تتميز منطقة كوم الشقافة في مصر، أحد أهم المعالم الأثرية حول العالم، بالطراز الأثري المتمثل في مقابر كتاكومب ذات الطابع الروماني والفرعوني، الذي يمتزج بما يحيطه من أسوار تلف زوار المنطقة من الجنسيات المختلفة تحت حماية أمنية مشددة، لا سيما بعد شهرتها المرتبطة بمسلسل “المداح” للفنان المصري المعروف حمادة هلال.
حظيت مقابر كتاكومب بمسلسل المداح باهتمام كبير، وهي تقع بمنطقة كوم الشقافة داخل منطقة شعبية في حي “كرموز” التابع لمحافظة الإسكندرية، إحدى أهم محافظات مصر، وسواحلها الكبيرة من شواطئ البحر المتوسط.
تُعرف كذلك بملامح المناطق الشعبية المصرية خارج أسوارها، حيث المقاهي ومقاعدها الممتدة على أرصفة الشارع، مع مرور مركبات التوك توك الشهيرة في مصر، ومع انتشار واسع للباعة المتجولين على بعد أمتار فقط من تلك المنطقة.
خلال شهر رمضان الكريم 2024، حظيت منطقة كوم الشقافة بحديث رواد منصات التواصل الاجتماعي، وذلك بعد ظهورها في الحلقات المثيرة لمسلسل المداح لحمادة هلال، حيث يكمل رحلته في محاربة الجن.
في حلقته الثالثة، يستعين حماة هلال بالسحر الخاص لتلك المقابر، وهو يبحث عن سلاحه، لمحاربة الجن، حيث يجده في ورث أجداده، داخل إحدى مقابر تلك المنطقة الأثرية الشهيرة، التي تعد أحد المزارات الأربعة الأساسية لجولة السياح الأجانب في الإسكندرية.
مشاهد مقابر كتاكومب بمسلسل المداح
بداية المشهد في المسلسل، بحلقته الثالثة من “المداح 4 – أسطورة العودة”، كانت مع دخول الفنان حمادة هلال -بدور صابر- بسيارته من إحدى بوابات المنطقة الأثرية المحاطة بسور حديدي، وهو يسأل هيثم، الشاب المتخصص في الآثار بالمسلسل، عن “سراديب الموت”.
ليخبره بأنها هي مقابر كتاكومب بمنطقة كوم الشقافة، بعد عمود السواري، وهو المتواجد على ناصية الشارع الجانبي الذي بداخله منطقة كوم الشقافة الأثرية.
بعد ذلك، يتوجه صابر إلى منطقة قطع التذاكر، لتظهر بعد ذلك لافتة المقابر باسم “كتاكومب”، ليبدأ بعدها ظهور مشاهد السلم المؤدي إلى المقابر السفلية.
مع الصمت التام، تتخلله الموسيقى التصويرية الخافتة، يبدأ صابر في النزول إلى الطوابق السفلية الخاصة بالمقابر، ويظهر ذلك خلال نزوله عبر السلم، ثم مشاهد من الرسومات المنحوتة على الحوائط، ومشاهد لحفر المقابر الخالية، نزولاً إلى الطابق السفلي من تلك المقبرة.
يظهر بعد ذلك في المسلسل المقاطع غير الحقيقية من التصوير، وهو ما يكشفه سر المقبرة التي فتحها صابر، والباب الخفي الذي فُتح فجأة من خلفه.
حقيقة مقبرة صابر.. والمداح ليس الأول
عن حقيقة القبر الذي قام صابر بمسلسل المداح بفتحه، وذلك بعد الحائط الذي فتح من خلفه، تقول هند محسن صاحبة أحد البازارات الموجودة بجوار المنطقة الأثرية، لـ”عربي بوست”، إن المقبرة لا يوجد بها حوائط تفتح وتغلق كما في المسلسل، وبالتأكيد هذا ديكور خاص بالمسلسل.
أما المقبرة التي قام صابر بفتحها بعد نزوله إلى الطابق السفلي في المنطقة، سيتفاجأ الزوار بأنها ليست في ذلك الطابق، والذي لا يوجد به أي مقابر.
وقالت إنه في الأغلب، تم تصوير المشهد بالدور الأول بشكل منفصل عن مشهد نزول صابر للدور الأخير للمقبرة، حيث توجد في هذا الدور تلك المقابر.
لم يكن مسلسل المداح، العمل الفني الأول الذي يستعين بمقابر كوم الشقافة داخل أحداثه، فقد ظهرت العديد من الأفلام السينمائية التي رصدت جمال ومعالم مدينة الإسكندرية.
من أبرز تلك الأعمال فيلم مذكرات الآنسة منال، وهو الأفضل الذي وثق العديد من المعالم الأثرية في المدينة، منها عمود السوارى والمتحف اليوناني والروماني ومقابر كوم الشقافة.
أنتج الفيلم عام 1971 من بطولة الفنانة نيللي وأحمد مظهر، وعبد المنعم إبراهيم الذي قام بدور الأثري الذى عشق الإسكندرية، وظل يبحث عن مقبرة الإسكندر الأكبر خلال مشاهد الفيلم.
التصوير بالرابعة فجراً في شهر يناير 2024
“فوجئنا بقدوم سيارات التصوير مع توافد أمني كبير في فجر يوم 27 يناير/كانون الثاني، ووجدنا من ضمن الحاضرين الفنان حمادة هلال، والطبيعي في هذا الوقت أن تكون حركة المرور خفيفة”، هكذا يروي لـ”عربي بوست”، الحاج محمد هلال في العقد الخامس من العمر، وهو يعمل في مقهى حلمي المجاور لمنطقة آثار كوم الشقافة، حول تفاصيل تصوير مشاهد المسلسل، في مقابر كتاكومب.
يروي هلال عما شاهده خلال تصوير المسلسل، قائلاً: “استمر التصوير حتى السادسة مساء، وكان معظم التصوير داخل المنطقة الأثرية، حيث كانت المشاهد جميعها لا ترتبط بالشارع، فكل ما ظهر في مشاهد المسلسل داخل المنطقة الأثرية؛ ما قلل من احتكاك الفنانين بالجمهور في المنطقة”.
عن اللقطات الليلية في مشاهد المسلسل، قال إنه تم تصويرها في وقت الفجر قبل طلوع الشمس، أما باقي المشاهد فتم تصويرها في النهار.
يذكر أن مسلسل “المداح” من بطولة حمادة هلال، وآخرين، وإنتاج شركة “سيدرز آرت برودكشن- صباح إخوان”، وإخراج أحمد سمير فرج.
سر الحمار الذي كشف عن تفاصيل المقبرة
قبل 125 عاماً، جهّز رجل عربته، ووضع أمامها حماره، الذي يجرّها، لينطلق في عادته اليومية، بحثاً عن الرزق بشوارع منطقة كوم الشقافة القديمة غربي الإسكندرية.
وكانت الإسكندرية في ذلك اليوم، على “موعد مع السعادة”، بإضافة قطعة جديدة من التاريخ القديم لمدينة “الإسكندر”، ومع حادثة حزينة للحمار الذي سقط داخل حفرة، ازدادت اتساعاً بدخوله إليها، لتسقط العربة بداخلها؛ إيذاناً باكتشاف أكبر مقبرة يونانية رومانية في المنطقة، وهي مقبرة كتاكومب.
يعود تاريخ تلك الواقعة إلى عام 1900، لكن الجدير بالذكر أن الحفائر قد بدأت في هذه المنطقة منذ عام 1892، إلا أنه لم يعثر عليها إلا سنة 1900 مصادفة، وذلك عندما سقط الحمار في الفتحة الرئيسية للمقبرة على عمق 12 متراً.
عرفت المقابر من حينها، وجرى اكتشاف الآثار في هذه المنطقة خلال البحث عن سبب سقوط الحمار، ليتم اكتشاف المقبرة بالكامل في العام ذاته، ويعاد افتتاحها في عهد إسماعيل الجوسقي، محافظ الإسكندرية الأسبق.
المياه الجوفية.. ودور هيئة أمريكية لتحويلها منطقة سياحية
يرجع أهل المنطقة السبب في عودة السياحة إلى هذه المنطقة، لأمريكا، باعتبارها كلمة السر في ذلك، فقد كان منسوب المياه الجوفية زاد بنسبة كبيرة داخل المقابر، حتى غُمِر الدور الثالث بالكامل.
في 2017، تمَّ تقديم بحث من الهيئة الأمريكية “USAID” لتحويل مسار المياه الجوفية من المقابر إلى ترعة المحمودية، وذلك بعد تحليلها، حيث اتضح أن هذه المياه صالحة لزراعة بعض المحاصيل.
تم الانتهاء من المشروع في عام 2018، ووصلت تكلفته حينها نصف مليون جنيه مصري.
انقسمت الأعمال في المشروع إلى جزأين، الأول، داخل المقبرة، وشملت الآبار العميقة وخطوط طرد وملحقاته وغرف محابس ومبنى التحكم والمولد الكهربائي، وآبار مراقبة البيزوميترات بكوم الشقافة، أما الجزء الثاني يشمل خطوط طرد، وملحقاتها وغرف محابس، وأخرى لقياس التصريف ومنشأ مخرج المياه الجوفية الواقع على ترعة المحمودية.
هاني عزت، صاحب بازار “سوفينيرز” المجاور للمقابر في العقد الرابع من العمر، أوضح لـ”عربي بوست”، أن شفط المياه ساعد في عودة السياحة للمنطقة بشكل كبير، لتصبح ثاني أكثر المناطق دخلاً بالإسكندرية بعد قلعة قايتباي.
أضاف أن “منطقة كوم الشقافة هي تمثيل حقيقي لطبيعة الإسكندرية، حيث تكون المنطقة بالصباح هادئة محاطة بالأمن، إذ تأتي إليها أفواج السياح داخل أتوبيسات خاصة بهم، ومساءً بعد غلق المتحف في الرابعة عصراً، تعود المنطقة إلى طبيعتها الشعبية، حيث تكسو شوارعها كراسي المقاهي، وروادها الذين يشربون الشيشة.
أما ليلاً، فتنتشر كافة مظاهر المناطق الشعبية، وطبيعة سكانها، لتتحول المنطقة إلى شيء آخر تماماً عما كانت عليه منطقة سياحية في الصباح.
مقبرة وثنية.. وزخارف فرعونية ورومانية
كانت مقابر كتاكومب مخصصة لدفن الوثنيين فقط، فلم يوجد بها أي أثر مسيحي واحد يدل على أن المسيحيين الأوائل استخدموها يوماً من الأيام، فهي جبانة وثنية (مقبرة) منذ نشأتها في أواخر القرن الأول الميلادي، إلى أن بطل استعمالها للدفن في القرن الرابع الميلادي.
لكن مقابر كتاكومب، التي انتشرت في القرون الثلاثة الميلادية الأولى، في إيطاليا وبعض الجزر اليونانية، كانت تقتصر على دفن الموتى من المسيحيين، الذين كانوا يعانون من الاضطهاد الروماني لهم، فكانت تُحفر تحت الأرض على هيئة شوارع ممتدة لأميال طويلة، تحفها المقابر على الجانبين.
وكانت أيضاً تحفر بشكل سريع وفي الخفاء، خوفاً من بطش الحكام.
أما كوم الشقافة، فتمثل هندسة معمارية، لتوفير أكبر عدد من المقابر تحت الأرض.
يبرز الدمج بين الحضارتين الفرعونية والرومانية في زخارف المقبرة، فالحائط الرئيسي فوق التابوت الأوسط يمثل عملية التحنيط المصرية، أما على الحائط الأيمن والأيسر فنجد إمبراطوراً يرتدي تاج الوجهين، واقفاً أمام المذبح، ويقدم القرابين للعجل المقدس أبيس.
نجد كذلك أكثر من 300 فتحة في حجرة الدفن، كما نجد حجرة خصصت لدفن أتباع الإلهة نيمسيس، وهي إلهة الانتقام التي تقتص للجريمة وتعاقب المذنبين.
أما إيزيس، فتقف خلف أبيس، حاملة ريشة العدالة، ناشرة جناحيها رمزاً للحماية.
وعند الخروج من حجرة الدفن الرئيسية، نجد الإله أنوبيس، وعلى اليمين في زي جندي يحمل أسلحة رومانية، يقف على قاعدة على هيئة بوابة فرعونية، ويلتف ناحية المدخل.
عودة للتاريخ.. القرنان الأول والثاني الميلاديان
تخطيط الجبانة (المقابر) وتشعبها وتسلسلها واختلاف العناصر الزخرفية فيها، جعل العلماء يعتقدون أن مقبرة كتاكومب لم تبنَ دفعة واحدة، في حين أكدت الحفائر أن المقبرة وسّعت خلال القرون التالية.
لكن تشابه العناصر المعمارية والزخرفية، لا يرجح امتداد فترة التوسع لزمن بعيد، إذ ترجع المقبرة أو بالأصح أقدم جزء فيها، إلى الفترة ما بين القرنين الأول والثاني الميلادي.
ما يؤكد ذلك وجود النحت البارز الذي تشهده في المقبرة الرئيسية لمقابر كتاكومب، وأيضاً الرسومات المصرية الصحيحة التي ترجع إلى منتصف العصر الروماني.
عثر سنة 117- 138 لعصر الإمبراطور هادريان، على عملات ترجع إلى الفترة ما بين عهد ترايمان وعهد كلينيوس الأصغر، ويبدو من ذلك أن المقبرة ظلت تُستعمل حتى بداية القرن الرابع الميلادي ثم أُهملت.
كانت تعد المقبرة واحدة من عجائب الدنيا السبع في العصور الوسطى، وتتكون من سلسلة من المقابر، والتماثيل، والبقايا الأثرية الإسكندرانية لعبادة الجنائز الفرعونية.
بسبب الفترة الزمنية حينها، فإن العديد من سمات سراديب الموتى في كوم الشقافة تجمع النقاط الثقافية الرومانية واليونانية والمصرية، وبعض التماثيل كانت تُصنع بالأساليب المصرية، ولكنها تحمل أيضاً الأساليب الرومانية بالملابس وأسلوب الشعر.
يبدو أن المقبرة كانت خاصة بعائلة ثرية، ثم استخدمت لدفن العديد من الأسر بعد أن تولى أمرها جماعة من اللحامين، الذين قاموا بإضافة بعض الحجرات، وبحفر فتحات الدفن في الجدران في صف واحد أو صفين، يعلو كل منهما الآخر.
والمقبرة ذات أربع طوابق، كان لها طابق فوق الأرض اندثر عبر الزمن، كما أن الطابق الرابع كان مغموراً بالمياه الجوفية كما أسلفنا.
يمكن إيجاز التخطيط المعماري للمقبرة على النحو التالي، حيث مدخل فوق سطح الأرض ثم سلم حلزوني بعمق حوالي 20 متراً تحت سطح الأرض، يؤدي إلى (الطابق الأرضي الأول)، ويتكون بدوره من دهليز يتصل بصالة مستديرة الشكل تتوسطها بئر.
يجاور الصالة المستديرة، (صالة المآدب)، وهي مزودة بثلاثة أرائك كان يجتمع فيها أهل المتوفى لتناول الطعام عند زيارة المقبرة في المناسبات الخاصة، ويوجد سلم يؤدي إلى (الطابق الأرضي الثاني) وهو الطابق الذي يوجد فيه الجزء الرئيسي للدفن في المقبرة.
يحتوي الجزء الرئيسي للدفن على حجرة ذات ثلاث فتحات في الحائط، ودهليزين يحتويان على فتحات وحجرات صغيرة للدفن، تؤدي إلى (الطابق الأرضي الثالث)، عبر سلم شديد الانحدار.
مسميات: مقبرة كتاكومب ومنطقة كوم القشافة و”كرموز”
مقبرة كتاكومب.. كانت المكان الأول الذي سمي بالإنجليزية “Catacombs”، مقابر تحت الأرض بين المرحلتين الثانية والثالثة من طريق آبيوس في روما، حيث يقال إن جثث الرسل بطرس وبولس وآخرين مدفونة هناك.
كان اسم ذلك المكان في اللاتينية “catacumbae”، وهي كلمة من أصل غامض، ربما تستمد من اسم ما، أو من العبارة اللاتينية: cata tumbas أي “بين القبور”.
كانت الكلمة تشير في الأصل فقط إلى سراديب الموتى الرومانية، ولكن مع عام 1836 توسع استخدامها لتشير إلى أي ممرات تحت الأرض لدفن الموتى، كما في سراديب الموتى في باريس في القرن الـ18، وهي منتشرة في عدة أماكن حول العالم، معظمها في أوروبا.
كوم الشقافة.. سُميت المقابر والمنطقة أيضاً بهذا الاسم، وذلك لوجود كوم كبير من الشقافة، وهي البقايا الفخارية التي كانت تتراكم في هذا المكان.
يوجد روايتان لها، الأولى أنها ترجع إلى زوار المقبرة من أهل المتوفين، والثاني، أنه كان الكثير من صناع الفخار قريبين من تلك المنطقة، حيث كان ينجم عن صناعتهم الكثير من قطع الفخار الصغيرة، والتالفة، التي تم تجميعها بتلك المنطقة كمخلفات لهم.
“كرموز”.. حي من أقدم أحياء الإسكندرية تاريخياً، وهو يضم بين حدوده أهم المناطق الأثرية مثل كوم الشقافة، وعمود السواري، التي تعد واحة أثرية من العصر الروماني.
اختلفت الآراء حول سبب إطلاق اسم “كرموز”، على المنطقة، والرواية الأشهر، أنه في الأساس مشتق من كلمة “كرموس”، وهو الاسم الأصلي للمنطقة تاريخياً، وهو اسم يوناني يعني فاكهة “التين”، حيث كانت زراعتها منتشرة في هذه المنطقة، حتى منطقة “رأس التين” حالياً بالإسكندرية.