يعيشون على هامش الحياة المصرية بين العزلة والترحال، تحكمهم عادات وتقاليد خاصة بهم، لا أحد يعرف أعدادهم على وجه الدقة، لكنهم استطاعوا أن يطوروا من أنفسهم عبر السنين الماضية واحترفوا مهناً عابرة، ثم بدأوا مؤخرا في الاندماج بالمجتمع وإن كانوا لم يستطيعوا أن يغيروا نظرة الناس لهم.
إنهم الغجر، صناع البهجة الشعبية في الثقافة المصرية بالرقص والغناء. فمن هم هؤلاء الغجر؟ وما هو دورهم في الثقافة المصرية؟ وأين يعشون ويتجمعون؟
أسطورة الترحال
فرضت الحياة في مصر على الغجر العزلة والترحال، ويرجع ذلك إلى نظرة المجتمع إليهم، لذلك يعيشون دائماً في مجموعات صغيرة على أطراف المدن والقرى، ويتنقلون من مكانٍ إلى آخر، بحثاً عن فرص العمل أو هرباً من شيء ما.
تقول أساطير تاريخهم إن حكام البلاد في الوقت الذي دخل الغجر فيه إلى مصر، كانوا يفرضون نوعاً من الضريبة عليهم اسمها “ضريبة الرؤوس”. وللهرب من دفع هذه الضريبة، كان الغجر يعيشون على أطراف المدن والقرى ويتنقلون بينها حتى لا يقعوا في أيدي رجال السلطة.
وبحسب الأستاذ المساعد للأدب الشعبي في جامعة القاهرة د. خالد أبو الليل، فإن الغجر في مصر ينتمون إلى مجموعة “الدومر”، إحدى المجموعتين الأساسيتين اللتين تشكلان مجتمعات الغجر على مستوى العالم، والثانية هي “الرومن”.
وفي مصر، ينقسم غجر “الدومر” إلى مجموعات عرقية أخرى هي “النَور” أو “الحلب” أو “المساليب”، وجميعها مفردات تشير إلى جماعة إثنية تتبع نسقاً من العادات والتقاليد تجعلها أشبه بمنظومة مرتبطة فيما بينها وبين أي جماعة غجرية في الوطن العربي وأفريقيا، بالإضافة إلى اللغة الخاصة بهم.
ولم يعرف حتى الآن على وجه الدقة التاريخ الذي قدم فيه الغجر إلى مصر، فالبعض يشير إلى منتصف القرن الـ 16، فيما يرجح البعض أنهم أتوا إليها مع بداية حكم محمد علي باشا (1805-1848)، بينما توجد دلائل تشير إلى احتمال وجود الغجر في مصر في القرن الـ 13 الميلادي، ففي ذلك الوقت كان يعيش في مصر الشاعر محمد بن دانيال الذي كتب مسرحية “خيال الظل” وأشار فيها إلى شخصية غجرية.
الزواج في الثقافة الغجرية
يوضح د. أبو الليل لـ “عربي بوست” أن أبناء الغجر لا يتزوجون من خارج دوائرهم، إذ يمثل زواج الأقارب لديهم قاعدةً صارمةً لا يمكن تجاوزها.
ورغم اقتراب الغجر من واقع الحياة في مصر والاندماج النسبي في تفاصيل هذه الحياة، لم يستطع الغجر كسر حلقة الزواج العائلي، ويرجع ذلك إلى التزامهم بتقاليدهم من ناحية، وإلى عدم رغبة المواطن المصري في الزواج من غجرية.
وعادةً ما يتم الزواج عند الغجر في سنٍ مبكرةٍ جداً، ويمتاز بطابعٍ خاص، حيث يرسل الغجري في بادئ الأمر ربطة عنقه أو “الشال” الخاص به إلى الغجرية التي يرغب في الزواج منها، فإذا ارتدتها فهذا يعني أنها قبلت بالزواج منه، ويعد الطلاق أمراً نادر الحدوث بين الغجر.
كما أن تعدد الزوجات أمرٌ مسلمٌ به، فيتزوج بعض الغجر من زوجتين وربما من ثلاث يقمن بالعمل والإنفاق على الرجل في كثير من الأحيان.
مصدر البهجة والسعادة
“لعب المجتمع الغجري دوراً مهماً في الحفاظ على الموروث الشعبي من الضياع في مصر، خصوصاً من خلال السيرة الهلالية، إذ تربط بعض الدراسات بين الغجر والزير سالم بطل السيرة الهلالية التي شكلت وجدان المصريين لفترات طويلة من الزمن، ولا تزال تلقى رواجاً شعبياً عريضاً” بحسب د. أبو الليل.
ويضيف، “يقال إن الغجر هم من أبناء جساس ابن عم الزير سالم في الأسطورة الشعبية، ومن هنا جاء اسمهم الأجنبي (جيبسيس)، ولكن هذه الأمر لا يمكن الوثوق به، ولكن ما يمكن الاستناد إليه أن الغجر لعبوا دوراً في حفظ قصص السيرة حيث تفننوا في روايتها بالغناء الشعبي الذي برعوا فيه، إلى جانب الرقصات الشعبية والألعاب الشعبية، والتي تعد جميعها مصدر بهجةٍ وسعادةٍ في حياة المجتمع المصري”.
يؤكد الأستاذ المساعد للأدب الشعبي في جامعة القاهرة، “لولا الغجر لضاعت السيرة الهلالية التي تفننوا فيها، فهي جزء من هوية الثقافة المصرية، ويرجع ذلك إلى أنها كانت مورد رزق لهم، لذلك تجد أن معظم رواة هذه السيرة من الغجر، والتي تأتي على شكل غنائي احترافي مذهل، تجعل الناس ترحل إليهم لسماع قصص السيرة منهم”.
د. أبو الليل يقول أن “جزءاً كبيراً من الأغاني الشعبية الموروثة يعود الفضل في حفظها إلى الغجر وخاصة النساء، حيث كن يذهبن إلى الفلاحين في الأراضى الزراعية للغناء لهم مقابل القليل من المال”.
كما كن نساء الغجر يحترفن الرقص في الأفراح والليالي الشعبية، لذلك أطلق المصريون على الراقصات الغجريات اسم “الغوازي”.
يصعب حصرهم
ويصعب حصر أعداد الغجر في مصر في الوقت الراهن، وإن كانت بعض الدراسات تشير إلى أرقام تقريبية يصعب التأكد منها. إذ تقدر بعد الإحصاءات عدد غجر النور في محافظة الشرقية بحوالي ألف نسمة في الوقت الحالي.
وتأتي صعوبة تعداد الغجر إلى أنهم غير مسجلين في دفاتر المواليد في مصر، وما زال الكثير منهم يعيشون الحياة الغجرية الأولى، حيث لا توجد لهم شهادات ميلاد رسمية ولا بطاقات هوية، أما المسجل منهم فلا تعرف الدولة إن كان غجرياً أم لا.
كما انخرط بعض الغجر في الحياة المدنية، لكنهم يخشون ذكر أصولهم مخافةً من نظرة المجتمع، خصوصاً أن الغجر القاطنين في المدن، باتوا يسمحون لأبنائهم بالتعليم على العكس من أسلافهم القدماء، ما سمح لهم بالانخراط في النسيج الاجتماعي للبلاد، فابتعد بعضهم عن العادات والتقاليد الخاصة، لكن ذلك لا يمنع أن بعض الغجر ما زالوا يتحدثون فيما بينهم بلغتهم الخاصة للحفاظ عليها، ولتقوية وتدعيم نسيجهم الاجتماعي وحفظ مورثوهم الشعبي.
ويمكن حصر أماكن تواجدهم في حوش الغجر بسور مجرى العيون في حي مصر القديمة بالقاهرة، وفي حي المقطم وأبو النمرس وحي منشية ناصر العشوائي الملاصق للمقطم في العاصمة المصرية.
كما يتواجدون في حي غبريال بمدينة الإسكندرية، وقرى طهواي بمحافظة الدقهلية التي يقال أن بها حوالي خمسة آلاف غجري، وكفر الغجر بالشرقية الذي يوجد به آلاف الغجر، إلى جانب قرية سنباط.
ويقدر البعض أرقام الغجر في مصر بين نصف الميون والمليون نسمة.
الغناء والرقص الشعبي
“أبين زين وأضرب الوداع”، ذلك الهتاف لا يخرج إلا من غجرية، فقد احترفن قراءة الكف والطالع منذ القدم، كما احترفن الرقص والغناء ورسم الوشوم على الأجساد.
أما الرجال منهم فيحترفون أعمال الحواة في الموالد الشعبية، وصناعة المناخل من شعر الخيل ومن تعوزه الحاجة منهم يضطر إلى التسول لكسب قوته.
حبهم للغناء والموروث الثقافي، جعل بعضهم من المشاهير الذين يبحث عنهم الناس دائماً ويحبون الاستماع إلى أصواتهم، مثل الريس شمندي، وخضرة محمد خضر التي كانت من أشهر المغنيات الشعبيات في مصر، وهناك المغني الشعبي الريس متقال الذي يعده الكثيرون أشهر الغجر في مصر، وهذا لتميزه في الغناء على آلة الربابة.