام الماضي، أعرب جنرال أمريكي عن أسفه لأن غالبية الدول الأوروبية ليس بمقدورها سوى نشر لواءٍ واحد فقط بكامل قوته (وهو تشكيل يضم بضعة آلاف مقاتل).
ليست لأوروبا قيادة عسكرية موحدة، وجيوشها تعوزها العديد من المهارات
وحتى عندما تنجح أوروبا في تشكيل قوات قتالية، فسنجد أنها تفتقر إلى الأشياء اللازمة للقتال بفعالية ولفترةٍ طويلة بما يكفي. وتشمل تلك الأشياء قدرات القيادة والتحكم عبر امتلاك ضباط أركان مدربين على إدارة مراكز القيادة الكبيرة، وقدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع عبر المسيّرات والأقمار الصناعية، والقدرات اللوجستية عبر الإبرار الجوي، وكذلك الذخائر اللازمة لمواصلة القتال لأكثر من أسبوع واحد تقريباً.
ويقول مايكل كوفمان، الخبير العسكري: “تُتقن الجيوش الأوروبية تأدية الأشياء التي تعرف كيفية فعلها. لكنها لا تعرف كيفية فعل الكثير من تلك الأشياء، ولا تستطيع فعلها لفترةٍ طويلة للغاية، كما أنها مصممة للمشاركة في المرحلة الأولية من حرب تقودها الولايات المتحدة”.
لهذه الأسباب كبار الدول الأوروبية تتصارع حول مشروعات تطوير الأسلحة المشتركة
وسيتمثل أحد الخيارات في تجميع الأوروبيين لمواردهم. إذ تتعاون مجموعة من 12 دولةً أوروبية مثلاً من أجل شراء وتشغيل أسطول مكون من ثلاث طائرات شحن طويلة المدى، وذلك على مدار الـ16 عاماً الماضية.
لكن الدول ذات الصناعات الدفاعية الكبيرة -فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا- تُخفق عادةً في الاتفاق على كيفية تقسيم العقود بين صناع الأسلحة الوطنيين، علاوةً على المفاضلة بين سد الثغرات سريعاً وبين بناء صناع الدفاع الخاصة بالقارة.
ويُعد هذا التحدي المزدوج، المتمثل في بناء القدرات العسكرية مع تنشيط عملية إنتاج الأسلحة، تحدياً هائلاً. إذ قال جان جويل أندرسون من مركز أبحاث Institute for Security Studies في ورقة بحثية حديثة إن الدول الأوروبية تكون لديها أولويات تصميم مختلفة عادة. حيث تريد فرنسا مقاتلات قابلة للعمل على حاملات الطائرات ومركبات مدرعة أخف، بينما تفضل ألمانيا الصواريخ الاعتراضية بعيدة المدى والدبابات الأثقل. وقد فشل التعاون الأوروبي المشترك في مجال الدبابات باستمرار وفقاً لأندرسون، كما أن إقامة جهد فرنسي ألماني مستمر هو أمر مشكوك في نجاحه.
علاوةً على أن حجم التغييرات اللازمة يثير مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية أوسع. إذ لن يكون بالإمكان تحمّل تكاليف النهضة العسكرية الألمانية مثلاً دون خفض أوجه إنفاق البلاد الأخرى، وهو الأمر الذي سيتطلب تغييراً دستورياً.
ويثير نقص القوة البشرية الأوروبية نقاشات مهمة بالقدر نفسه. إذ قال رئيس الأركان البريطاني الجنرال السير باتريك ساندرز، في يناير/كانون الثاني، إن تحضير المجتمعات الغربية للحرب سيكون “مهمةً تشمل الأمة بالكامل”. وتدرس العديد من الدول الغربية حالياً نماذج “الدفاع الشامل” المتبعة في السويد وفنلندا وغيرهما من دول شمال أوروبا، والتي تركز على الدفاع المدني والجاهزية الوطنية.
ماذا ستفعل أوروبا إذا غابت المظلة النووية الأمريكية؟
إن القدرة التي سيمثل تعويضها في أوروبا المهمة الأصعب هي تلك القدرة التي يأمل الجميع ألا تحتاجها أوروبا مطلقاً. إذ إن الولايات المتحدة ملتزمة باستخدام أسلحتها النووية للدفاع عن حلفائها الأوروبيين. وقد أدت تلك الأسلحة دور الضامن النهائي لعدم وقوع غزو روسي. لكن الرئيس الأمريكي الذي رفض المخاطرة بالجنود الأمريكيين للدفاع عن حليف أوروبي لن يخاطر -على الأرجح- بدخول المدن الأمريكية في تبادل إطلاق صواريخ نووية.
وخلال ولاية ترامب الأولى، أعاد هذا الخوف إحياء جدل قديم حول الكيفية التي قد تعوض بها أوروبا فقدان مظلة الحماية الأمريكية. حيث تمتلك بريطانيا وفرنسا أسلحةً نووية، لكن مجموع أسلحتهما يساوي 500 رأس حربي فقط، وذلك مقارنةً بـ5.000 رأس حربي في حيازة الولايات المتحدة ونحو 6.000 في حيازة روسيا. ولا يشكل هذا الأمر فارقاً بالنسبة لأنصار “الحد الأدنى” من الردع، لأنهم يعتقدون أن بضع مئات من الرؤوس الحربية -الكافية لمحو موسكو وبضع مدن- ستثني بوتين عن دخول أي مغامرة متهورة. بينما يرى المحللون الأكثر تشاؤماً أن عدم التكافؤ لهذه الدرجة، ومقدار الدمار غير المتناسب الذي ستعانيه بريطانيا وفرنسا، يمنحان الأفضلية لبوتين.
واليوم، لم تعد فكرة “مشاركة” بريطانيا وفرنسا في قرار استخدام الأسلحة النووية فكرةً مقبولة بحسب دراسةٍ حديثة للخبير الفرنسي برونو تيرتريه، الذي يشارك في هذا الجدل منذ عقود. ومن المستبعد كذلك أن تنضم فرنسا إلى مجموعة الناتو للتخطيط النووي أو أن تضع قواتها النووية الجوية تحت إمرة الناتو.
لكن أحد الخيارات قد يتمثل في تأكيد البلدين بحزمٍ أكبر على أن أسلحتهما الرادعة ستحمي الحلفاء -أو أنها قد تفعل ذلك على أقل تقدير. وفي عام 2020، صرّح ماكرون بأن “مصالح فرنسا الحيوية” -التي قد تفكر في استخدام الأسلحة النووية لحمايتها- “أصبحت تتمتع الآن ببعد أوروبي”. كما عرض إقامة “حوار استراتيجي” مع الحلفاء في هذا الموضوع، ثم أكّد على موقفه هذا في العام الماضي.
بينما يتمثل بيت القصيد في كيفية إضافة المصداقية إلى تلك التصريحات. إذ إن المسألة الحاسمة في قضية الردع هي كيفية إقناع الخصوم -والحلفاء- بأن هذا الالتزام حقيقي، وليس مجرد بادرة دبلوماسية رخيصة سيتم التخلي عنها في مواجهة المخاطر المروعة.
لكن المسألة النووية، التي تشمل تساؤلات أعمق حول السيادة والهوية والنجاة الوطنية، تشير إلى الفراغ الذي ستتركه أمريكا عندما تهجر أوروبا. إذ أعلنها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عام 1994 قائلاً: “ستكون هناك عقيدة نووية أوروبية وردع أوروبي عندما تصبح لدينا مصالح أوروبية حيوية، وعندما يعتبرها الأوروبيون كذلك، وعندما يفهمها الآخرون على هذا النحو. وما نزال بعيدين للغاية عن تحقيق ذلك”. ومن المؤكد أن الشكوك التي دفعت فرنسا لتطوير قواتها النووية الخاصة في الخمسينيات -مثل سؤال “هل سيضحي الرئيس الأمريكي بنيويورك من أجل باريس؟”- تكرر نفسها داخل أوروبا اليوم: فهل سيخاطر ماكرون بتولوز من أجل تالين؟
ولا شك أن المسألة الواضحة المتمثلة في القيادة والتحكم العسكري تدفع بمثل هذه القضايا إلى الواجهة. وإذا انسحب ترامب من الناتو ذات يوم، فسوف يتعين على الأوروبيين تقرير كيفية تأديتهم لهذا الدور.
هل يتم تشكيل قوة عسكرية للاتحاد الأوروبي بدل الناتو؟
ولن ينجح خيار “التركيز على عسكرة الاتحاد الأوروبي” وفقاً لدانييل فيوت من مركز أبحاث Elcano Royal Institute الإسباني.
ويرجع هذا جزئياً إلى أن مقار القيادة العسكرية الخاصة بالاتحاد الأوروبي لا تزال صغيرة، وعديمة الخبرة، وعاجزةً عن الإشراف على حرب عالية الحدة. ويرجع السبب كذلك إلى أن هذا الخيار لم يشمل بريطانيا، التي تعد الدولة الأكثر إنفاقاً على الدفاع في أوروبا، وكذلك دول الناتو الأخرى من خارج الاتحاد الأوروبي مثل كندا والنرويج وتركيا.
وسيتمثل الحل البديل في أن يرث الأوروبيون هياكل الناتو المتبقية ويحافظوا على بقاء التحالف من دون أمريكا. لكن “الوحيدين الذين يمكنهم إرسال ضباط قادرين على تخطيط عمليات على مستوى الفرق والفيالق هم الفرنسيون، والبريطانيون، وربما الألمان في الظروف الجيدة” من بين سائر الدول الأوروبية، وهذا هو ما قد تحتاجه أوروبا تحديداً في مواجهة هجوم روسي خطير.
وتُعد مسألة القيادة مسألةً سِياسيةً في جوهرها رغم ذلك. إذ يشك فيوت في أن الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي ستتفق على شخصيةٍ تعادل القائد الأعلى للحلفاء في أوروبا، الذي يُعتبر أكبر جنرالات التحالف ويكون أمريكي الجنسية بحسب العرف. وهذا يلُخص كيف أدت الهيمنة الأمريكية في أوروبا إلى قمع النزاعات الأوروبية طيلة عقود، ويتضح هذا من القول المأثور في زمن الحرب الباردة حول أن الغرض من الناتو هو “إبقاء الأمريكيين في أوروبا، وإبعاد الروس عنها، والسيطرة على الألمان”.
هل يجب على أوروبا الاستعداد لـ”تفكك الناتو”؟
من المحتمل بكل تأكيد أن تكون الصدمة التي سيتعرض لها الأمن الأوروبي أقل مما يخشاه الأوروبيون. لكن الجدل الحاد لا يزال قائماً الآن حول مدى التحوط اللازم في أوروبا ضد تخلّي الولايات المتحدة عنها.
ويرد أنصار الاكتفاء الذاتي الأوروبي بأن بناء “ركيزة أوروبية” داخل حلف الناتو يخدم ثلاثة أغراض. إذ سيقوي الناتو أثناء بقاء أمريكا كجزءٍ منه، وسيُظهر أن أوروبا ملتزمة بتشارك أعباء الدفاع المشترك، وسيضع حجر الأساس اللازم في حال تفكك الناتو مستقبلاً.
وسيكون الإنفاق الدفاعي الأكبر، وإنتاج المزيد من الأسلحة، وزيادة القوات ذات القدرة القتالية أمراً ضرورياً حتى لو ظلت أمريكا داخل التحالف وبموجب خطط الحرب الحالية. علاوةً على أن أكثر الرؤساء حباً لأوروبا قد يضطرون لإرسال قواتهم خارج القارة، وذلك في حال انجراف أمريكا نحو حرب كبرى في آسيا على سبيل المثال.
ومن المحتمل أن المسائل الصعبة المتعلقة بالقيادة والتحكم، وتداعياتها على القيادة السياسية، ستظل قائمة. وفي أسوأ السيناريوهات المتمثلة في خروج أمريكا الكامل من الناتو، (بما يعني عملياً تفكك الناتو) فستكون هناك حاجة إلى حل “فوضوي” بحسب فيوت، وربما يكون ذلك الحل الفوضوي هو الذي سيجعل المؤسسات الأوروبية ذات المهام المتداخلة أكثر انسجاماً.
وقد أشار فيوت إلى بعض الخيارات الجذرية في هذا الصدد، مثل منح الاتحاد الأوروبي مقعده الخاص في مجلس شمال الأطلسي، أو حتى دمج منصبي الأمين العام للناتو مع رئيس المفوضية الأوروبية، (في حال تفكك الناتو بصيغته الحالية بخروج أمريكا) وقد تبدو تلك الأفكار وكأنها من عالمٍ آخر حتى الآن، لكنها تزداد قرباً من عالمنا اليوم مع مرور كل أسبوع.
ولكن إحدى المشكلات التي لم تشِر لها المجلة البريطانية، هو أن كل خيارات أوروبا في حال تفكك الناتو أو إضعافه تعطي فرنسا دوراً مركزياً باعتبارها أقوى دولة في الاتحاد الأوروبي، والوحيدة التي لديها أسلحة نووية فيه، ولكن المفارقة أن أهداف باريس العسكرية لا تبدو منسجمة مع الدول الأكثر عرضة للخطر في أوروبا وهي أوروبا الشرقية وألمانيا والتي كانت دوماً تخشى غزواً روسياً، لأن فرنسا بعيدة كثيراً عن موسكو، وكانت دوماً الأكثر قرباً لها وليونة وظل هذا واضحاً حتى بداية حرب أوكرانيا، إذ إن المجال الحيوي للنفوذ الفرنسي هو البحر المتوسط والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغرب أفريقيا، كما أن فرنسا عادة ما تصر على قيادة أي مشروع صناعي عسكري أوروبي، (أدى ذلك عادة لخروجها من أغلب المشروعات المقترحة) كما تتحفظ على مشاركة التكنولوجيا مع شركائها حتى الأقرب فيهم وهم الألمان.