أعلنت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة بالأمس عن جوائز الأوسكار، وهي الجائزة الأشهر والأهم في عالم السينما. وكما يحدث كل عام تقريبا، أتت نسبة كبيرة من الجوائز لتخلط بين التقدير الفني للأعمال الحاصلة عليها، وتغذية “أيدلوجيات” يبدو أن الأكاديمية تتبناها.
كرّمت جوائز الأوسكار هذا العام عددا كبيرا من الأفلام، لكنها لا تكرم هنا أفلاما فحسب، بل أفكارا وقضايا ناقشتها الأعمال الفائزة، أو ألقت عليها الضوء حتى لو بصورة هامشية.
ونستعرض فيما يلي بعضا من أهم الجوائز العابقة برائحة الأيدلوجيا:
الاعتراف مأساة غزة
يعاني العالم اليوم من حربين دائرتين، لكن في نظر بعض الدول فإن الأمور لا تقاس بهذه الطريقة؛ فبينما يُقصف ويُجوّع أهل غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما زالت الحرب الوحيدة التي تستحق النظر لضحاياها بعين الشفقة هي الحرب الروسية على أوكرانيا، وعلى هذا الأساس فاز فيلم “20 يوما في ماريوبول” (20 Days In Mariupol) بجائزة أفضل فيلم وثائقي.
تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من الصحفيين الأوكرانيين المحاصرين في مدينة “ماريوبول” خلال رحلتهم لتوثيق الحرب، وقال مخرجه مستيسلاف شيرنوف في خطاب تسلمه للجائزة “هذه أول أوسكار في التاريخ الأوكراني ويشرفني ذلك، لكن ربما سأكون أول مخرج سيقول إنني أتمنى لو لم أصنع هذا الفيلم أبدا. وأود لو أقدر على مبادلة هذه الجائزة مقابل عدم مهاجمة روسيا لأوكرانيا واحتلالها لمدننا”.
على الجانب الآخر، فاز فيلم “منطقة الاهتمام” (The Zone of Interest) بجائزة أوسكار أفضل فيلم دولي بعد تنافسه مع مجموعة من أهم أفلام العام؛ مثل: “أنا كابتن” (Lo Capitano)، و”غرفة المدرسين” (The Teachers’ Lounge)، و”ومجتمع الثلج” (Society of the Snow)، و”أيام مثالية” (Perfect Days).
ويقدم الفيلم تناولا مختلفا للهولوكست الذي راح ضحيته ملايين اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، فبدلا من التركيز على قصص الضحايا يضعهم المخرج في الخلفية بينما يضع في المقدمة عائلة أحد ضباط النازية، تحيا حياة مثالية بالقرب من أسوار معسكر الاعتقال، معدّة ما يحدث داخل هذه الأسوار فعل اعتيادي، مثل شروق الشمس أو غروبها.
وفجّر مخرج وكاتب الفيلم جوناثان غلايزر مفاجأة للمشاهدين بخطبته التي أدانت إسرائيل، بل وأطلق عليها وصف “الاحتلال” الذي يعدّ استخدامه في عالم السينما أمرا نادرا، ورأى أن هذا الاحتلال يفعل ما فعله النازيون أنفسهم منذ عقود من تجريد الضحايا من إنسانيتهم.
وقال في خطبته القصيرة التي استدعت تصفيق الحاضرين -بما يعدّ أهم تصديق من نجوم هوليوود على حقيقة ما يحدث في غزة-، “جميع خياراتنا اتُخذت لتواجهنا في الحاضر. ولا نقول: انظروا ماذا فعلوا في الماضي، بل انظروا إلى ما نفعله الآن. نحن نقف هنا الآن بصفتنا رجالا يدحضون يهوديتهم، وتعرض الهولوكوست للاختطاف على يد احتلال، مما أدى لاندلاع صراع لكثير من الأبرياء. سواء كانوا ضحايا هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في إسرائيل أو الهجوم المستمر في غزة، جميعهم ضحايا هذا التخلي عن الإنسانية. كيف نقاوم ذلك؟”.
صوابية سياسية.. ودَين مؤجل
على صعيد آخر، كان عدد كبير من نجوم هوليوود أطلقوا منذ سنوات قليلة حملة “الأوسكار شديدة البياض” (#OscarsSoWhite) المنادية بالمزيد من التنوع العرقي في الجوائز، وذلك بعد عدد من حفلات الجوائز التي لم يفز فيها بالجوائز الأساسية سوى أصحاب العرق الأبيض.
وحاولت الأكاديمية بعد تلك الحملة زيادة التنوع العرقي درءا للاتهامات بالعنصرية، وربما كانت 2023 من أكثر السنوات المتنوعة عرقيا، الأمر الذي صعب تطبيقه في 2024 وقد أُعطيت 3 من جوائز التمثيل إلى ممثلين بيض، بينما أُعطيت جائزة واحدة فقط لدافين جوي راندولف عن فيلم “الباقون” (The Holdover)، وفيه قدمت شخصية “ماري” المرأة السمراء التي تعمل في مطعم بإحدى المدارس الثانوية المرموقة، وتفقد ابنها في حرب فيتنام مثل ملايين غيره من الشباب الأسود الفقير الذين ضحّت بهم الولايات المتحدة في حربها التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
قد تُعطي شخصية “ماري” في الأساس انطباعا بأنها مضافة لزيادة التنوع العرقي والجندري بالفيلم، فلم تُربط بشكل أصيل مع باقي شخصياته، ولم تأخذ صورة الأم الغائبة في حياة الفتى “أغنوس” كما فعل المعلم “بول” مع المراهق ذاته عندما مثّل صورة الأب الغائب، وذلك لا ينفي تقديمها لأداء جيد ومنافس بالفعل على الجائزة، فبدت الجائزة كما لو أنها ترتيب لأوراق الأوسكار، وإضافة ممثلة من عرق آخر لقائمة الفائزين والفائزات.
“برومثيوس” الأميركي يحصد كل الجوائز
في المقابل، فاز فيلم “أوبنهايمر” (Oppenheimer) بنصيب الأسد من الأوسكار هذا العام محققا 7 جوائز، منها الجائزة الكبرى “لأفضل فيلم”. والفيلم مقتبس عن كتاب بعنوان “برومثيوس الأميركي”، ويمثل جزءا كبيرا من أيدلوجيا مشبّعة بتجريد الأشخاص من إنسانيتهم، وترى القوة الغاشمة هي الحل الأفضل.
لعب اختراع “أوبنهايمر” القنبلة الذرية دورا محوريا في موازين القوة العالمية، وترجيحها في النهاية لكفة الولايات المتحدة، فبينما كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها مع استسلام ألمانيا النازية، جاءت هذه القنبلة لتظهر نوعا جديدا من القوى القادرة على إبادة مدينة عن بكرة أبيها بضغطة زر واحدة.
يستعرض الفيلم قصة التحقيق مع “أوبنهايمر” بعدما بدأ في الشعور بالذنب تجاه تطويره للقنبلة الذرية ومعارضته للعمل على قنابل أخرى أكثر قوة وتدميرا، وشبّه الفيلم والكتاب من قبله الرجل بـ “برومثيوس” وهو أحد الجبابرة في الأساطير اليونانية الذي سرق النار وأهداها للبشر، لذلك عوقب بوضعه بين صخرتين والرخ ينهش كبده مرة بعد الأخرى.
جائزة الأوسكار من أرفع الجوائز العالمية بالتأكيد، ولكن يجب إعادة النظر فيما تحمله من قيم في عصرنا الحالي، خاصة وقد دأبت على مر السنوات على التعبير عن أجندات واضحة، بدلا من تقييمها الأفلام بشكل مستحق.