في الثاني من فبراير/شباط 1982، شهدت سوريا أسوأ مجزرة مرت في تاريخها الحديث كما كان يُعتقد قبل اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، وهي مجزرة حماة التي ارتكبها الجيش بناءً على أوامر من رئيس النظام حافظ الأسد، وبتنفيذ من قِبل أخيه اللواء حينها رفعت الأسد.
كيف وقعت مجزرة حماة؟
طوّق النظام السوري، الذي كان رئيسه آنذاك حافظ الأسد، مدينة حماة الواقعة وسط البلاد، وبدأ بقصفها جواً وبراً وبجميع أنواع الأسلحة،. قبل أن يجتاحها ويقتل كل من يصادفه فيها بحجة القضاء على جماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا، التي كانت تُعد من أكبر الجماعات المناوئة للأسد الأب في تلك الحقبة.
واتهم النظام الجماعة حينها بتسليح عدد من كوادرها وتنفيذ اغتيالات بحق مجموعة من الضباط في مدرسة المدفعية في يونيو/حزيران 1979، في مدينة حلب شمال سوريا.
لم تكن أحداث عام 1982 مفصولة عن العقدين الأخيرين اللذين سبقا المجزرة وما حدث فيهما في سوريا عامة ومدينة حماة خاصة، إذ عجت تلك الفترة بصدامات ومواجهات وقتل واعتقالات شملت الأحزاب المعارضة والمسلحين، بدأت بعد انقلاب حزب البعث على الحكم وتوليه السلطة.
وكانت أبرز تلك المواجهات أحداث عام 1964، أو ما يُعرف في حماة بـ”أحداث جامع السلطان” حين حدثت هبّة شعبية في مدينة حماة وعدة مدن سورية أخرى اعتراضاً على حكم البعث، واجهها النظام بتدخل عسكري ومحاصرة للجامع وقصف مئذنته، ما تسبب في مقتل عشرات المدنيين في حماة، وفق شهادة الرئيس السوري في ذلك الوقت أمين حافظ في برنامج “شاهد على العصر” في قناة الجزيرة.
بعد عدة سنوات ونتيجة قتل واغتيال عدد من أبناء المدينة، بدأت سياسة مجموعة مسلحة من المعارضة تعرف باسم “الطليعة المقاتلة” تتحول إلى اغتيال شخصيات ذات مناصب في الدولة، وأدى ذلك إلى زيادة الاعتقالات والملاحقات والاغتيالات، وفي 16 يونيو/حزيران 1979 هاجمت تلك المجموعة المسلحة مدرسة المدفعية في حلب وقتلت عشرات من الضباط العلويين، فحمّلت الدولة جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية عما حدث.
وفي 26 يونيو/حزيران 1980 وقعت محاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد، خلال حفلِ استقبالٍ رسميّ لرئيس مالي، بعدما استهدفهُ أحدهم بسلاح رشّاش بالإضافةِ إلى تفجيرِ قنبلة يدوية على مقربةٍ منه. ليقوم الأسد بعدها بحظر الجماعة وشن عملية تصفية واسعة، ومن ثم أصدر القانون 49 الذي يأمر بإعدام كل شخص ينتمي للإخوان المسلمين وأقربائهم.
لقد كان انتقام الأسد سريعاً وبلا رحمة؛ فبعد سويعات قليلة من نجاتهِ من محاولة الاغتيال الفاشلة؛ انتشرت أخبار وتقارير أفادت بأن جنود تابعين لميليشيات يرأسها رفعت الأسد قد أقدموا على إعدام 1200 شخص في زنزاناتهم في سجن تدمر الصحراوي بالقربِ من مدينة تدمر.
كيف تم اجتياح حماة وتنفيذ المجازر؟
قادت سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد، الحملة العسكرية الدموية التي انطلقت الساعة الثانية صباحاً يوم 2 فبراير/شباط 1982. واستمرت مدة 27 يوماً، ووضع تحت قيادته، نحو 12 ألف جندي من مختلف الكتائب.
ما بين “سرايا الدفاع واللواء السريع الحركة التابع لسرايا الدفاع، واللواء 47 دبابات، واللواء الميكانيكي 21، وفوج الإنزال الجوي 21 (قوات خاصة)”. إضافة إلى عدّة كتائب مكونة من عناصر مختلطة من مختلف أجهزة الأمن والمخابرات وفصائل حزبية مسلحة بقيادة عدنان الأسد.
وتمّ خلال الحملة العسكرية ارتكاب مجزرة حماة سنة 1982 عبر تطويق المدينة، وتجويع أهلها، وقصف البلدة القديمة فيها جواً وبراً لكي يتمكن الجنود من دخول شوارع المدينة الضيقة بدباباتهم، حيث تم تدمير معالمها حتى المساجد والكنائس لم تسلم من هذا القصف.
وفي 15 فبراير/شباط، أي بعد عدّة أيام من القصف المكثف، أعلن اللواء مصطفى طلاس الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع حينها انتهاء الحملة العسكرية وأن انتفاضة مدينة حماة قد تم قمعها، غير أن المدينة ظلّت حينها محاصرة وجرى عزلها عن العالم الخارجي.
ما القوات التي شاركت في مجزرة حماة 1982؟
شاركت في تلك المجزرة:
- قوات سرايا الدفاع، وهي مجموعة عسكرية قوامها 12 ألف جندي بقيادة رفعت الأسد، تمركزت في عدة مناطق بالمدينة، في حين اجتمع العدد الأكبر منها حول المدينة لحصارها.
- قوات الوحدات الخاصة شاركت بالأسلحة الثقيلة والدبابات والمدفعية، كما أسهمت في تطويق المدينة.
- الكتائب الحزبية، وهي تتكون من أشخاص مدنيين درّبوا على حمل السلاح، ينتسب معظمهم إلى حزب البعث وتمركزوا داخل المدينة وحولها.
- قوات فرع الأمن العسكري في حماة.
- قوات أمن الدولة.
- قوات الأمن السياسي تمركزت على طريق حلب.
- قوات اللواء 47 دبابات، وقد عُزّز بقوات إضافية قبل المجزرة.
- سرايا الصراع، وشاركت بـ4500 عنصر، وتركز دورها في المشاركة في عمليات الاقتحام والقصف.
- اللواء 21 ميكانيك والفرقة المدرعة الثالثة، وكانا تحت قيادة سرايا الدفاع.
مجزرة حماة.. حملات تصفية وإعدامات ميدانية
بُعيد الحملة العسكرية شنّت قوات النظام السوري على مدار أسبوعين حملة أخرى لمداهمة المنازل واعتقال الشباب فيها. وارتكبت خلال هذه الحملة إعدامات جماعية بحق عدد كبير من الأهالي.
وتحدثت بعض التقارير عن صنوف من الإساءة، التي ارتكبتها تلك القوات، من قتل جماعي وإعدامات ميدانية، وتعذيب للمدنيين واغتصاب للنساء، إلى أن وصل بهم الحد إلى قتل الأطفال أمام أعين ذويهم.
يختلف عدد ضحايا المجزرة باختلاف المصادر، ولا أحد يعرف الحصيلة النهائية لعدد القتلى خلال ذلك الهجوم، حيث وثّقت اللجنة السورية لحقوق الإنسان مقتل 40 ألف مدني، غالبيتهم قضوا رمياً بالرصاص بشكل جماعي، ثم تمّ دفن الضحايا في مقابر جماعية.
أمّا روبرت فيسك، الذي كان موجوداً في حماة بعد المجزرة بفترة قصيرة يقول إن عدد القتلى كان 10 آلاف شخص تقريباً. أما جريدة الإندبندنت فقالت إن عدد ضحايا مجزرة حماة وصل إلى 20 ألفاً. أما الصحفي والكاتب الأمريكي توماس فريدمان فقال إن رفعت الأسد قام بالتباهي بأنه قتل 38 ألفاً في حماة.
وتشير بعض التقارير إلى صعوبة التعرف على جميع الضحايا، لأن هناك ما بين 10 آلاف و15 ألف مدني اختفوا منذ وقوع الأحداث، ولا يُعرف أهم أحياء في السجون العسكرية أم أموات؟
أما عدد المعتقلين والمفقودين الذين لم تتم معرفة مصيرهم حتى اليوم، فقد بلغ 15 ألف شخص، وهذه المجزرة كانت سبباً مباشراً في تهجير 100 ألف شخص، وتم تدمير جزء كبير من المدينة خاصة أحياءها القديمة، وإزالة 88 مسجداً، وهدم 3 كنائس ومناطق أثرية وتاريخية.
ما أبرز المجازر التي ارتُكبت في ذلك الهجوم المروّع؟
وفق إحصائيات الثورة السورية، فقد وثقت ارتكاب 17 مجزرة في أحياء مدينة حماة، منها: مجزرة حي سوق الشجرة، مجزرة حي البیاض، مجزرة سوق الطویل، مجزرة حي الدباغة، مجزرة حي الباشورة، مجزرة حي العصیدة، مجزرة حي الشمالیة، مجزرة حي الشرقیة، مجزرة حي البارودیة، مجزرة الجامع الجدید، مجزرة مقبرة سریحین، مجزرة معمل البورسلان، مجزرة المستشفى الوطني.
روايات شهود عيان على مجزرة حماة
قالت مها عربو (49 عاماً) وهي إحدى الشاهدات على مجزرة حماة في تصريح سابق لموقع “عربي بوست”: “كان عمري حينها 12 عاماً، بدأنا نسمع أصوات الرصاص والقصف، لم نخرج من بيوتنا حتى 10 من فبراير/شباط”.
وأوضحت أنه بسبب المعارك وأصوات الانفجارات التي لم تتوقف، بحثنا عن أبي وأخي اللذين ظننا أنهما مختبئان في مكان ما، فوجدناهما مقتولين عند باب عمارتنا، وبعدها قمنا بالفرار أنا ووالدتي وبقية أفراد عائلتنا.
وأضافت “لا أنسى بعد كل تلك السنين، جثتهما وجثث العشرات التي مشينا عليها حتى استطعنا الوصول إلى إحدى الطرق الفرعية التي نقلتنا إلى ريف حماة ومنه إلى حلب، شيء لا يصدقه العقل، كانت جثث أطفال ونساء تنهشها الكلاب، كانت الدماء بقعاً واسعة لم يستطع المطر الهاطل منذ يومين أن يمحو بعض آثارها، كان مشهد المدينة فظيعاً، ليس فيه سوى الدمار والدماء”.
السيدة مها روت لـ”عربي بوست” قصص المجازر التي سمعتها من أبنائها الذين نجحوا بالفرار من حماة. وقالت: “في منطقة سوق الطويل، يقع مسجد يسمى (الجامع الجديد)، في داخله وقعت مجزرة رهيبة بعد أربعة عشر يوماً من الأحداث، كان الناس قد بدأوا يخرجون قليلاً إلى الشوارع.
طلب الجنود من الأهالي التوجه نحو سيارات الخبز في طرف الشارع، أسرع الأطفال، وكانوا بالعشرات، حملوا الخبز، وهم يعودون اعترضهم الجنود وطلبوا إليهم الدخول إلى الجامع الجديد، وهناك فتحوا عليهم النار وقتلوهم جميعاً”. وتابعت: كان هناك فِرق موت تجوب المدينة، يقتلون، ينهبون، يغتصبون، قتلوا طفلاً وليداً أمام أسرته في حي الحاضر. وأكدت أن “هذه القصة ليست أسطورة؛ بل حقيقة، والضحية يدعى (سمير قنوت) من حي الحاضر”.
سرايا الدفاع ومحاكمة رفعت الأسد
في 13 مارس/آذار 2024 قالت سويسرا إنها ستحاكم رفعت الأسد، عم الرئيس السوري، بتهمة “ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” على إثر وقائع ما عُرف بـ “مجزرة حماة” في ثمانينيات القرن الماضي. وقال المدعي العام السويسري إن رفعت الأسد “متهم بإصدار أوامر بقتل وتعذيب ومعاملة قاسية واعتقالات غير مشروعة في سوريا في شباط/فبراير 1982… في إطار النزاع المسلح بين القوات المسلحة السورية والمعارضة الإسلامية” في مدينة حماة في عهد الرئيس حافظ الأسد.
وهو يتهمه بأنه “أمر، بصفته قائد سرايا الدفاع وقائد العمليات في حماة، بارتكاب جرائم قتل وتعذيب ومعاملة قاسية واعتقالات غير قانونية”. وتضغط جماعات حقوق الإنسان على سويسرا لمحاكمة مجرمين دوليين مزعومين. لكن قضية رفعت الأسد معقدة بسبب عودته إلى سوريا في عام2021، بعد عقود من العيش في المنفى في أوروبا.
في فبراير/ شباط 1982، وكقائد لـ”سرايا الدفاع”، قاد رفعت القوات التي ارتكبت المجزرة في مدينة حماة، وكان قوام هذه القوات حوالي 20 ألف جندي.
وبحسب النيابة العامة السويسرية فإن “سرايا الدفاع” هي “على الأرجح القوات الرئيسية المسؤولة عن (ما وقع من أحداث) القمع”. ويُعتقد أن قوات رفعت الأسد قصفت المدينة، مما أسفر عن مقتل الآلاف من سكانها (تتراوح التقارير عن العدد الإجمالي للقتلى بين 10 آلاف و40 ألف قتيل)، وتدمير معظم أجزاء مدينة حماة، مما أكسب رفعت لقب “جزار حماة”.
لكن في مقابلة تلفزيونية معه في ديسمبر/كانون الأول 2011، نفى رفعت الأسد مسؤوليته عن “مجزرة حماة”، وقال إنها تهمة وكذبة روج لها “النظام السوري” وفق قوله، واتهم الرئيس حافظ الأسد بالمسؤولية عما جرى في حينه.