رفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة 6%، وأعلن أنه سيسمح بأن يتحدد سعر صرف الجنيه مقابل الدولار “وفقاً لآليات السوق”، فماذا يعني ذلك؟
كانت لجنة السياسات النقدية قد عقدت، الأربعاء 6 مارس/آذار 2024، اجتماعاً استثنائياً، اتخذت خلاله جملة من القرارات التي كانت منتظرة في مصر على نطاق واسع خلال الأسابيع القليلة الماضية، وجميعها تتعلق بشكل رئيسي بقيمة العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي.
قرارات البنك المركزي المصري
اتخذت لجنة السياسات النقدية عدداً من القرارات، وجاءت على النحو التالي:
– رفع أسعار الفائدة بنسبة 600 نقطة أساس (أي 6%)، ليرتفع سعر الفائدة الأساسية إلى 28.25%.
– السماح للبنوك بتحديد سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري “وفقاً لآليات السوق”.
وأكد البنك المركزي في بيانه على “التزامه بالحفاظ على استقرار الأسعار على المدى المتوسط، في إطار الحرص على تحقيق الدور المنوط به بحماية متطلبات التنمية المستدامة. وتحقيقاً لذلك يلتزم البنك المركزي بمواصلة جهوده للتحول نحو إطار مرن لاستهداف التضخم، وذلك من خلال الاستمرار في استهداف التضخم كمرتكز اسمي للسياسة النقدية، مع السماح لسعر الصرف أن يتحدد وفقاً لآليات السوق”.
وفي القلب من هذه الأهداف “يعتبر توحيد سعر الصرف إجراءً بالغ الأهمية، حيث يُسهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمية والموازية”.
ماذا يعني سعر الصرف “وفقاً لآليات السوق”؟
أهم ما يشغل بال المصريين في هذه الفترة هو سعر الدولار، لأن جميع ما يشترونه من سلع بات مرتبطاً بسعر العملة الخضراء بشكل مباشر، وبالتالي فإن السؤال الذي يتردد على لسان الجميع الآن: إلى أين يتجه سعر الدولار؟
بشكل مباشر، ارتفع السعر الرسمي للدولار مقابل الجنيه بمجرد الإعلان عن تلك القرارات، ليقفز من متوسط 30 جنيهاً إلى ما فوق 50 جنيهاً، وذلك خلال ساعات قليلة، وهو أمر كان متوقعاً.
أما لماذا كان هذا الارتفاع في السعر الرسمي للدولار متوقعاً، فذلك لأن سعر الرسمي كان ثابتاً منذ أكثر من عام، بينما وصل السعر في السوق الموازي أو السوق السوداء إلى أكثر من 70 جنيهاً خلال أواخر يناير/كانون الثاني الماضي.
ويستخدم المصريون مصطلح “التعويم” للإشارة إلى تحرير أو تحريك سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار، ولكل من هذه المصطلحات معان وتفسيرات اقتصادية. فالتعويم يقصد به تخفيض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، والمصطلح العلمي أو الأكاديمي الذي يستخدمه خبراء الاقتصاد هو “تحرير سعر الصرف”.
أما تحديد سعر الصرف “وفقاً لآليات السوق” فالمقصود به هو ترك مسألة تسعير العملة المحلية للعرض والطلب، دون أي تدخل من جانب الحكومة ممثلة في البنك المركزي. أي أن يقوم كل بنك بتحديد سعر الصرف بناء على المعطيات المتوفرة لديه. على سبيل المثال، مطلوب من هذا البنك توفير 5 ملايين دولار اليوم لعملائه، فيرفع سعر شراء الدولار لإغراء العملاء الذين لديهم دولارات ببيعها لهذا البنك دون غيره من البنوك. أما إذا كان البنك نفسه، في اليوم التالي، لديه سيولة دولارية تزيد عن طلبات عملائه، فيقوم بتخفيض سعر شراء الدولار وهكذا.
وهذا هو تقريباً ما يقصد بمصطلح تعويم الجنيه، الذي بات متداولاً بين المصريين على نطاق واسع خلال السنوات الأخيرة. أي أن البنك المركزي لا يقوم بتحديد سعر العملة الأمريكية مقابل العملة المحلية، بل يترك العرض والطلب على الدولار بسوق العملات الأجنبية، فهو من يحدد سعر العملة من تلقاء نفسه، لا أن يكون ذلك بقرار إداري، ويعني ذلك أن من حق المواطنين الحصول على الدولار بهذا السعر من مصادره الرسمية، وفقاً لضوابط معقولة، وألا يتدخل البنك المركزي في تحديد سعر الصرف إلا للضرورات، وعادةً عبر آليات السياسة النقدية المعروفة؛ مثل تغيير أسعار الفائدة، وكذلك تغيير نسب الاحتياط في المصارف، بهدف التحكم بالسيولة في الأسواق.
هل تم “تعويم” الجنيه المصري إذاً؟
من المبكر تقديم إجابة حاسمة عن هذا السؤال الآن، ويرى الدكتور أحمد ذكر الله، الباحث في الشأن الاقتصادي، أنه “من المؤكد أن ما حدث ليس تعويماً كاملاً. فاليد الطولى في تحديد سعر الصرف لا تزال وستظل في المستقبل في يد البنك المركزي والحكومة المصرية”.
وأضاف ذكر الله لموقع “عربي بوست” أن هذا ما حدث في قرض صندوق النقد الدولي عام 2016، وهو ما استمر يحدث حتى الآن. “الحكومة تحاول باستماتة أن تتحكم في سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، وبالتالي فإن ما يحدث هو تخفيض مدار لقيمة الجنيه المصري”.
وحدث هذا التخفيض المدار للجنيه اليوم، بحسب الباحث في الشأن الاقتصادي، نتيجة لعدد من العوامل، أهمها تنفيذ اشتراطات صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على ما تبقى من القرض الذي تم الاتفاق عليه قبل عامين، وتسلمت مصر الدفعة الأولى منه فقط، وهناك دفعات أخرى متلاحقة كان من المفترض تسلمها لكنها توقفت.
“وبالتالي الحكومة تحاول أن تلتزم بما تم الاتفاق عليه في القرض السابق. وهناك أيضاً حديث عن قرب الاتفاق على قرض جديد بقيمة يقال أو يتم الترويج له على أن قيمته تتراوح بين 15 و20 مليار دولار. لا أحد يعرف الحقيقة، ولا أحد يعرف قيمة القرض الجديد، لكن إرهاصاته ومقدماته جاءت في شكل هذا الخفض الجديد في قيمة الجنيه”، كما يرى ذكرالله.
إلى أين يتجه سعر الدولار في مصر؟
الحقيقة أن إجابة هذا السؤال تتوقف على عدد من العوامل لا أحد يمكنه الجزم بها. يقول ذكر الله: “على سبيل المثال، أعلنت الحكومة المصرية أنها أبرمت اتفاق رأس الحكمة مع الإمارات، وأن هذا الاتفاق سيدر 35 مليار دولار، منها 11 ملياراً موجودة بالفعل لدى البنك المركزي في صورة ودائع، و24 مليار دولار نقداً ستدخل إلى الاقتصاد المصري.
“هناك أيضاً إعلانات عن مشاريع جديدة، هذا بخلاف قرض صندوق النقد الدولي، وكلها أمور مبهمة ولا يدري أحد عنها شيئاً. ما أريد قوله باختصار هو أن موضوع قيمة الجنيه سيتحدد على ضوء نجاح الحكومة المصرية في جذب موارد دولارية في الأجل القصير، سواء عن طريق قروض جديدة أو دفعات استثمار أجنبي مباشر تضخ كميات كبيرة من الدولارات في الاقتصاد المصري.
“إذا نجحت الحكومة المصرية في ذلك يمكن أن يتقارب السعر الموازي مع السعر الرسمي للدولار، لكن دعونا لا نكون مفرطين في التفاؤل. فمن الواضح أن الحكومة المصرية تستطيع أن تتحكم في السوق الموازية كما تتحكم في السعر الرسمي، بدليل أن السعر في السوق الموازية لم يرتفع عن متوسط 45 جنيهاً مقابل الدولار اليوم قبيل إعلان القرارات الجديدة. الأمور كلها تحت سيطرة الحكومة بشرط أن تستطيع جذب المزيد من الموارد الدولارية التي تستطيع من خلالها الموازنة بين العرض والطلب”.
ارتفاع سعر الدولار وجنون الأسعار
كانت الحكومة المصرية قد أقدمت على خطوة “التعويم” أو تحرير سعر الصرف وتركه عرضة للعرض والطلب بصورة ملحوظة خلال عام 2016، واستمر سعر الدولار مقابل الجنيه في البداية في مسار تصاعدي حتى تخطى حاجز العشرين جنيهاً، ثم بدأ مرحلة التراجع حتى وصل إلى نحو 15.7 جنيه للدولار، واستمر على السعر الرسمي نفسه حتى مارس/آذار 2022.
ومنذ ذلك الشهر، أقدمت الحكومة المصرية على “تحريك” سعر العملة أو خفض سعر الجنيه رسمياً بطريقة مدارة أكثر من مرة، حتى وصل إلى متوسط 30.8 جنيه منذ فبراير/شباط الماضي، أي خلال عام تقريباً تم تخفيض قيمة الجنيه بنسبة أكثر من 50%.
لكن السوق الموازية أو السوق السوداء شهدت ارتفاعات ضخمة، ووصل سعر الدولار فيها إلى ما فوق 70 جنيهاً، قبل أن يعود للانخفاض إلى ما دون 50 جنيهاً في أعقاب الإعلان عن صفقة رأس الحكمة. والأربعاء بعد “تعويم الجنيه”، أصبح البحث عن سعر الدولار في مصر الشغل الشاغل للجميع، وانتشرت الميمات والكوميكس حول سعر العملة الخضراء.
ويتابع المصريون سعر الدولار ويتحدثون عنه طوال الوقت لسبب بسيط، وهو الأسعار، التي أصبحت تقفز صعوداً طوال الوقت، تماشياً مع القفزات التي يحققها الدولار، وفي أحيان كثيرة تكون قفزات الأسعار أكثر صعوداً من قفزات سعر الدولار.
فإذا أخذنا بعض الأمثلة على جنون الأسعار في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، نجد أن سعر كيلو الأرز كان يبلغ أقل من 5 جنيهات، وكيلو السكر نفس القيمة تقريباً، ولتر زيت الطعام نحو 8 جنيهات، وكيلو اللحوم نحو 70 جنيهاً، بينما كيلو الدجاج نحو 15 جنيهاً، وذلك خلال عام 2014، عندما كان سعر الدولار رسمياً يعادل 7.8 جنيه مصري، وفي السوق السوداء يعادل نحو 13 جنيهاً.
أما اليوم (مارس/آذار 2024)، فسعر كيلو الأرز يبلغ متوسطه 35 جنيهاً، وكيلو السكر بمتوسط 50 جنيهاً، ولتر الزيت بمتوسط 90 جنيهاً، وكيلو اللحم متوسط 440 جنيهاً، وكيلو الدجاج بمتوسط 120 جنيهاً.
وبالنظر إلى نسب القفزات في هذه الأسعار خلال 10 سنوات، نجد علاقة طردية واضحة بينها وبين سعر العملة الخضراء مقابل الجنيه، وبعبارة أكثر دقة سعر الدولار في السوق السوداء وليس السوق الرسمية، وهو ما يمثل عنصراً آخر من عناصر زيادة معاناة المصريين جراء هذه العلاقة.
فخلال السنوات العشر الأخيرة أصبح سعر الدولار يحدد تكاليف المعيشة لجميع المصريين دون استثناء، فسعر أي سلعة من أي نوع أصبح مرتبطاً بسعر الدولار، حتى ولو كانت تلك السلعة منتجة محلياً مثل الخضراوات أو الفاكهة على سبيل المثال. وبات توفير الغذاء هماً يومياً على غالبية المصريين التعايش معه حرفياً. فحتى الوجبات الشعبية الشهيرة، مثل الكشري والفول والفلافل، تشهد قفزات في أسعارها بصورة متسارعة، وصلت بالفعل إلى زيادات يومية وليست سنوية أو شهرية، والسبب هو سعر الدولار في السوق السوداء.
وبالتالي فإن الجميع الآن ينتظرون أن تبدأ الأسعار في الانخفاض تدريجياً، خصوصاً مع دخول شهر رمضان المبارك (الإثنين 11 مارس/آذار)، وهو شهر يشهد زيادة في أسعار المواد الغذائية بشكل تقليدي، فهل يقضي هذا التعويم الجديد للجنيه المصري على السوق السوداء للدولار؟ هذا ما يتمناه الجميع.