تلقى عملية انسحاب القوات الهندية من جمهورية المالديف اهتماماً كبيراً في آسيا، وينظر لها على أنها نقطة تحول استراتيجي في موازين القوى بين الهند الصين في المحيط الهندي.
وجاء الانسحاب بناءً على طلب رئيس جمهورية المالديف الجديد محمد مويزو، الذي أمر بعد فترة وجيزة من توليه منصبه في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بسحب أفراد الجيش الهندي وأصوله من البلاد والبالغ عددهم 89 عسكرياً، وهو القرار الذي ينظر له على أنه له علاقة قوية بالتنافس الصيني الهندي في المحيط الهندي وعلامة على فقدان نيودلهي أحد معاقل نفوذها التاريخية.
وقالت وزارة الدفاع المالديفية إن 25 من الجنود الذين نشرتهم الهند في جمهورية المالديف بدأوا الانسحاب من البلاد قبل 10 مارس/آذار الجاري، وسيتعين على الجنود وأفراد الدعم الهنود المتبقين في البلاد الانسحاب بحلول 10 مايو/أيار المقبل، حسب الاتفاق المبرم مع الهند.
ماذا كانت القوات الهندية تفعل في جمهورية المالديف؟
ومعظم هؤلاء الجنود الهنود مكلفين بتشغيل مروحيتين وطائرة صغيرة كانت قد تبرعت بها الهند لـ”جمهورية المالديف”، وقد تقرر استبدالهم بموظفين مدنيين هنود لتشغيل الطائرات، الأمر الذي نظر إليه على أنه بمثابة حل وسط بين البلدين بعد رفع رئيس المالديف محمد مويزو شعار India Out (اطردوا الهند أو لتخرج الهند) خلال حملته الانتخابية التي تمحورت بشكل كبير حول هذه القضية، حيث أعلن في حملته الانتخابية أنه سيضع حداً لموقف البلاد التقليدي المتمثل في إعطاء الأولوية للعلاقات مع الهند في سياستها الخارجية.
وجمهورية المالديف دولة صغيرة تبلغ مساحتها نحو 298 كلم مربع وعدد سكانها نحو 500 ألف نسمة، 98.7% منهم من المسلمين، وتقع جزر المالديف المشهورة بشواطئها الخلابة على بعد نحو 70 ميلاً بحرياً من جزيرة مينيكوي الهندية وعلى بعد نحو 300 ميل بحري من الساحل الغربي للهند القارية، وموقعها في مركز الممرات البحرية التجارية التي تمر عبر المحيط الهندي تضفي عليها أهمية استراتيجية كبيرة للهند.
ولدى الهند والمالديف علاقات وثيقة منذ استقلالهما عن بريطانيا، خاصة منذ دور الهند في إفشال انقلاب وقع في جزر المالديف عام 1988 جرى تنظيمه بمساعدة المتمردين التامل في سيرلانكا.
ومنذ ذلك الحين قدمت الهند مساعدات اقتصادية واسعة النطاق للمالديف، وشاركت في البرامج الثنائية لتطوير البنية التحتية والصحة والاتصالات وموارد العمل، وساهم بنك الدولة الهندي بأكثر من 500 مليون دولار أمريكي للمساعدة في التوسع الاقتصادي في جمهورية المالديف.
كما أدخلت الهند جمهورية المالديف إلى الشبكة الأمنية الهندية في عام 2009، بسبب مخاوف حكومة المالديف من احتمال سيطرة الإرهابيين على أحد منتجعاتها الجزرية نظراً لافتقارها إلى البلاد الأصول العسكرية وقدرات المراقبة.
ولذا وقع البلدان على اتفاقية تضمن بشكل دائم وجود طائرتين هليكوبتر في البلاد لتعزيز قدراتها في المراقبة وقدرتها على الاستجابة السريعة للتهديدات، إضافة لمساعدة الهند المالديف في وضع رادارات على جميع السفن المملوكة للدولة الجزيرة، وربط سلسلة الرادارات الساحلية في جمهورية المالديف بنظام الرادار الساحلي الهندي، ووفقاً للاتفاق يفترض أن يقوم خفر السواحل الهندي بتنفيذ طلعات دورنير منتظمة فوق الدولة الجزيرة للبحث عن أي تحركات أو سفن.
وكان بين البلدين خلاف حدودي تم حله بعد تخلي المالديف عن مطالبتها بجزيرة مينيكوي بموجب معاهدة الحدود البحرية لعام 1976 بين البلدين.
وأتاح موقع جزر المالديف الاستراتيجي للهند مراقبة جزء مهم من المحيط الهندي. لكن العلاقة بين البلدين توترت خلال الأشهر القليلة الماضية، ويرجع ذلك جزئياً إلى خطاب مويزو القوي ضد دلهي.
ماذا حدث ودفع كثيراً من السكان للمطالبة بـ”انسحاب القوات الهندية من جمهورية المالديف”؟
قبل تولي الرئيس الحالي السلطة في جمهورية المالديف، انتقدت المعارضة (التي كان رئيس مرشحها)وجود القوات الهندية بالبلاد في ظل الخوف من أن الوجود العسكري الهندي الدائم يثير الجدل حول سيادة الدولة صغيرة المساحة والسكان.
وقبل عامين شارك المئات من الأشخاص في جمهورية المالديف في مسيرات تطالب بطرد الأفراد العسكريين الهنود، ونظم المظاهرات السلمية، التي تتركز معظمها في العاصمة ماليه، تحالف من أحزاب المعارضة بقيادة الرئيس السابق عبد الله يمين، الذي سُجن عام 2019.
وفي قلب الجدل حول الوجود الهندي في جزر المالديف ظهرت مسألة حوض بناء السفن الذي تموله الهند لصالح خفر السواحل المالديفي، والذي يجري بناؤه على جزيرة أوثورو ثيلا فالهو المرجانية، بالقرب من العاصمة ماليه، حسبما ورد في تقرير لموقع TRT world.
وذكرت نسخة من اتفاقية تم تسريبها قبل عامين من الاتفاقية الخاصة بالحوض أن أفراداً عسكريين هنوداً سيتمركزون هناك وسيُسمح لسفن البحرية الهندية باستخدام حوض بناء السفن لسنوات قادمة.
وآنذاك، انتقدت المعارضة الاتفاقية وقالت إنه كان ينبغي مناقشتها في البرلمان ومشاركة التفاصيل مع المشرعين.
كما اتهمت المعارضة حكومة الرئيس الرئيس السابق إبراهيم صليح بتوقيع اتفاقيات سرية مع نيودلهي تسمح للقوات الهندية بالتمركز بشكل دائم في جمهورية المالديف.
ويشعر أهل المالديف بالقلق من التدخل الخارجي، وشكّل موضوع إخراج القوات الهندية المطلب الرئيسي في الأجندة الانتخابية للرئيس الحالي، ولكنّ نقاداً غربيين وهنوداً يصفونه بأنه مُوالٍ للصين.
هل تأتي الصين لتحل محل الهند؟
وكان انسحاب القوات الهندية من جمهورية المالديف بمثابة وعد انتخابي قطعه مويزو، الذي تولى السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني، الأمر الذي يهدد النفوذ الكبير الذي تمتعت به الهند في هذه الدولة الجزرية الصغير منذ استقلالها، وسط حديث أن هذا سيقابله تحول البلاد نحو الصين.
ويقول الخبراء إن جمهورية المالديف هي واحدة من دول جنوب آسيا الرئيسية التي تتنافس الصين والهند بشأن النفوذ فيها، وهو أمر سيكون له عواقب على المنطقة الأوسع.
وأقرضت الصين جمهورية المالديف أكثر من مليار دولار على مر السنين، معظمها لتمويل البنية التحتية والتنمية الاقتصادية، وأصبحت بكين أكبر دائن للبلاد.
ورفعت كل من بكين وجمهورية المالديف علاقاتهما إلى شراكة استراتيجية شاملة في يناير/كانون الثاني الماضي عندما ذهب مويزو إلى الصين في زيارة دولة، ولم يقم بعد بزيارة الهند، على عكس زعماء جزر المالديف السابقين.
وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، وقعت حكومة المالديف اتفاقية “مساعدة عسكرية” مع الصين، الأمر الذي أثار بعض القلق في دلهي.
وقال الرئيس مويزو إن الصين ستقدم أسلحة غير فتاكة مجاناً، بالإضافة إلى تدريب قوات الأمن المالديفية (قامت كل من الهند والولايات المتحدة بتدريب الجيش المالديفي حتى الآن).
ويعلق عظيم ظاهر، المحلل السياسي المالديفي، في تصريح لـ”BBC” قائلاً: هذا أمر غير مسبوق، إنها المرة الأولى التي توقع فيها المالديف اتفاقية دفاعية مع بكين لتقديم المساعدة العسكرية”.
وأضاف: “كنا نعلم أن السيد مويزو سيقيم علاقات أوثق مع الصين من حيث الاستثمار ورأس المال، لكن لم يتوقع أحد أن يذهب إلى هذا الحد”.
لكن بكين تنفي وجود أي خطط عسكرية طويلة المدى في المالديف.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وين بين للصحفيين في بكين اليوم الثلاثاء: “نحن ندعم جزر المالديف في حماية سيادتها الإقليمية”.
وأضاف: “نحن ندعم أيضاً جزر المالديف في تطوير التبادلات الودية والتعاون مع جميع الأطراف على أساس استقلالها وحكمها الذاتي”.
وتشكك الهند في الوجود المتنامي للصين في المحيط الهندي ونفوذها في جزر المالديف وكذلك في سريلانكا المجاورة.
في المقابل، يقول الدكتور لونغ شينغ تشون، رئيس معهد تشنغدو للشؤون العالمية، وهو مركز أبحاث صيني: “إنها علاقة طبيعية بين البلدين. إذا أرادت الصين أن يكون لها وجود عسكري في المحيط الهندي، فربما يكون لديها خيارات أفضل من جزر المالديف”.
وعلى الرغم من تأكيدات بكين، يعتقد الكثيرون أن الصين تتحرك بسرعة للاستفادة من هذه الفرصة، حيث كانت الحكومة السابقة، بقيادة الرئيس إبراهيم محمد صليح، تتبع نهج “الهند أولاً”.
خلال حملته الانتخابية، اتهم مويزو الإدارة السابقة بعدم الكشف عن التفاصيل الدقيقة لاتفاقيات مالي مع دلهي. ويواجه الآن انتقادات مماثلة بالنسبة للصين.
يقول ظاهر: “ليس لدينا أي تفاصيل عن معظم الاتفاقيات التي وقعها خلال زيارته لبكين”، وأردف قائلاً: “الرئيس مويزو ليس أفضل من الحكومة السابقة عندما يتعلق الأمر بالكشف عن تفاصيل مثل هذه الاتفاقات”.
وفي الشهر الماضي، سمحت إدارة مويزو لسفينة الأبحاث الصينية “شيانغ يانغ هونغ 3″، بالرسو في مالي على الرغم من معارضة نيودلهي، أكدت حكومة جزر المالديف أنها زيارة عادية.
لكن ذلك لم يقنع بعض الخبراء الهنود الذين كانوا يخشون أنها قد تكون مهمة لجمع البيانات التي يمكن أن يستخدمها الجيش الصيني لاحقاً في عمليات الغواصات.
الهند ترد ببناء قاعدة بحرية جديدة قرب جزر المالديف
وقد نفى رئيس المالديف في وقت سابق سعيه لإعادة رسم التوازن الإقليمي من خلال جلب قوات صينية لتحل محل القوات الهندية.
وسط التوترات المستمرة في العلاقات، أمرت دلهي بإنشاء قاعدة بحرية جديدة في الأرخبيل الهندي لاكشادويب، بالقرب من جزر المالديف.
وقالت البحرية الهندية إن السفينة “آي إن إس جاتايو” المتمركزة في جزيرة مينيكوي ستعزز جهودها في “عمليات مكافحة القرصنة والمخدرات في غرب بحر العرب”.
المشكلة أن المالديف تعتمد على الهند في واردات الغذاء
كما أثارت تحركات مويزو المناهضة للهند قلق الكثيرين في بلاده لأسباب أخرى تتعلق باعتماد جزر المالديف على الهند في واردات المواد الغذائية الأساسية والأدوية ومواد البناء.
وبعد جائحة كوفيد، كانت الهند أيضاً ترسل أكبر عدد من السياح إلى جزر المالديف، حسب تقرير “بي بي سي”.
والآن ظهرت دعوات في الهند على وسائل التواصل الاجتماعي إلى “مقاطعة” جزر المالديف بعد أن أدلى بعض المسؤولين بتعليقات مثيرة للجدل حول رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
واندلع الجدل أثناء وجود مويزو في بكين، وكان لافتاً أن رئيس المالديف طلب من السلطات الصينية البدء في إرسال المزيد من السياح لاستعادة المركز الأول الذي كانت البلاد تشغله قبل الوباء.
ومنذ ذلك الحين، بدأ السياح الصينيون بالزيارة بأعداد كبيرة. ووفقاً لبيانات وزارة السياحة، فإن من بين ما يقرب من 400 ألف سائح زاروا جزر المالديف في الشهرين الأولين من العام، كان 13% منهم من الصين. وتراجعت الهند إلى المركز الخامس.