أينما تولِّي وجهك في مدينة نابلس بالضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، فستجد ملامح الضائقة الاقتصادية جليَّة وحاضرة، فالمدينة التي كانت ذات يوم مركزاً عامراً للتجارة الفلسطينية أصابها الشلل بسبب التشديد الإسرائيلي على الناس في معايشهم وأعمالهم في عموم الضفة الغربية، حيث بات حصار الضفة الغربية واقعاً قائماً.
في ظل حصار الضفة الغربية من قبل إسرائيل، اضطر الأطفال في سن المدرسة إلى بيع الحلوى مقابل قروش زهيدة، وأُغلقت الفنادق والمطاعم الراقية، وانتشر الرجال العاطلون عن العمل لتدخين السجائر في زوايا الشوارع، وانزوت سيارات الأجرة متوقفة عن العمل، فقد أغلقت قوات الاحتلال طرق الخروج من المدينة والدخول إليها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
حصار الضفة الغربية الحالي يخلق واقعاً غير مسبوق
وقال إياد الكردي، أمين سر غرفة تجارة نابلس: “الأزمات أمر معتاد لدى الشعب الفلسطيني، لكن ما نراه الآن لم نشهده من قبل”. وقال مسؤولون محليون إن مئات العائلات تواصلت معهم لأول مرة للمطالبة بمساعدات مالية أو طعام أو وسائل التدفئة الأساسية.
وقال الكردي: “قبل ذلك، كان لدينا على الأقل الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة”، أمَّا الآن، “فإن الضغط الذي تفرضه إسرائيل على الضفة الغربية يدفع بها إلى حافة الهاوية”.
في الوقت الذي تحاصر فيه إسرائيل غزة وتقصفها، يقول الفلسطينيون إنها تشن كذلك حرباً اقتصادية على الضفة الغربية. فقد فرضت سلطات الاحتلال، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، قيوداً شاملة على الاقتصاد الفلسطيني، وألغت تصاريح العمل، وقطعت سبل الحركة، بل واحتجزت عائدات الضرائب التي تجمعها للسلطة الفلسطينية طيلة أشهر.
وكل يوم، يزداد حصار الضفة الغربية قسوةً، في تكرار للسياسات التي تتبعها في غزة وإن كان بوتيرة مختلفة.
البنك الدولي يحذر من أن مزيداً من الشباب سينضم للمقاومة
وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن هذه الإجراءات، التي تزعم إسرائيل أنها اتُّخذت لأسباب أمنية، أدت إلى خسارة كثير من الفلسطينيين لوظائفهم، وعجزِ أصحاب الأعمال عن دفع الرواتب لموظفيهم، وانخفاض حادٍ في الإنتاج المحلي.
وأثارت الضغوط التي يسببها حصار الضفة الغربية مخاوف من حدوث اضطرابات واسعة النطاق، وإقبال مزيد من الشباب، خاصة في مخيمات اللاجئين الفقيرة، على الانضمام إلى المجموعات المسلحة المقاومة لإسرائيل.
وفي وصفه لنتائج حصار الضفة الغربية من قبل إسرائيل، قال جمال الطيراوي، القيادي في حركة فتح والمنحدر من مخيم بلاطة للاجئين في نابلس: “إنهم [الإسرائيليون] يقتلوننا اقتصادياً”.
وأشار مسؤولون إلى أن آلافاً من أهالي المخيم (البالغ عددهم نحو 33 ألف فلسطيني) كانوا يعملون في إسرائيل قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، معظمهم في عمالة البناء والمقاولات.
البطالة ارتفعت في مخيم بلاطة من 35% إلى 70%
تظهر آثار حصار الضفة الغربية من قبل إسرائيل واضحة في مخيم بلاطة الفلسطيني، إذ يقول أحمد ذوقان، رئيس لجنة خدمات مخيم بلاطة، إن نسبة العاطلين عن العمل في المخيم كانت تبلغ 35% قبل 5 أشهر، لكنها زادت الآن إلى نحو 70%، وكلُّ هؤلاء باتوا بلا أجور ولا رواتب.
وكشف جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني أن معدل البطالة في عموم الضفة الغربية وصل إلى 29% في أواخر عام 2023، وقد تسبب ذلك في انخفاض حاد في الناتج المحلي الإجمالي.
إسرائيل تلغي تصاريح عمل 170 ألف فلسطيني
كان من المفترض أن تمنح اتفاقيات أوسلو السلطة الفلسطينية قدراً من الحكم الذاتي للفلسطينيين في الشؤون المدنية، ومنها الاقتصاد، ليكون ذلك خطوة في سبيل إقرار السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن السلام لم يتحقق قط، ولا يزال الفلسطينيون يعتمدون اعتماداً كبيراً على إسرائيل في توفير الوظائف، والوصول إلى الأسواق الخارجية، وجباية الضرائب، واستيراد المواد الخام والسلع الأساسية.
وأصبح العمال الفلسطينيون على مر السنين العمود الفقري لصناعة البناء في إسرائيل، وصاروا مورداً موثوقاً به للعمالة الرخيصة في قطاعي الزراعة والسياحة. لكن سلطات الاحتلال فرضت، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، حظراً شبه كامل على عمل الفلسطينيين في إسرائيل وفي مستوطناتها في الضفة الغربية.
وقال البنك الدولي إن الحكومة الإسرائيلية ألغت تصاريح العمل لأكثر من 170 ألف عامل فلسطيني. وقال شاهر سعد، أمين الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، إن هناك عشرات الآلاف من الفلسطينيين كانوا يعملون من دون تصاريح، وهؤلاء أيضاً صاروا عاطلين عن العمل.
حتى السلع الطازجة أصبحت صعبة في ظل حصار الضفة الغربية
لكن الأمر لا يقتصر على البطالة، ففي ظل حصار الضفة الغربية من قبل إسرائيل فإن الحصول على المنتجات الطازجة أو غيرها من السلع، ولو من مدن الضفة الغربية، صار أمراً مكلفاً وشاقاً.
فقد عمدت سلطات الاحتلال إلى تقسيم الضفة الغربية بكمائن التفتيش وحواجز الطرق وجدار عازل يبلغ طوله أكثر من 700 كيلومتر ويخترق جميع فلسطين المحتلة في الضفة الغربية.
وقالت منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية إن إسرائيل أقامت على مدى الشهور الخمسة الماضية عشرات من كمائن التفتيش العسكرية الجديدة، وقطعت سبيل القرى والبلدات إلى الطرق الرئيسية.
انفجار قريب.. 67 ألف فلسطيني ممنوعون من الذهاب لأعمالهم ومشكلة كبرى لدى الطلاب
وقال البنك الدولي إن هذه القيود أدَّت إلى تشديد الخناق على التجارة والإنتاج في الضفة الغربية، علاوة على أنها صارت حائلاً يمنع 67 ألف فلسطيني من العودة إلى أماكن عملهم.
وقال الكردي إن قوات الاحتلال أقامت عشرات من البوابات المعدنية والأكوام الترابية لإغلاق الطرق حول نابلس، وقطعت الطرق المؤدية إلى القرى المجاورة. وبات الطلاب المسجلون في جامعة نابلس، ولكنهم يعيشون خارج المدينة، عاجزين عن الذهاب إلى كلياتهم. وتداعت كذلك صناعة الأثاث التي كانت مزدهرة في نابلس بسبب الصعوبات الجمة التي تعترض نقل البضائع من الضفة الغربية وإليها.
وقال مايكل ميلشتاين، المستشار السابق لمكتب تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، إنه إذا استمر الحال على ما هو عليه من دون تخفيفٍ للضغوط، فإن “الانفجار هو الاحتمال الأقرب”.
الأطفال تركوا مدارسهم ليعملوا والخلافات المنزلية تزايدت.. فهل يؤدي ذلك لصعود المقاومة؟
بسبب حصار الضفة الغربية، تصاعدت التوترات الاجتماعية، خاصة في مخيمات اللاجئين المزدحمة، إذ يقول القادة المحليون والسكان إن الخلافات المنزلية تزايدت، واضطر بعض الآباء إلى إخراج أطفالهم من المدارس لتشغيلهم.
وقال حسام الشخشير، نائب رئيس بلدية نابلس، إن الشباب في مخيم بلاطة “يتعرضون لضغوط كبيرة، والبطالة مرتفعة للغاية هناك”، “لكنهم لا يلجأون في الغالب إلى الجريمة”، بل “يثورون على الاحتلال”.
وقال أبو حسام، الذي طلب الكشف عن اسمه المستعار خوفاً من انتقام السلطات، إنه انضم إلى كتيبة محلية من المقاتلين لمقاومة الاحتلال، لأن “المقاومة حق لنا”.
وقالت أمل الطيراوي، مديرة مركز النشاط النسوي في مخيم بلاطة: “لا توجد أم تريد أن ترى أبناءها يُقتلون أو يصابون”، لكن “ماذا تتوقع أن يفعلوا؟” حين يفقدون أشغالهم وأعمالهم.