“أدنى سعر رسمي للعملة المصرية في تاريخها”.. كانت هذه أولى نتائج تعويم الجنيه المصري الذي أعلن عنه أمس، وسط تساؤلات حول كيف سينعكس القرار على جيوب المواطنين، وهل يؤدي هذا التعويم إلى ارتفاع كبير في الأسعار كما حدث في مرات سابقة أم يؤدي لاستقرارها وحتى انخفاضها كما يلمّح مسؤولون حكوميون.
وبعد قرار البنك المركزي المصري ترك تحديد سعر الجنيه لآليات العرض والطلب في السوق، الأربعاء 6 مارس/آذار 2024، انخفض سعره الرسمي من 30.89 للشراء إلى 49.58 في البنك المركزي، أي بنسبة تراجع 60.5%.
كما طبّق البنك المركزي زيادة كبيرة وغير مسبوقة على أسعار الفائدة بنحو 6% دفعة واحدة، وبعد هذه القرارات، تراجعت الفجوة في أسعار الدولار بين السوقين الموازية والرسمية بشكل كبير، وفي اليوم التالي الخميس تلاشت تقريباً لأول مرة منذ سنوات.
حزمة تمويلية ضخمة
وفي اليوم ذاته لقرار التعويم، أُعلن عن اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي على برنامج دعم موسع سيرفع بموجبه قيمة قرض الصندوق من 3 مليارات التي اتفق عليها في نهاية 2022 إلى 8 مليارات دولار، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، فضلا عن 1.2 مليار دولار إضافية من صندوق الاستدامة البيئية التابع لصندوق النقد”، وذلك ضمن حزمة تمويلية يتوقع أن تبلغ 20 مليار دولار (يرجح أن بقيتها ستأتي من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي).
وقبل هذه الخطوة، توصلت مصر لصفقة استثمارية بقيمة 35 مليار دولار مع صندوق سيادي إماراتي، لتطوير شبه جزيرة رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط؛ ما خفف من أزمة العملة الأجنبية المستمرة منذ فترة طويلة.
يعني أن ذلك أننا أمام واحد من أكبر تدفقات النقد الدولي في تاريخ مصر إن لم يكن أكبرها، بقيمة تصل لـ55 مليار دولار.
ومنذ بداية عام 2022 عانت مصر من موجات تضخم كبيرة ومتتالية، وتراجعات كبيرة بقيمة الجنيه، الذي سجّل مؤخراً في السوق الموازية أدنى مستوى في تاريخه، حيث بلغت قيمة الدولار أكثر من 70 جنيهاً قبل نحو شهر، قبل أن يرتفع الجنيه بعد الإعلان عن صفقة رأس الحكمة، حيث سجل نحو 40 جنيهاً، ثم عاد الدولار للارتفاع في السوقين الموازية والرسمية، ليدور حول الـ50، كأولى نتائج تعويم الجنيه المصري الأخير.
يثير قلق المواطن دوماً.. ماذا يعني تعويم الجنيه المصري؟
يقصد بمفهوم تعويم الجنيه أو أي عملة أن البنك المركزي لن يقوم بتحديد سعر العملة الأمريكية مقابل العملة المحلية (الجنيه)، بل يترك عملية تحديد السعر للعرض والطلب على الدولار، على أن يتدخل البنك المركزي فقط عند حدوث حركات عنيفة وغير مبررة اقتصادياً، حسب ما قال محافظ البنك المركزي المصري حسن عبد الله في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد قرار التعويم، الذي أكد فيه أن البنك المركزي لا يستهدف قيمة معينة للجنيه.
ومصطلح تعويم الجنيه يثير قلق المصريين، لأنه يرتبط لديهم باحتمال حدوث موجة كبيرة من ارتفاع الأسعار، ولكنّ المسؤولين الحكوميين يلمحون إلى أن الأمر مختلف هذه المرة، وأن التعويم سيؤدي على المدى المتوسط والبعيد لاستقرار الأسعار والوصول لمعدل تضخم مقبول.
هل يستقر الجنيه عند مستوى الخمسين أمام الدولار؟ وماذا يقول البنك المركزي عن التضخم؟
وتوقع البنك المركزي المصري، أن نتائج تعويم الجنيه المصري ستكون إيجابية على المديين المتوسط والطويل، حيث قال إنّ القضاء على السوق الموازية للصرف الأجنبي، وكذلك قرار رفع أسعار الفائدة الأساسية سيؤديان إلى كبح جماح التضخم، جراء توحيد سعر الصرف وتقليل الضغط على العملة الأجنبية.
وحدد البنك المركزي سعراً استرشادياً للدولار بنحو 49.5 جنيه بعد قرار التعويم، علماً بأن العقود الآجلة غير المسلمة للعملة المصرية كانت تدور حول سعر 50 جنيهاً للدولار لمدة عام، قبيل صدور قرار التعويم بأيام، حسب خبراء، وهو سعر وسط بين المستويات العليا التي تم تداول الجنيه عليها لفترة في السوق الموازية والتي كانت تدور في منتصف الستينات، وبين المستويات الدنيا التي وصل إليها عند نحو الأربعين جنيهاً مقابل الدولار.
وفي مواجهة الهاجس الأساسي للسوق، وهو مدى قدرة البنك المركزي المصري على توفير الدولار للمستوردين، فإنه فور إعلان قرار تعويم الجنيه المصري، باع البنك المركزي أمس الأربعاء أكثر من مليار دولار في سوق ما بين البنوك (إنتربنك)، لتغطية طلبات استيراد سلع أساسية منها الأدوية، والأغذية، والأعلاف، المعلقة لدى البنوك، بحسب ما نقل موقع “الشرق بلومبرغ” عن 4 مصرفيين تحدثوا شريطة عدم نشر أسمائهم.
هل تختفي السوق الموازية أم تبتلع المشروعات القومية التمويل الجديد؟
يؤدي توفر الدولار للمستوردين إلى إضعاف السوق الموازية، وذلك يعني نظرياً أن تحويلات العاملين والمصدرين والسياحة ومعاملات حائزي الدولار، ستتم عبر النظام المصرفي بدلاً من السوق الموازية، ما يزود المصارف بالعملة الأجنبية الكافية لتوفيرها للمستوردين، حسب ما أشار البنك المركزي وخبراء، وهذا سيؤدي إلى تخفيف حدة نقص السلع المستوردة ومكونات الإنتاج ووقف التلاعب بالعملة، ما يعني نظرياً تراجع أسعارها أو ثباتها أو حتى تراجع وتيرة ارتفاعها على الأقل، كما أن رفع سعر الفائدة سيشجع على عدم اكتناز الدولار.
ورغم ذلك، فإن مصر تعاني من فجوة بين العرض والطلب على الدولار بسبب عوامل عديدة من أهمها خدمة الدين الخارجي، ولكن يفترض أن صفقتي رأس الحكمة وصندوق النقد ستؤدي لتغطية ولو جزئية لهذه الفجوة، ولكن هناك مخاوف في السوق من العودة للمشروعات القومية التي ترفع الطلب على الدولار، خاصة بسبب الحديث عن احتمال تنفيذ مشروع لاستكمال ازدواج مجرى قناة السويس.
نتائج تعويم الجنيه.. زيادة أم انخفاض في الأسعار؟
هناك جدل بشأن نتائج تعويم الجنيه ورفع الفائدة، بين الخبراء، فتقليدياً يعني التعويم انخفاض قيمة العملة مقابل الدولار، وبالتالي ارتفاعاً شاملاً للأسعار.
وبالتالي، فباستثناء السلع المستوردة بالدولار الرسمي وهي محدودة وتكاد تقتصر على القمح والدواء، فإن أغلب السلع المستوردة هي حالياً مقومة بسعر مرتفع للعملة الأمريكية، بما في ذلك مستلزمات إنتاج السلع المحلية (قد يتراوح تسعيرها بين الـ60 وال70 جنيهاً للدولار)، حسب ما ألمح محافظ البنك المركزي، الأمر الذي سيعني أن السلع المستوردة يمكن أن تباع حالياً بالسعر الرسمي للدولار الذي يدور حول الـ50 جنيهاً أي إنخفاض أسعارها.
كما شكلت قيود الاستيراد والإقبال على الشراء خوفاً من انهيار الجنيه ضغطاً إضافياً جعل بعض السلع مقومة بسعر دولار أعلى حتى من السوق السوداء، وفقاً لعبد الله.
فهل يعني ذلك أن التعويم المصحوب بتوفير العملة واستقرار أسعارها عند الخمسين، سيؤدي لانخفاض الأسعار؟
السلع ترتفع بجنون مع صعود الدولار، ولكن تتراجع ببطء شديد عند هبوطه
أحد مبادئ الاقتصاد أن الأسعار غير مرنة “Rigid” عند الهبوط، ومرنة جداً Flexible عند الصعود، حسب ما قال الخبير الاقتصادي المصري هاني توفيق على حسابه على فيسبوك.
أي أن الأسعار ترتفع بسرعة كبيرة (لحظية أحياناً) عند ارتفاع الدولار، وبشكل يعادل أو يزيد عن نسبة صعود العملة الأمريكية، في حين أنه عند انخفاض سعر الدولار أمام العملة المحلية، فإن الأسعار تنحفض بمعدل أقل وبصورة أبطأ كثيراً.
وسبق أن قال هشام عز العرب، مستشار محافظ البنك المركزي (وأحد أبرز المصرفيين المصريين)، إن كل زيادة 10% في سعر صرف الدولار مقابل الجنيه تترجم إلى ارتفاع التضخم في مصر 4%، أما تراجع الدولار 10% مقابل الجنيه يخفض التضخم 0.5%.
إليك سلعاً مرشحة للانخفاض
قد تكون إحدى نتائج تعويم الجنيه، حدوث انخفاض جزئي وبطيء في أسعار بعض السلع المستوردة شديدة الارتباط بالدولار، وخاصة التي كان عليها قيود في الاستيراد مثل السيارات، وذلك في حال توفير العملة للمستوردين ورفع قيود الاستيراد، حسب ما قال أسامة أبو المجد، رئيس رابطة تجار السيارات لصحيفة “المصري اليوم”.
ولكن هذا بدوره قد يؤدي لزيادة الاستيراد؛ ما يشكل ضغطاً على العملة لفترة مؤقتة، كما قال رامي أبو النجا نائب محافظ البنك المركزي للاستقرار النقدي، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده محافظ البنك المركزي.
ورغم احتمال أن يكون من أبرز نتائج تعويم الجنيه المصري، تراجع أسعار السيارات والسلع المعمرة (مثل الهواتف والأجهزة الكهربائية) خاصة المستوردة، وذلك إذا استقر الدولار عند مستوى الخمسين جنيهاً، فإن حجم المبيعات قد يتأثر، برفع الفائدة، الذي سترفع تكلفة قروض شراء السيارات وغيرها من السلع المعمرة بالتقسيط، حسب المعنيين بهذه الصناعة.
بصفة عامة أبرز نتائج تعويم الجنيه، حال استقراره عند مستوى الـ50 ستكون انخفاضاً جزئياً وتدريجياً لبعض السلع المستوردة خاصة الباهظة الثمن وكذلك الحال مع بعض السلع الاستهلاكية المستوردة مثل الزيوت (التي انخفضت بشكل محدود بالفعل مع تراجع الجنيه بالسوق الموازية قبل التعويم).
بالنسبة للسلع المحلية الصنع، فقد تكون استفادتها بالانخفاض في تكلفة الاستيراد أقل، لأن المكون المستورد مجرد جزء من تكلفة المنتج المحلي، كما ستكون السلع المصرية المصدرة في المقابل، معرضة لارتفاع قيمتها بالدولار في الأسواق الخارجية، ما قد يؤثر على التصدير.
كما أن هناك توقعات بارتفاع أسعار المنتجات المحلية الصنع نتيجة تفاقم التكاليف التمويلية على المصنعين جراء الرفع الكبير لسعر الفائدة الذي بلغ 600 نقطة، حسب موقع “الشرق بلومبرغ”.
وفي هذا الصدد، اعتبر علي حمزة، رئيس جمعية مستثمري أسيوط، رفع سعر الفائدة بمثابة مشكلة كبيرة على المصنعين، لأنه سيؤدي إلى إرجاء أي توسعات للمصانع لتجنب اللجوء للاقتراض الذي بات مكلفاً، بينما توقع أسامة الشاهد، رئيس شركة لتصنيع الأثاث، ورئيس غرفة الجيزة التجارية، أن أسعار الأثاث سترتفع بنسبة تصل إلى 6% تختلف حسب دورة الإنتاج.
بالنسبة لأسعار الخدمات، فإنها في الأغلب لن تنخفض، بل قد تثبت أو تواصل الارتفاع ولكن بوتيرة أقل، حسب الخبراء.
إليك أكثر السلع التي قد ترتفع أسعارها.. المشكلة الكبرى في الطاقة
ولكن في مقابل احتمال الانخفاض المحدود لبعض السلع المستوردة، فإن السلع المستوردة الأساسية التي كانت الحكومة توفر العملة الأجنبية لها بالسعر الرسمي القديم البالغ 30.89، فهذه سوف ترتفع بنسب مقاربة لنسبة تراجع الجنيه أي بنسبة 60.5%، وهي سلع مثل القمح والدواء، لأنها لم تعد تتمتع بميزة الدولار المدعوم، باستثناء السلع المدعمة من قبل الحكومة (مثل السلع التي توزع بالبطاقات الحكومية).
ولكن المجال الأكبر المرشح لحدوث ارتفاع في أسعاره بعد التعويم هو أسعار الطاقة المدعومة، في ظل توقعات بأن أحد شروط اتفاق صندوق النقد الدولي الجديد مع مصر هو إلغاء دعم الطاقة أو ترشيدها على الأقل، كعادة الصندوق، وكما ورد في المفاوضات حول الاتفاق الأولي الذي أبرم في نهاية عام 2022.
فسعر الطاقة في مصر كان قريباً من سعر التكلفة (أي محرر من الدعم ولو جزئياً) عندما كان سعر الدولار 15.5 جنيه، وسعر برميل نفط كان نحو 65 دولاراً، وذلك تحديداً في عام 2018، حينما ألغت القاهرة دعم الوقود، تنفيذاً لشروط الاتفاق السابق مع صندوق النقد.
في ذلك الوقت، كان سعر السولار محلياً 5.5 جنيه، وبنزين 92 الأكثر استخداماً 8 جنيهات للتر.
ويعني ذلك أن الوصول لسعر غير مدعم في ظل ارتفاع النفط في الوقت الحالي لثمانين دولاراً للبرميل، وتراجع سعر الجنيه إلى 50، (انخفض بمقدار ثلاث مرات ونصف) قد يحتاج إلى أن يرتفع بنزين 92 الأكثر شيوعاً مقارنة بسعر عام 2018 البالغ 8 جنيهات بنسبة تتراوح بين 3 أو 4 مرات، لكي يلبي شروط صندوق النقد التقليدية، أي قد يتراوح سعره بين 24 جنيهاً إلى 32 جنيهاً للتر الواحد، مقابل ثمنه الحالي البالغ 11.5 جنيهاً، أي أننا أمام زيادة محتملة تتراوح بين مرتين إلى ثلاثة للسعر الحالي.
وقد يكون هناك حاجة لارتفاع بنسب مماثلة أو أعلى لسعر السولار الأكثر تأثيراً، والذي كذلك يحظى بنسب دعم أعلى، والأمر نفسه مع أسعار الكهرباء، لتلبية الشروط التقليدية لصندوق النقد.
هذا الارتفاع المحتمل في أسعار الطاقة عادة، قد يؤدي لموجة تضخمية جديدة بمعزل عن أسعار الدولار مقابل الجنيه.
في الأغلب، فإن الحكومة قد تتحفظ على مثل هذا الرفع الكبير لأسعار الطاقة، وقد تنفذه جزئياً، وعلى مدى فترة طويلة، وقد يفتح ذلك باب جدل مع صندوق النقد الدولي، الذي كان قد أصر في الاتفاق الأولي في ديسمبر/كانون الأول 2022 على أن يكون هناك مدى زمني للبرنامج مدته 46 شهراً، في مؤشر على رغبته في فرض نوع من الرقابة لضمان تنفيذ شروطه، والتي على رأسها تخفيض دعم الطاقة.
النسخة الجديدة من اتفاق صندوق النقد الذي أعلن عنها أمس، لم يعرف شروطها بعد، وقد تكون أخف، ولكن لا يعتقد أن الصندوق سيتخلى بالكامل عن طلباته الأساسية، ومنها مسألة الدعم الذي تمثل جزءاً أساسياً من فلسفته، ما يعني أنه قد يقبل بتهدئة وتيرة إزالة دعم الطاقة وحجمه، ولكن لن ينبذها بالكامل، خاصة أن الصندوق يرى أن إبقاء دعم الطاقة الكبير من شأنه تفاقم عجز الموازنة الذي يسبب بدوره اختلالات هيكلية قد تؤدي لعودة أزمة الدولار.
يعني ذلك أن أبرز نتائج تعويم الجنيه السلبية على المواطن خلال السنوات القليلة القادمة قد تكون في مسألة دعم الطاقة، أي إن رحلة المواطن المصري مع التضخم، قد تشهد بعض الفصول الإضافية خلال السنوات المقبلة، حتى لو أن هناك احتمالاً لانتهاء أزمة الجنيه.