شهدت لندن مسيرتين مؤيدتين لفلسطين، أمس السبت، إحداهما حقيقية، والأخرى توصف بأنها حاضنة للتطرف ومعادية لليهود، ولكن مظاهرة لندن المؤيدة للفلسطينيين الثانية في الحقيقة مسيرة متوهمة، لا علاقة لها بالواقع، حسب وصف صحيفة The Guardian البريطانية.
وتجمَّع في المسيرة الأولى عشرات الآلاف من المحتجين في منطقة هايد بارك كورنر عند الظهر، وساروا في سلام ووقار، وهم يلوحون بأعلامهم ويطالبون بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، متجهين إلى مقر السفارة الأمريكية في حي فوكسهول على نهر التايمز في وسط العاصمة البريطانية.
أمَّا المسيرة الثانية، حسب وصف الصحيفة البريطانية، فقد وقعت غالباً في مخيلة المعلقين والسياسيين اليمينيين الذين أخذوا يصرون على وصف مظاهر التضامن مع القضية الفلسطينية بأنها ليست إلا تحركات استفزازية تحمل التهديد.
رئيس الوزراء البريطاني يقود عملية شيطنة مظاهرة لندن
ووصف رئيس الوزراء البريطاني هذه التجمعات في خطاب له في 1 مارس/آذار بأنها “تجسيد لقوى تسعى إلى تمزيق” ديمقراطيتنا”.
لكن الأمر لم يقتصر عليه، فقد تبِعه في حملة الهجاء هذه المفوض الذي عيَّنته الحكومة لمكافحة التطرف، روبن سيمكوكس، والذي زعم يوم الجمعة 8 مارس/آذار بأن هذه المسيرات “وسط متساهل مع التطرف”، ثم تصاعد الأمر إلى العنوان المثير للهلع الذي خرجت به صحيفة The Daily Telegraph في صفحتها الأولى، وقالت فيه: “لقد صارت لندن اليوم منطقة محظورة على اليهود”.
يقولون إن المظاهرة جعلت لندن محرمة على اليهود رغم المشاركة اليهودية اللافتة بها
كان من الصعوبة بمكانٍ التوفيق بين هذه المزاعم التحريضية من مسؤولي الحكومة وبين ذلك الحشد الكبير المسالم الذي سار في وسط لندن بعد ظهر أمس، وتقاسمَ الشوارع مع المتنزهين والمتسوقين، واجتمعت فيه مختلف الجاليات اللندنية والبريطانية، وشارك فيه مئات من اليهود المؤيدين للسلام والغاضبين من وصفهم بالمتطرفين.
حمل سايمون شو، مدرس العلوم السياسية، لافتة كتب عليها “أنا يهودي، وأشارك في أمان تام على نفسي في مسيرة لندن من أجل فلسطين”. واستنكر أي زعم بأن الجالية اليهودية تتحدث برأي واحد، وقال: “أنا أنحدر من تقاليد يهودية لندنية مختلفة عن تلك التي يروق لوسائل الإعلام تقديمها”، “فأنا يهودي ثقافياً، ولكني مناهض للصهيونية، وملحد واشتراكي”.
نائب زعيم حزب الخضر يهودي ويقول إنه استقبل دوماً بالترحاب في هذه المسيرات
لا يعني ذلك أن خطاب الانقسام ليس مؤثراً في الناس، فقد زعم جيك واليس سيمونز، محرر صحيفة The Jewish Chronicle، أن أغلبية اليهود يتجنبون الذهاب إلى لندن في أيام السبت التي تشهد مسيرات خشية ترهيبهم أو التعرض لهم، و”كثير من اليهود يشعرون بالعزلة في الوقت الحالي”.
في المقابل، رفض زاك بولانسكي، نائب زعيم حزب الخضر والنائب بهيئة لندن التشريعية، هذا التوصيف للمظاهرات، وقال إنه يهودي ودائماً ما استُقبل بالترحيب للخطابة والمشاركة في هذه المسيرات، “فليس هناك مجتمع يهودي واحد. بل مجتمعات يهودية متنوعة”، و”علينا أن نتسامى عن دعاة الحرب، سواء حماس أم بنيامين نتنياهو، وأن نتوخى في النهاية سبيلاً لتحقيق السلام. ويتضمن ذلك الإقرار بأن اليهود البريطانيين ليسوا مسؤولين عن أفعال الحكومة الإسرائيلية، وبأن المسلمين البريطانيين ليسوا كذلك مسؤولين عن أفعال حماس”.
يهودي يعترف بأن أهله سيغضبون لو علموا بمشاركته في المظاهرة
وقال مشارك يهودي في المسيرة، اسمه هارون، إن هذه أول مرة يشارك في مثل هذه المسيرات، وإن أهله سيغضبون إذا علموا بوجوده هنا، لكنه رأى أن المشاركة هي القرار الصائب، “ففي سنوات النشأة لا يُحدثونك إلا عن تصور واحد للعالم، ثم يشتد عودك وتشاهد الأخبار”، فترى تصورات أخرى مختلفة.
أمَّا حاييم بريشث (74 عاماً) فكان أكثر ثقة برأيه في المشاركة، فقد حمل لافتة يقول فيها إنه ابن لوالدين ناجين من المحرقة، ومن ثم فهو مناهض لهذه الحرب. ويقول إنه كان ضابطاً بالجيش الإسرائيلي في شبابه، ومع ذلك لم يُلاقِ في هذه المسيرات المناهضة للحرب إلا الترحاب.
وقال متظاهر يهودي آخر، يُدعى واليس سيمونز، إن تصريحات رئيس الوزراء البريطاني توعز إلى الشرطة بالشروع في “المراقبة البوليسية” للمسيرات، وليس “إدارتها”، ويعني ذلك إيقاف الهتافات ومصادرة اللافتات، لكن عواقب هذا الأمر لا نهاية لها، “إذا بدأت بحظر اللافتات أثناء الاحتجاج، فما الحدُّ الذي ستقف عنده؟”.
حمل أليستر بلانت، مستشار التنمية الدولية شبه المتقاعد، لافتة باللغتين العبرية والعربية، يدعو فيها إلى وقف إطلاق النار، والإفراج الفوري عن المحتجزين الإسرائيليين. ورفع شاليم بينيت (32 عاماً) غصن زيتون. ولافتة تقول: “متزلجون في مناهضة الإبادة الجماعية”، ولافتة أخرى تقول: “هل نبدو لك متطرفين؟!”.
مهما رغبت الحكومة البريطانية وأنصارها في تسطيح الأمر ووصم هذه المسيرات بأنها وسط للمتطرفين، فإن الخطاب المتداول في المسيرات يؤكد أن القضية أعقد بكثير من ذلك وأن المشاركين أكثر تنوعاً مما يقال، وأن لندن لا تحظر الحركة على اليهود ولا غيرهم، بل تقاوم الثنائيات التبسيطية، التي تقسم الناس إلى إما معنا وإما ضدنا.
وتقول المشاركة اليهودية منَّا داوم (64 عاماً)، وهي معالجة نفسية من منطقة كيلبورن، إنها لا تشارك مع “الكتلة اليهودية” في المسيرة، بل تفضل دائماً السير تحت الراية التي تختارها، وقد اختارت اليوم أن تكون رايتها المرفوعة هي العلم الفلسطيني؛ وقد رفعت في المسيرات السابقة لافتة تقول: “اليهود كبار السن يناهضون الإبادة الجماعية”. وقد جعلت شاغلها الأول استهجان قصف المدنيين في غزة، لكنها استنكرت كذلك الآراء التي ترى أنها تريد اختزال لندن في تصورات معينة، وتحويلها إلى مكان للتعصب، وليس التسامح، “فكل ما عليك أن تأتي إلى هنا، لترى بأمِّ عينيك أن المسيرات لا علاقة لها بهذه المزاعم”.