أمينة المفتي أردنية من أصل شركسي، غيرت وطنها واسمها ودينها (الإسلام) إلى اليهودية سنة 1967، وأصبحت بعد وفاة زوجها الطيار في سلاح الجوي الإسرائيلي أشهر جاسوسة عربية في تاريخ الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد)، حالت معلوماتها دون تنفيذ حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) العشرات من عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى وصفت بـ”لؤلؤة المخابرات الإسرائيلية”، اعتقلت عام 1975 وسجنت 5 سنوات، وتمت مبادلاتها مع أسيرين فلسطينيين في 13 فبراير/شباط 1980، توفيت عام 2008 ودفنت في الأردن.
المولد والنشأة
ولدت أمينة داود محمد المفتي في بداية يناير/كانون الثاني 1939 بضواحي العاصمة الأردنية عمّان لأسرة مسلمة ثرية من أصول شركسية انتقلت منذ عقود للاستقرار في الأردن، وتولى أفراد منها مناصب عليا.
كان والدها تاجر مجوهرات ثريا، وكانت والدتها مثقفة وتتحدث 4 لغات، وكان عمها لواء في البلاط الملكي، وكانت هي آخر عنقود الأسرة فنشأت مدللة وكبرت في ظل الرخاء والرفاهية.
الدراسة والتكوين
درست في أرقى المدارس بالعاصمة الأردنية عمّان وتميزت بذكائها، ضاقت ذرعا بعادات وتقاليد أسرتها المحافظة وسخريتها منها في فترة المراهقة، إذ تعلقت بشاب فلسطيني الأصل يدعى بسام من أسرة متواضعة.
صدمها قرار بسام قطع العلاقة معها لتضايقه من أنانيتها وغرورها وتقلّب طباعها، مما أثر سلبا في مستواها الدراسي، ولم تحصل على الثانوية العامة بمجموع جيد.
قررت عائلتها برغبة منها إرسالها إلى النمسا لمتابعة دراستها الجامعية في تخصص علم النفس سنة 1957، ووجدت هناك فرصة “للتحرر” من تقاليد الأسرة ومحافظتها و”الاستقلال” عنها.
كانت في حياتها الجديدة في الغرب تلتقي بفتيات من دول مختلفة يأخذنها بدافع من جموحها وتمردها إلى عالم الإباحية والشذوذ والتفلت من كل القيود الأخلاقية.
وفي هذا العالم بقيت أمينة المفتي تتقلب إلى أن حصلت على بكالوريوس في علم النفس عام 1961 من جامعة فيينا.
عادت إلى الأردن، لكنها سرعان ما قررت العودة إلى فيينا بعدما علمت بزواج بسام من فتاة جميلة من مستوى أسرته الاجتماعي نفسه.
بررت سفرها باستكمال دراستها العليا لنيل الدكتوراه في التخصص نفسه، ثم عادت مرة أخرى إلى بلدها في سبتمبر/أيلول 1966، واستقبلها أهلها باحتفال كبير لحصولها على الدكتوراه.
المسار
خلال إقامتها في فيينا في الفترة الثانية عاشت كما تعيش الفتيات الغربيات، وتجردت من كل قيمها وتقاليد بلدها وتعاليم الدين الإسلامي، واختارت العمل في ورشة صغيرة للعب الأطفال بالموازاة مع الدراسة على الرغم من أن والدها كان يرسل إليها ما يكفيها من المال.
في هذا العمل حدث تحول آخر في حياة أمينة بعد التعرف على فتاة يهودية تدعى سارة بيراد، فباتت زميلتها في العمل وشريكتها في السكن وأمور أخرى، إذ انخرطتا معا في ما عرف بـ”تيار الهيبيز” -وهي حركة نشأت في بداية ستينيات القرن الـ20 في الجامعة وترفض العادات والتقاليد السائدة في المجتمع وتدعو إلى الحرية الجنسية وغير ذلك- واصطحبتها معها وعرّفتها على أسرتها.
تعرفت على شقيق سارة الأكبر موشيه الطيار العسكري برتبة نقيب، ودخلت معه في علاقة عاطفية، وتقول أكثر من رواية إن موشيه ساعدها في الحصول على شهادة دكتوراه مزورة في علم النفس، ثم عادت إلى بلدها في سبتمبر/أيلول 1966.
بعدما احتفى بها أهلها طلبوا منها الموافقة على الزواج بابن عمها فلم تجبهم بالرفض، لكنها طالبتهم بمهلة إلى أن تنهي إجراءات افتتاح مستشفاها الخاص في عمّان، لكن توترا بينها وبين وكيل وزارة الصحة جعلها تشكوه إلى وزير الصحة، وهي الشكوى التي فتحت عليها باب جهنم، إذ أمر الوزير بالاهتمام بها وفتح تحقيق عاجل بشأنها، وفي سياق التحقيق شككت اللجنة القانونية في تصديقات شهادتها العلمية، وطلبت منها تصديقات أخرى من الجامعة بفيينا.
وتفاديا لانكشاف أمر تزوير شهادة الدكتوراه والتسبب في فضيحة لأسرتها طارت للمرة الثالثة إلى فيينا في لحظة محنة ونكسة 1967، لم تعبأ بذلك كله وعادت إلى موشيه الذي عرض عليها الزواج شريطة التخلي عن دينها الإسلام واعتناق اليهودية، فوافقت دون تردد وتم الزواج رسميا في تلك السنة في معبد شيمودت بفيينا وغيرت اسمها إلى آني موشيه بيراد.
استقرت مع زوجها في فيينا إلى أن قرأت في صيف سنة 1972 إعلانا بإحدى الصحف تعرض فيه إسرائيل مرتبات وامتيازات مغرية ليهود أوروبا للتطوع والالتحاق بالجيش الإسرائيلي.
أقنعت زوجها بالالتحاق بجيش الاحتلال بعدما خافت من ملاحقة أسرتها لها، إذ هددتها بالقتل، فسافرا معا في نوفمبر/تشرين الثاني 1972 إلى إسرائيل حيث استقبلا بحفاوة.
استدعتها جهات أمنية بعد أيام من ذلك، وحققت معها بشأن نشأتها في الأردن وعائلتها، وكيف تعرفت على زوجها، ونظرتها لإسرائيل ومشاعرها نحو الأردن وفلسطين.
ولأنها عبرت عن كراهيتها وحقدها على العرب وعدم اعترافها بالقضية الفلسطينية رُحّب بها وأعطيت عملا، في حصل موشيه على رتبة رائد طيار في سلاح الجو الإسرائيلي وخضع لتدريبات الاستطلاع الجوي.
لم تهنأ بهذا الانتقال و”النجاح”، فسرعان ما فقدت زوجها بعدما أسقطت المدفعية السورية طائرته من نوع “سكاي هوك” في أول طلعة استطلاع له في آخر يناير/كانون الثاني 1973، وأُعلن مفقودا بعدما انفجرت الطائرة في الجو، في حين لم تعلن سوريا عن أسره كما جرت العادة في مثل هذه الحالات.
نزل عليها الخبر كالصاعقة وجن جنونها، لأنها لم تفقد زوجها فقط، بل باتت وحيدة طريدة من دون أسرة ولا عائلة بين قوم تجهل ثقافتهم ولغتهم.
بعد استيعابها الصدمة شككت في البيان السوري، وقالت إن موشيه ما زال حيا، واستأذنت للسفر إلى بيروت ودمشق لتقصي أخباره، فأذن لها وسافرت من فيينا إلى بيروت بجوازها الأردني، وقامت برحلات متعددة بين بيروت ودمشق ولم تصل إلى شيء يذكر، فاقتنعت بأن زوجها قتل.
الانتقام يسلمها للموساد
رجعت إلى فيينا وأنهت إجراءات الإرث مع عائلة زوجها، فحصلت على نصف مليون دولار وشقة في فيينا وضمانات لحماية أمنها، ووجد جهاز الموساد في أمينة مواصفات العميلة والجاسوسة المطلوبة للعمل بين الفلسطينيين، امرأة جميلة وتحمل صفة دكتورة، وتعرف لغتهم وثقافتهم وبيئتهم، وتحقد عليهم.
جُنّدت بسهولة، وخضعت لتدريبات بشأن متطلبات عملها من نقل الأخبار وتصوير وإرسال وتشفير والإفلات من المراقبة، وغير ذلك.
في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1973 سافرت أمينة إلى فيينا، حيث تسلمت من عميل الموساد الجواز الأردني ووسائل العمل (جهاز لاسلكي متطور على شكل راديوم) وتذكرة سفر إلى بيروت بعدما حددت مهمتها في جمع أخبار قيادات المنظمات الفلسطينية ورجالها وكل التفاصيل عنهم، وعلى رأسهم حسن سلامة المكلف بحراسة رئيس حركة فتح ياسر عرفات ورئيس أمن ومخابرات الحركة.
تعرفت في بيروت على شخصين سهَّلا وصولها إلى معلومات في غاية الأهمية مقابل منحهما جسدها، موظف الاتصالات مانويل عساف الذي سلمها عناوين القادة الفلسطينيين وأرقام هواتفهم، ورئيس مانويل في العمل مارون الحايك الذي مكنها من أرقام الهواتف السرية للمنظمات الفلسطينية وزعماء الجبهات، وغير ذلك.
كان مارون سلة أخبارها ومفتاحها للوصول إلى ما تريد، فزادته فوق الجسد المال كذلك إلى أن صارحته بأنها جاسوسة وعميلة للموساد وجندته معها بعدما هددته بالصور الفاضحة التي تجمعهما وتسجيلات صوتية له وهو يعطيها أرقام تلفونات رجال وقيادات المنظمات الفلسطينية.
مكنها مارون من الاستماع إلى مكالمات بين القادة الفلسطينيين وزعماء الجبهات، ومعرفة مواعيد العمليات الفدائية وأماكنها داخل الأراضي المحتلة، مما شكّل خدمة كبيرة لإسرائيل حالت دون حصول عشرات العمليات.
تمت متابعة واعتقال واغتيال عدد من القيادات الفلسطينية، بل وتوجيه جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف عدد من المواقع المدنية والعسكرية.
تسللت وسط الفصائل الفلسطينية، وتعرفت على القيادات تحت غطاء الطبيبة المتطوعة في ملاجئ الفلسطينيين، ولا سيما في الجنوب، ووصلت إلى مكتب عرفات وأظهرت له حماسها للتطوع وتأييدها نضال المنظمة ومعركتها، فمنحها تصريحا للدخول إلى جميع المواقع الفلسطينية، سواء العسكرية أو المخيمات.
حسن سلامة.. الهدف القاتل
كان الوصول إلى حسن سلامة الحارس الخاص لعرفات، والمكلف بأمن ومخابرات “فتح” وقوات الحرس الداخلي ومعرفة صورته وأسماء قيادات وعملاء المخابرات الفلسطينية في أوروبا من أكبر أهدافها.
وبعد محاولات عديدة تمكنت عبر مجنديها وأساليبها من الوصول إليه، لكنها سألته سؤالا قاتلا كشفها، سألته عن أولاده فارتاب من أمرها، إذ لم يكن أحد يعرف أنه متزوج ولديه أولاد.
طلب من رجاله في عمّان البحث عن معلومات عن الطبيبة أمينة المفتي، فأجابوه بأنها فعلا طبيبة أردنية درست في النمسا وغادرت بلادها بعد نزاع مع أهلها، فتبددت شكوكه ووثق بها.
لكن بلاغا سريا من ألمانيا أخبره بأن شابا فلسطينيا في فرانكفورت قال لمصادرهم إن فلسطينيا بفيينا أخبره أن له صديقة نمساوية يهودية توفيت جراء المخدرات، كان لها أخ تزوج من فتاة عربية مسلمة درست الطب وهربت معه إلى إسرائيل، وأنها انتقلت إلى لبنان بعد سقوط طائرة زوجها وفقدانه.
فتح سلامة تحقيقا آخر، وحُصرت كل الطبيبات العربيات المتطوعات في فلسطين ولبنان، وكن 4، منهن أمينة، ووضعن تحت المراقبة لفترة، اتصلت أمينة على إثرها بتل أبيب، فطالبوها بالتخلص من جهازها والهرب، لكن المخابرات الفلسطينية عاجلتها واعتقلتها سنة 1975 ولم تجد في شقتها ما يدينها فقد أخفت كل شيء.
بقيت أمينة معتقلة فيما التحريات عنها والتأكد من حقيقتها متواصلة، واستطاعت أجهزة سلامة الوصول إلى شقتها في فيينا، ووجدت مذكراتها التي كشفت كثيرا عن حياتها، ولا سيما زواجها من يهودي وسفرها معه إلى إسرائيل وعمالتها للموساد.
اختار سلامة الحيلة والخداع في التحقيق معها، فقالوا لها إن زوجها موشيه كان أسيرا لدى السوريين وأطلق سراحه منذ أيام ضمن عملية تبادل، وسربوا لها صحيفة (طبعت منها نسخة وحيدة لغرض تضليلها) تضمنت خبر الإفراج عن موشيه في صفحتها الأولى وسط زملائه قبل مغادرته الأسر برفقة الصليب الأحمر، فصدمت الجاسوسة بالخبر، لكنها واجهت كل الأسئلة بالإنكار فتم اللجوء إلى العنف.
تدخلت السلطات اللبنانية، وطالبت بتسلمها التحقيق معها، لكن تدخّل القيادي الفلسطيني أبو إياد لدى وزير الداخلية اللبناني أعاد أمينة إلى المخابرات الفلسطينية للتحقيق معها.
وتقول رواية أخرى إن الفلسطينيين رفضوا الاستجابة لطلب السلطات اللبنانية، وتمكنوا من جعل أمينة تعترف بمن جندها في الموساد والمعلومات التي أرسلتها وشبكتها في بيروت.
طالب سلامة بإعدامها لإخافة عملاء إسرائيل، لكن ياسر عرفات رفض ذلك واختار مبادلتها بأسرى فلسطينيين.
حاولت وهي في السجن التأثير على حارسها بعدما أقنعته بـ”براءتها” فحاول إخراجها من السجن، لكن أمره انكشف فأعدم بالرصاص في أكتوبر/تشرين الأول 1976.
وبعد 5 سنوات في السجن المشدد تم الإفراج عنها في 13 فبراير/شباط 1980 في صفقة مقايضة بالأسيرين الفلسطينيين مهدي بسيسو ووليام نصار في جزيرة قبرص بإشراف الصليب الأحمر.
تعددت الروايات عن نهايتها، فالأولى -وهي الغالبة والراجحة- تقول إنها عادت إلى تل أبيب وانتهت علاقتها بالموساد ومنحت 60 ألف شيكل مكافأة وأُمّن عيشها وأمنها، وقيل إنه تم إجراء عملية لتغيير ملامحها ومنحت هوية جديدة ومنزلا في مستوطنة شمال حيفا بحماية أمنية مشددة خوفا من تهديد عائلتها، وعاشت بقية حياتها وحيدة وفي حالة نفسية صعبة، لفشل كل محاولاتها تجديد الصلة بأسرتها وأهلها في الأردن، لأنهم اعتبروها في عداد الموتى.
وفي سنة 1984 أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي قرارا بصرف معاش دائم لأمينة، وخصص لها لوحة الشرف في مدخل مبنى جهاز الموساد خاصة بأمهر عملائه.
وانتقلت في تسعينيات القرن الـ20 إلى الناصرة، وفتحت عيادة لعلاج أمراض الجلد، وأقامت علاقة صداقة مع عائلة مريضة مسلمة زوجها إمام مسجون بتهمة التحريض ضد إسرائيل.
حاولت مرة أخرى التواصل مع أسرتها بعد توقيع إسرائيل اتفاقية السلام مع الأردن، وبعد محاولات متكررة زارتها وقابلتها ببرود، وتجددت بعد ذلك العلاقة مع أسرتها.
الوفاة
تم تداول روايات أخرى عن نهاية أمينة لكنها غير موثقة، وتفيد بأنها حصلت على جواز سفر أميركي بعدما عدلت معالم وجهها بعملية تجميلية وعاشت في تكساس، ورواية ثانية بأنها انتقلت إلى جنوب أفريقيا منذ 1985 وأنجبت ولدا من ضابط روماني سمّته موشيه، في حين تقول رواية ثالثة إنها انتحرت بحقنة داخل حجرتها في قسم الأمراض العصبية بمستشفى تل هاشومير بتل أبيب.
توفيت أمينة داود المفتي في نهاية سنة 2008 بالأردن عن عمر يناهز 69 عاما بعدما أوصت بجميع أصولها في إسرائيل لعائلة الإمام المسجون ودفنت في عمّان.