تحدث مسؤولون في إدارة جو بايدن علناً عن “توقعات” بأن عدوان إسرائيل على غزة سينتهي خلال “أسابيع”، فما الذي يمكن أن يحققه جيش الاحتلال خلال تلك الفترة رغم فشله على مدى شهرين؟
التصريحات الأمريكية بشأن “موعد” نهاية الحرب تأتي في وقت يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الهمجي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو العدوان الذي تخللته هدنة لمدة أسبوع لتبادل الأسرى مع حركة حماس، كسرها جيش الاحتلال صباح الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول واستأنف عدوانه على القطاع.
وسبقها حديث لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن حذر فيه من أن إسرائيل تتجه نحو “هزيمة استراتيجية” في غزة. ففي حديثه الأحد 3 ديسمبر/كانون الأول، حذر أوستن إسرائيل، التي توفر لها إدارة الرئيس جو بايدن دعماً عسكرياً وسياسياً ومالياً غير مسبوق، من أن “المدنيين في قطاع غزة هم مركز الجاذبية، وإذا ما تم دفعهم نحو أحضان العدو، فإنك تستبدل نصراً تكتيكياً بهزيمة استراتيجية”، بحسب ما ورد في تقرير لموقع Axios الإخباري الأمريكي.
ماذا تقول أمريكا عن “موعد نهاية” الحرب على غزة؟
نقلت شبكة CNN الأمريكية الثلاثاء 5 ديسمبر/كانون الأول عن مسؤولين رفيعي المستوى في إدارة جو بايدن قولهم إن واشنطن “تتوقع ألا تستمر العمليات البرية الإسرائيلية في جنوب قطاع غزة أكثر من أسابيع”، مضيفين أنه “بحلول يناير/كانون الثاني، ستتحول إسرائيل إلى استراتيجية أقل كثافة تعتمد بشكل مباشر على استهداف قادة حماس”.
وأوضح المسؤولون للشبكة أن إدارة بايدن أبدت “انزعاجها الشديد” من الأعداد الكبيرة للمدنيين الذين يفقدون حياتهم في القطاع بسبب القصف الإسرائيلي المكثف، وأن جيش الاحتلال والحكومة الإسرائيلية تلقوا “تحذيرات” واضحة ومباشرة من أن إسرائيل عليها أن “تفعل الكثير لتجنب الأضرار المدنية” لأن ذلك من شأنه تقليص أي دعم دولي لا تزال دولة الاحتلال تحظى به.
الجدير بالذكر هنا هو أن إسرائيل لم تحدد موعداً لإنهاء عدوانها المستمر على قطاع غزة، لكن رئيس أركان جيش الاحتلال، هيرتسي هاليفي، أعلن الثلاثاء أن “الهجوم البري دخل مرحلته الثالثة بالفعل”، في مؤشر على ما يبدو على قرب نهاية العدوان، حيث تشير “المرحلة الثالثة” إلى محاولة اجتياح جنوب قطاع غزة برياً.
وبشكل عام يتم شن الحروب لتحقيق أهداف. هذه هي القاعدة التي لا خلاف عليها. وفي هذا السياق، كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، والتي يترأسها بنيامين نتنياهو، قد أعلنت منذ عملية “طوفان الأقصى”، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات الغلاف، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب”، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
ماذا تريد إسرائيل تحقيقه؟
“طوفان الأقصى” لم تحدث من فراغ، وهي الحقيقة التي ليست محل جدال ويقر بها حتى الإعلام الغربي الموالي تماماً لإسرائيل والمتبني لروايتها، لكن نتنياهو وحكومته، التي يصفها الفلسطينيون بأنها فاشية وتسعى لإبادتهم بشكل جماعي، أرادت منذ اللحظة الأولى أن تداري على فشلها الأمني والعسكري الذريع في ذلك اليوم من خلال رفع سقف أهدافها من العدوان على غزة بصورة وصفها مراقبون بأنها “خيالية” وبعد مرور شهرين من هذا العدوان بدأ ذلك الوصف يتأكد على أرض الواقع.
والموقف الأمريكي من العدوان على غزة كان واضحاً تماماً منذ اللحظة الأولى وهو موقف متماهٍ تماماً مع موقف حكومة نتنياهو، وأقدمت إدارة بايدن على ما يصفه الفلسطينيون بأنه “مشاركة فعالة” في العدوان على قطاع غزة، الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون فلسطيني. جاء بايدن وأوستن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن لزيارة إسرائيل تعبيراً عن الدعم المطلق، وشاركوا في اجتماعات قادة الحرب في تل أبيب، كما أرسلت واشنطن حاملات طائرات وغواصة نووية إلى المنطقة وأطلقت جسراً جوياً لنقل العتاد العسكري، والقوات أيضاً، بحسب تقارير أمريكية، للمشاركة الفعالة في العدوان على غزة.
والسؤال هنا: ما الذي يمكن أن تحققه إسرائيل خلال أسابيع من مواصلة العدوان على جنوب قطاع غزة؟ يمكن القول إن حكومة نتنياهو تريد على ما يبدو أن تضع آلياتها وقواتها البرية في بعض الأماكن في الجنوب كما فعلت في شمال غزة ليتمكن رئيس الوزراء، الساعي بكل ما يملك من أدوات أن يظل متشبثاً بالسلطة بأي ثمن، من “تسويق” هذا الأمر على أنه “انتصار” على حماس وإعادة “احتلال” القطاع.
وقياساً على ما حدث في شمال القطاع، ربما لا يكون هذا المشهد الذي يرغب نتنياهو في رسمه بأي شكل مستحيلاً على التحقق، لكنه بالتأكيد سيكون أكثر صعوبة بكثير. فقبل هدنة الأسبوع لتبادل الأسرى، أعلنت إسرائيل حكومة وجيشاً أنها “سيطرت” على شمال قطاع غزة، لكن اتضح أن ذلك الإعلان “ترويجي وسياسي” وليس أمراً واقعاً على الأرض.
قامت فصائل المقاومة في القطاع، وعلى رأسها كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) بتسليم أسرى في وسط مدينة غزة في شمال القطاع، في تجسيد للأمر الواقع على الأرض وهو أن إسرائيل لا تسيطر على شمال القطاع ولم تتخلص من المقاومة هناك كما ادعت. ورغم ذلك، أعلن جيش الاحتلال عن “المرحلة الثانية” ثم “المرحلة الثالثة” من الهجوم البري، وبدأت التوقعات تخرج للعلن بأن “الهجوم البري” قد ينتهي قبل مطلع يناير/كانون الثاني.
هل تحاول أمريكا “كبح جماح” عدوان إسرائيل فعلاً؟
بعد نحو أسبوع من استئناف إسرائيل عدوانها على قطاع غزة لا يبدو أن هناك أي تغيير في وتيرة القصف ولا استهداف المدنيين، على الرغم مما “تقوله إدارة بايدن عن محاولات الضغط على حليفتها للحد من سقوط المدنيين، وهو ما يؤكد عدم اتخاذ أي إجراءات من شأنها إجبار دولة الاحتلال على الإذعان، مثل التهديد بتقييد المساعدات العسكرية مثلاً.
إذ حث كبار المسؤولين الأمريكيين، ومنهم نائبة الرئيس كاملا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، إسرائيل علناً على شن ضربات أكثر دقة وتحديداً في جنوب قطاع غزة لتجنب وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين مثلما تسببت هجماتها في الشمال.
ووفقاً لوزارة الصحة في غزة، استُشهد نحو 900 شخص في غزة في الغارات الجوية الإسرائيلية بين يوم الجمعة ويوم الإثنين، وهو نفس العدد تقريباً الذي استُشهد في الغارات على غزة خلال الأيام الأربعة من السابع وحتى العاشر من أكتوبر/تشرين الأول، ويقل العدد قليلاً عن نظيره في الأيام الأربعة الأولى للهجوم البري على شمال القطاع.
وتأكيداً لعدم وجود تغيير في الموقف الأمريكي، قال مسؤولان أمريكيان لرويترز إن واشنطن تستبعد في الوقت الحالي حجب تسليم الأسلحة أو انتقاد إسرائيل بشدة كوسيلة لتغيير أساليبها؛ لأن الولايات المتحدة تعتقد أن الاستراتيجية الحالية للتفاوض بين الطرفين “بشكل غير معلن” تبدو فعالة.
وذكر مسؤول أمريكي كبير “نعتقد أن ما نفعله يحركهم”، مشيراً إلى تحول موقف نتنياهو من رفض السماح بدخول المساعدات إلى غزة إلى السماح بدخول نحو 200 شاحنة مساعدات يومياً. وأضاف المسؤول أن هذا التحسن جاء نتيجة لدبلوماسية مكثفة وليس تهديدات. لكن التصريحات الصادرة عن الفلسطينيين وعن الأطراف المستقلة تشير إلى أن دخول المساعدات إلى القطاع عبر معبر رفح منذ استأنفت إسرائيل عدوانها تراجعت وتيرته بشكل كبير.
وبرّر المسؤول الأمريكي موقف واشنطن بالقول إن خفض الدعم العسكري لإسرائيل ينطوي على مخاطر كبيرة: “تبدأ في تقليل المساعدات المقدمة لإسرائيل، فتبدأ في تشجيع الأطراف الأخرى على الدخول في الصراع، تُضعف تأثير الردع وتشجع أعداء إسرائيل الآخرين”.
وتصف الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل بأنه لا يتزعزع. ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية غير متأثرة بالمطالبات الدولية بتغيير استراتيجيتها؛ إذ قال أوفير فالك، مستشار نتنياهو للسياسة الخارجية، لرويترز الأسبوع الماضي، عندما سئل عن الضغوط الدولية على إسرائيل: “يجب أن أقر بشعوري بأن رئيس الوزراء لا يشعر بأي ضغط، وأعتقد أننا سنفعل كل ما يلزم لتحقيق أهدافنا العسكرية”.
تمنح الولايات المتحدة إسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة 3.8 مليار دولار سنوياً، تشمل طائرات مقاتلة وقنابل قوية، كما طلبت إدارة بايدن من الكونغرس الموافقة على مبلغ إضافي قدره 14 مليار دولار.
سيث بيندر، مدير المناصرة في مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، قال لرويترز إن مثل هذا الدعم يمنح واشنطن “نفوذاً كبيراً” على كيفية إدارة الحرب على حماس، وأضاف: “حجب أنواع معينة من العتاد أو تأخير إعادة ملء مخزونات الأسلحة المختلفة من شأنه أن يجبر الحكومة الإسرائيلية على تعديل الاستراتيجيات والأساليب لأنه لن يصبح مضموناً بالنسبة لها الحصول على المزيد”، مضيفاً: “حتى الآن، أظهرت الإدارة عدم رغبتها في استخدام هذا النفوذ”.
وتضغط الانتخابات الرئاسية لعام 2024 على بايدن، حتى مع تكثيف كبار مساعديه دعواتهم لكبح جماح إسرائيل. وأي محاولة لخفض المساعدات يمكن أن تضر بالرئيس الديمقراطي من حيث الناخبين المستقلين المؤيدين لإسرائيل بينما يسعى لإعادة انتخابه. كما يواجه بايدن ضغوطاً من فصيل من الديمقراطيين التقدميين الذين يريدون أن تضع واشنطن شروطاً لتقديم المساعدات العسكرية لأقرب حليف لها في الشرق الأوسط، وأن يدعم الرئيس الدعوات إلى وقف فوري لإطلاق النار.
وأكد مصدر أمني إسرائيلي كبير لرويترز أنه لم يطرأ أي تغيير حتى الآن على الدعم الأمريكي لإسرائيل، قائلاً: “في الوقت الحالي هناك تفاهم وهناك تنسيق مستمر”، وأضاف: “إذا غيرت الولايات المتحدة مسارها، فسيتعين على إسرائيل تسريع عملياتها وإنهاء الأمور بسرعة”.
هل يختلف عدوان إسرائيل على جنوب غزة؟
كان العدوان الإسرائيلي على شمال قطاع غزة قد بدأ بقصف جوي مكثف ثم توغل بري واسع النطاق أدى في النهاية إلى محاصرة القوات الإسرائيلية لمدينة غزة، وهي أكبر تجمع سكني بالقطاع، ودخولها.
لكن يزعم المسؤولون الإسرائيليون أنهم ينفذون العمليات في الجنوب بشكل مختلف؛ إذ يسمحون بالمزيد من الوقت للمدنيين لإخلاء مناطق القتال، لكنهم لا يستطيعون الوعد بوقف الخسائر في صفوف المدنيين.
وقال المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، إيلون ليفي، الثلاثاء: “سنواصل حملتنا لتدمير حماس، وهي حملة تتفق معنا الولايات المتحدة بشأنها”، مكرراً المزاعم الإسرائيلية بأن حماس تستخدم النساء والأطفال كدروع بشرية.
وبدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي يوم الجمعة في نشر خرائط على الإنترنت تأمر الفلسطينيين بمغادرة أجزاء من جنوب غزة وتوجههم نحو ساحل البحر المتوسط ورفح بالقرب من الحدود المصرية. وقال بعض السكان إن ما يطلق عليها “المناطق الآمنة” التي طلب منهم الذهاب إليها تعرضت أيضاً لإطلاق نار؛ ما أدى إلى سقوط شهداء.
وذكر مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، أن واشنطن تتوقع من الإسرائيليين الالتزام بعدم مهاجمة تلك المناطق. وقال مسؤول أمريكي ثانٍ لرويترز إن حقيقة أن إسرائيل أصبحت أكثر تروياً في تحديد المناطق التي يجب على المدنيين تجنبها هي علامة على أن الضغوط الأمريكية تؤتي ثمارها.
وأضاف أن واشنطن تريد من إسرائيل أن تكون أكثر دقة في توجيه الضربات في جنوب غزة، ولكن من السابق لأوانه قول ما إذا كانت إسرائيل قد أخذت هذه النصيحة في الاعتبار. وقال سكان وصحفيون على الأرض إن غارات جوية إسرائيلية مكثفة استهدفت جنوب غزة الإثنين؛ ما أسفر عن استشهاد وإصابة عشرات الفلسطينيين.
وقال عمر شاكر، مدير منظمة هيومن رايتس ووتش في إسرائيل وفلسطين: “تشير جميع المؤشرات والتقارير إلى استمرار نفس نمط إسقاط القنابل الثقيلة واستخدام المدفعية في مناطق مكتظة بالسكان” منذ استئناف العدوان الإسرائيلي. وذكرت منظمة العفو الدولية الثلاثاء أنها وجدت أن ذخائر أمريكية الصنع قتلت 43 مدنياً في غارتين جويتين إسرائيليتين في غزة.
الخلاصة هنا هي أن إسرائيل تواصل عدوانها على جنوب القطاع بنفس الأسلوب والشراسة والتكثيف في الشمال، على الرغم من “التحذيرات الأمريكية”، وتواصل واشنطن موقفها الداعم بشكل مطلق لإسرائيل، فهل ينتهي العدوان فعلاً خلال “أسابيع” كما تتوقع أمريكا؟ أم أن هدف واشنطن هنا هو الضغط على إسرائيل لتنهي الحرب وتعود لطاولة المفاوضات، مشيرة إلى “موعد “نفاد الصبر”؟