أدت هجمات فيليب فيل التي وقعت في الجزائر عام 1955، واستهدفت خلالها المقاومة الجزائرية المسلحة مستوطنين فرنسيين (وصفوا بالمدنيين) وأهدافاً عسكرية، إلى انتقام فرنسي وحشي أدى بدوره إلى مقتل ما بين 300 ألف إلى مليون جزائري، وكانت نقطة تحول في حرب الاستقلال الجزائرية على الاحتلال الفرنسي. وزرعت أيضاً بذور عنف مستقبلي في الجزائر وفي أنحاء العالم.
وعلى الأمريكيين الآن مراجعة السياق التاريخي للصراع الفرنسي الجزائري وتطور المقاومة الجزائرية عند تحليلهم لحرب غزة الحالية والوضع الإسرائيلي الفلسطيني ككل، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ويقول الموقع الأمريكي إن التركيز المبالغ فيه على أحداث محددة مثل هجمات فيليب فيل التي نفذتها المقاومة الجزائرية أو هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يهدد بإغفال الأهداف والأسباب الأكبر وراء أي حركة تمرد وسوء فهم للوضع العام والقضايا الأساسية التي تحرك الصراع.
رفض فرنسي لمنح الجزائريين بعض الحقوق
قبل مذبحة فيليب فيل، كان الجزائريون الوطنيون يقاومون الحكم الفرنسي منذ أكثر من قرن من الزمان، وكانت شخصيات مثل الأمير عبد القادر تقود المقاومة في سنوات 1830.
وقامت ثورات كبيرة خلال سنوات 1860 و1870، وطالب من يوصفون بالجزائريين المعتدلين في البداية بإصلاحات ودستور وتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي الشعب الجزائري. ولكن لما لم يُستجَب لطلباتهم، تصاعدت المطالب لتشمل الاستقلال، ولتتطور في النهاية إلى مقاومة مسلحة.
ورفض الفرنسيون، الذين كانوا يركزون على الجانب العسكري، مخاطبة هذه المظالم السياسية. فأدان بعض قادتهم ما وصفوها بـ”التكتيكات الإرهابية” لجبهة التحرير الوطني، بينما رأى آخرون أن هذه المقاومة جزء من تهديد شيوعي. ودافع كثيرون في فرنسا، ومستوطنوها في الجزائر، بقوة عن الاستعمار ورفضوا المطالبات الجزائرية بالاستقلال.
غاية حماس مثل المقاومة الجزائرية إنشاء دولة مستقلة
و”الغاية” الكبرى لحماس، مثلها في ذلك مثل جبهة التحرير الوطني قائدة المقاومة الجزائرية، ليست العنف الذي حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول في حد ذاته، بل إنشاء دولة مستقلة.
ومثل الجزائريين، يدافع الفلسطينيون منذ فترة طويلة عن إقامة دولة فلسطينية، وحل عادل للصراع، وحماية حقوق الإنسان، ووقف المستوطنات وعنف المستوطنين، وإعادة هيكلة المؤسسات الفلسطينية، وتغيير السياسات الأمريكية، وتلقي الخدمات والموارد، وإنصاف الفلسطينيين وحمايتهم من انعدام المساواة والتمييز. وحين استطلع المركز العربي الرأي العام العربي حول الأسباب التي دفعت حماس إلى شن هجومها، وجد فهماً واسعاً للسياق التاريخي والأهداف القومية.
فبينما ذكر 35% من أفراد عينة الاستطلاع أن السبب الأهم هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، قال 24% إن السبب هو استهداف إسرائيل للمسجد الأقصى، و8% قالوا إنه الحصار المستمر على قطاع غزة، وأرجعه 6% إلى استمرار الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين.
وكثيراً ما يركز المراقبون الغربيون على نية حماس المعلنة بتدمير إسرائيل، مثلما جاء في الميثاق التأسيسي للحركة. إلا أن هذا التركيز يغفل عرض حماس الذي قدمته عام 2008 بهدنة تقوم على قبول حدود عام 1967 والاعتراف ضمنياً بإسرائيل.
ويغفل أيضاً عن بيان حماس لعام 2017، الذي أشار إلى قبول حدود عام 1967 والاستعداد للنظر في أي صفقة يوافق عليها الفلسطينيون بالاستفتاء. ويفترضون أيضاً أن موقف حماس الأصلي الذي يوصف بالمتشدد هو الخيار الوحيد لحل مقبول بين الفلسطينيين. ويغفل هذا الافتراض السوابق التاريخية للتسويات عن طريق التفاوض، مثل الفرص الضائعة للسلام عن طريق التفاوض في الجزائر.
العنف الفرنسي أدى إلى تقوية المقاومة الجزائرية العسكرية
والدرس الثاني المستفاد من التجربة الفرنسية في الجزائر بمثابة تحذير أيضاً، فالعنف الفرنسي المفرط ضد الجزائريين، بما يشمل إصدار أوامر صريحة بـ”عقاب جماعي”، أدى إلى نتائج عكسية في نهاية المطاف وزاد الدعم لـ”المقاومة الجزائرية المسلحة”.
واعتُبر هذا النهج، الذي كان من مظاهره أعمال عسكرية عنيفة وتدمير مدن وقرى، مبالغاً فيه ولم يؤدِّ إلا إلى زيادة عزيمة الجزائريين على الانضمام إلى المقاومة.
ودفع الجزائريين الذين كانوا يوصفون بالمعتدلين أيضاً، الذين كانوا يسعون في البداية إلى التوصل إلى تسوية سياسية، نحو دعم المقاومة الجزائرية العسكرية بسبب السياسات الفرنسية الوحشية. وأدى هذا التحول إلى تقليص فرص الحوار السياسي والحل السلمي للصراع.
فرنسا هجّرت مليون جزائري مثلما يحدث للغزاويين
وثمة سياسة فرنسية مدمرة أخرى حققت بعض النجاح العسكري على المدى القصير ولكنها في نهاية المطاف جاءت بنتائج عكسية، ألا وهي التهجير القسري، الذي كان يهدف إلى “عزل الناس عن جبهة التحرير الوطني؛ وبالتالي حرمانها من الملجأ والإمدادات”. وأجبر ذلك أكثر من مليون مدني على ترك منازلهم والرحيل إلى أماكن “مزدحمة ومكدسة يموت فيها الأطفال من الجوع” والبرد.
وبينما كان يُنظر إلى هذه الأساليب في البداية على أنها حققت نجاحاً عسكرياً على المدى القصير، يقول المؤرخ أليستر هورن إنها كانت في نهاية المطاف هزيمة ذاتية، وأفضت إلى إدانة دولية وزيادة الدعم لـ”المقاومة الجزائرية”.
وهذه الممارسات شبيهة بالعمليات العسكرية الإسرائيلية الحالية في غزة، التي تلجأ للقتل والتدمير على نطاق مهول، والعقاب الجماعي، والمعاملة اللاإنسانية للمحتجزين. ويُنظر إلى هذه الإجراءات، مثل تلك التي حدثت في الجزائر، على أنها ستفضي إلى نتائج عكسية، وبالتالي زيادة الدعم للمقاومة المسلحة.
وما زالت الجزائر والعالم كله يدفع ثمن العنف الفرنسي
وقَبِل الفرنسيون في نهاية المطاف استقلال الجزائر عام 1962 بعد فشل قمع المقاومة الجزائرية ، لكن العنف الذي زُرعت بذوره أثناء الصراع كان له آثار طويلة الأمد، حيث ساهم في وصول حكم استبدادي في الجزائر وساهم في نهاية المطاف بالحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات واتصال حركات فيها بالإرهاب العالمي.
وتعكس حرب غزة الدائرة حالياً نمطاً متكرراً من المقاومة في التجربة الفرنسية، حيث ظهرت جماعات مسلحة مثل حماس وحزب الله، الذي نشأ نتيجة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان عام 1982. ويدل هذا على أنه حتى لو هُزمت حماس، فقد تظهر حركة أخرى إذا لم تُحل المظالم الفلسطينية الأساسية. وسعي إسرائيل لتحقيق نصر عسكري وحشي، وبدعم أمريكي غير مشروط، سيكون له نفس تأثير الهزيمة الذاتية في نهاية المطاف.