بينما يؤكد الحوثيون أنهم لا يهاجمون سوى السفن المرتبطة بإسرائيل وأمريكا وبريطانيا في البحر الأحمر، فإن واشنطن تزعم أنهم هاجموا سفناً لدول أخرى، فهل يكون أحد أسباب هذا الاختلاف في التقييم ناجم عن الطبيعة الغامضة لمسألة ملكية السفن على المستوى الدولي.
وهاجم الحوثيون اليمنيون سفينة تحمل 21 ألف طن من السماد كانت متجهة من السعودية إلى بلغاريا في الشهر الماضي، وبرروا ذلك بقولهم إن هذه السفينة كانت بريطانية.
لكن السفينة، التي تسمى “روبيمار”، والتي غرقت يوم السبت 2 مارس/آذار، كانت تحمل علم دولة بليز، وكانت تدار جزئياً عن طريق شركة لإدارة السفن تتخذ من العاصمة اللبنانية بيروت مقراً لها، وكانت في رحلة بحرية نظمتها شركة لبنانية أخرى، وكان غالبية طاقمها من السوريين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
وقال الحوثيون إن الهجوم على السفينة روبيمار كان أيضاً انتقاماً من القصف الذي نفذته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مؤخراً ضد المنشآت العسكرية الخاصة بالجماعة اليمنية. وقد استهدف الحوثيون أكثر من 40 سفينة منذ نوفمبر/تشرين الثاني.
وغرقت السفينة لتصبح أول حاوية تُفقد كلياً نتيجة حملة الحوثيين قبالة سواحل اليمن، وتسلط حادثة السفينة روبيمار وحوادث أخرى الضوء على الصعوبات المتعلقة بتحديد جنسية السفن أو مالكيها.
إذ تقول الصحيفة البريطانية في شرحها لمتاهة ملكية السفن الدولية “إن كثيراً من السفن تملكها شركات أجنبية يكون مالكها الحقيقي غير واضح. تُستأجر بعض السفن أو تُدار عن طريق شركات أخرى، ربما تحوز السيطرة الفعلية لكل الجوانب المتعلقة بالسفينة”.
العلاقة بين السفينة وبريطانيا هي عنوان شقة
تقول صحيفة The Financial Times” كانت الإشارة الوحيدة التي تربط السفينة روبيمار بالمملكة المتحدة، تتمثل في أن قواعد البيانات البحرية تشير إلى ارتباط السفينة بشقةٍ في ساوثهامبتون في إنجلترا -توجد في مجمع سكني يُسمى ويب كورت بدون أي وصف تفصيلي- بوصفه عنوان مالك السفينة. لكن ذلك المالك هو عبارة عن شركة تُسمى Golden Adventure مسجلة في جزر مارشال بالمحيط الهادئ”.
وتعد قضية ملكية السفن وجنسيتها مهمة؛ لأن الحوثيين المدعومين من إيران -الذين يقولون إنهم يدعمون الفلسطينيين في غزة من وراء هذه الهجمات- تعهدوا بشن هجمات ضد السفن التي ترتبط بإسرائيل والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وليس ضد أي سفينة مرتبطة بدول أخرى.
ليست هناك معلومات معلنة مفصلة حول ملكية شركة Golden Adventure للسفينة روبيمار، وليس هناك أي رد على المكالمات التي تهاتف الشقة الكائنة بساوثهامبتون المرتبطة بالشركة.
ومع ذلك، تبيّن المواقع الإلكترونية البحرية أن بعض جوانب إدارة السفينة كانت موكلة إلى شركة GMZ، المستقرة في بيروت.
أبلغ روي خوري، الرئيس التنفيذي لشركة Blue Fleet Group للشحن، صحيفة The Financial Times في رسالة بريد إلكتروني، بأن الشركة كانت “الوسيط الحصري” لملكية السفينة، ما يعني أن شركة Blue Fleet أدارت الترتيبات التجارية المتعلقة بها، مثل البحث عن عمل للسفينة.
وأنكر أن تكون للسفينة أية صلة بالمملكة المتحدة. كتب خوري: “لدى الحوثيين بيانات خاطئة. فحتى طاقم السفينة سوري”.
لماذا تفضل أغلب الشركات جعل ملكية السفن تابعة لدول صغيرة وغامضة؟
وتقدم غالبية شركات الشحن البحرية وملاك السفن على تسجيل سفنهم في دول صغيرة وغير مشهورة، وذلك لعدة أسباب، غالبها اقتصادية، فالشركات الاقتصادية لا تهتم سوى بالأرباح، وفي سبيل ذلك يتم اللجوء إلى هذا الأمر.
إذ تقدم الدول الصغيرة، مثل بنما، ميزات كثيرة لأصحاب السفن من أبرزها الإعفاء من الضرائب، خلافاً لما يمكن لمالكي السفن دفعه لو اختاروا رفع علم بلدهم الأم، خاصة الدول التي تفرض ضرائب عالية النسب على مواطنيها، بالإضافة إلى التمتع بالحماية التنظيمية والقانونية، إذ يتيح نظام التسجيل في الدول الصغيرة توظيف أطقم السفن من أي مكان في العالم، وكذلك توفير القوى العاملة والخدمات بشروط مناسبة بهدف تقليل تكاليف الشغل، وهو ما من شأنه تخفيف النفقات، فضلاً عن قلة الجوانب البيروقراطية في هذه الدول الصغيرة.
سويسرية أم إسرائيلية؟
تظهر إشكالية ملكية السفن، في الهجوم الأخير الذي وقع أمس الأول، الإثنين 4 مارس/آذار، أطلق الحوثيون صاروخين على السفينة إم إس سي سكاي 2، التي تديرها شركة البحر الأبيض المتوسط للملاحة (MSC) التي تتخذ من جنيف مقراً لها، والتي تُعد صاحبة أكبر خط شحن دولي في العالم. تسبب أحد الصاروخين في أضرار طفيفة. ووصف الحوثيون السفينة بأنها إسرائيلية، في حين أن الجيش الأمريكي وأطرافاً أخرى يصفونها بأنها سويسرية.
وقال بيتر إيلوت، مدير السياسات في غرفة النقل البحري بالمملكة المتحدة، التي تعد جماعة ضغط، إن تصنيف ملكية السفن وجنسياتها ليست مسألة يسيرة، مضيفاً أن شركات الشحن طالما استخدمت تقديراتها الخاصة لاختيار أي الأعلام التي سوف ترفعها السفينة.
وكثيراً ما تكون الشركات التي تملك السفن مُسجلة في بلد غير البلد الذي تحمل السفينة علمه. لدى الحاويات أيضاً خيار اللجوء إلى جمعيات التصنيف، وهي عبارة عن شركات تضمن نيابة عن شركات التأمين أن السفن تستوفي المعايير التقنية ومعايير الأمان الملائمة.
أوطان السفن هي مجرد أماكن للإيجار
قال إيلوت في شرحه للطبيعة المعقدة لمسألة ملكية السفن: “تستطيع أن تختار أين تسجل (السفينة). وتستطيع أن تختار العلم الذي تريده. وتستطيع أن تختار من بين جمعيات التصنيف المختلفة. ويمكنك أن تؤمن مع أي طرف”.
كانت السفينة مورنينج تايد إحدى هذه السفن التي تعرضت لهجمات الحوثيين، وهي حاوية كبيرة تحمل علم جزيرة باربادوس، لكنها مملوكة لشركة مسجلة في بريطانيا. فيما كانت الأخرى ستار ناسيا تحمل علم جزر مارشال، لكنها مملوكة لشركة Star Bulk، وهي شركة تتخذ من اليونان مقراً لها ومسجلة في بورصة نازداك في نيويورك.
ولكن بالنسبة للحوثيين، تعد مثل هذه الترتيبات المعقدة دليلاً على مراوغة خصومهم. في فيديو نُشر على الإنترنت في الشهر الماضي، احتفى قائد الحركة، عبد الملك الحوثي، بالهجمات على السفن التي وصفها بـ”الأمريكية” و “البريطانية”.
وفي إشارة واضحة إلى شهرة أعلام جزر مارشال بالنسبة لملاك السفن الأمريكيين، قال الحوثي إن الأمريكيين كانوا يحاولون إخفاء تحركاتهم في البحر، فوضعوا على بعض سفنهم “أعلام مارشال” التي تعود إلى بلد غامض يوجد في أقصى العالم.
القانون الدولي للبحار يسمح برفع السفن لأعلام دول أخرى، ولكن مع شرطين أساسيين
تنص المادة 92 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار على الوضع القانوني لمسألة ملكية السفن في فقرتها الأولى على أن “تبحر السفينة تحت علم دولة واحدة فقط، وتكون خاضعة لولايتها الخالصة في أعالي البحار، إلا إذا تم النص على خلاف ذلك في معاهدة أخرى أو في مقتضى نصوص في هذه الاتفاقية”.
ولكن تشترط الاتفاقية أنه لا يجوز للسفينة أن تغير علمها أثناء رحلة ما، أو أثناء وجودها في ميناء الزيارة إلا في حالة نقل حقيقي في الملكية أو في التسجيل”.
والشرط الثاني، أنه لا يجوز للسفينة التي تبحر تحت علمي دولتين أو أعلام أكثر من دولتين، مستخدمة إياها وفقاً لاعتبارات الملاءمة أن تدعي لنفسها أي جنسية من هذه الجنسيات أمام أي دولة أخرى، ويجوز اعتبارها في حكم السفينة العديمة الجنسية.
وبموجب القانون الدولي البحري، فإن السفينة التجارية التي تدخل ميناءً أجنبياً تخضع حالاً للقانون المحلي للمكان الذي دخلت إليه، ولكنها تبقى في نفس الوقت خاضعة لقانون الدولة التي ترفع علمها. ولا تتدخل السلطات المحلية في أي من الشؤون الداخلية للسفينة.
هجمات الحوثيين لن تغير هذه الممارسة الراسخة في عالم البحار
ولكن ثمة إشارات قليلة تدل على أن الشحن الدولي سوف يبسّط ترتيبات ملكية السفن بسبب هجمات الحوثيين.
وقال جورج ماتشيراس، رئيس الشحن في شركة Watson Farley & Williams، وهي شركة قانونية مستقرة في لندن، إن ظاهرة ملكية السفن غير المرتبطة ببلد واحد كان شيئاً راسخاً في “في شرايين” القطاع.
قد تكون التساؤلات المتعلقة بملكية السفن وجنسيتها معقدة حتى عندما تكون الحقائق أوضح مما هو عليه الحال مع السفينة روبيمار.
وقع الضرر الأسوأ الذي لحق بالسفن بسبب هجمات الحوثيين، قبل غرق السفينة روبيمار، مع السفينة “مارلين لواندا”، وهي ناقلة نفط عانت من نيران شديدة بعد هجوم صاروخي وقع في 26 يناير/كانون الثاني. وصف الحوثيون أيضاً السفينة بأنها بريطانية.
لكن السفينة، التي كانت تحمل علم جزر مارشال، كانت مستأجرة بعقد استئجار سفينة عارية (أي بدون طاقم بحارة أو وقود)، لصالح شركة السلع المحدودة متعددة الجنسيات ترافيجورا، المُسجلة في سنغافورة. بموجب عقود استئجار السفن العارية، يمكن للشركات التي تُسيّر هذه السفن أن تكون مسؤولة عن طاقم السفينة والأمور التشغيلية الأخرى.
يملك السفينة مارلين لواندا مجموعة من المستثمرين الدوليين من خلال شركة مسجلة في أحد مكاتب بنك “جي بي مورغان تشيس” في لندن، بعد أن نصحهم البنك الاستثماري الأمريكي بذلك.
أشار ماتشيراس إلى أنه، بموجب بعض التدابير، فإن كل سفينة تقريباً تبحر في المياه لديها بعض العلاقات بالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة. وأوضح: “غالبية الصفقات تُعقد بالدولار الأمريكي، ولذلك سيكون لديك بالفعل علاقة أمريكية واضحة. وغالبية السفن تكون مؤمنة في سوق لندن. ولذلك يكون لديك بالفعل علاقة أيضاً مع المملكة المتحدة”.
وقال إليوت إن السؤال المطروح، فيما يتعلق بما سيحدث على المدى الطويل، هو إذا ما كان الحوثيون سيوقفون الهجمات أم سيستمرون فيها حتى بعد التوصل إلى أي وقف إطلاق نار في غزة مستقبلاً.
قال ماتشيراس إن الكثير من ملاك السفن سوف يشعرون بالضعف ما دامت الهجمات لم تتوقف تماماً، ويُعزى ذلك إلى التكتيكات غير المتوقعة للحوثيين والغموض حول جنسيات السفن.
وأضاف: “عندما يخرج الحوثيون ويقولون: “سوف نستهدف السفن من بلد كذا وكذا وكذا”، فإنه من الصعب تحديد التصنيفات التي تقع في نطاقها هذه السفن (المستهدفة)”.