أعادت الجزائر افتتاح مسجد عبد الرحمن بن خلدون التاريخي بولاية بجاية (250 كلم شرقي الجزائر العاصمة) يعود تاريخ بنائه لقرابة 1000 سنة، وظلّ المسجد مغلقاً في وجه المصلين لقرنيّن كاملين.
ويعدّ مسجد عبد الرحمن ابن خلدون من أقدم وأعرق مساجد الجزائر، حيث بُنِيَ أثناء إنشاء قصبة بجاية من طرف الأمير الناصر بن علناس بن حماد في مرحلة الدولة الحمادية (1014-1152).
فبعد شروعه في بناء مدينة بجاية وفق طراز عمراني حمادي، أنشأ الناصر بن علناس أسوار قصبة بجاية وبنى بداخلها عدة منشآت على رأسها مسجد عبد الرحمن ابن خلدون الأعظم كما كان يلقب وقتها.
تشييد مسجد عبد الرحمن بن خلدون
اعتمد نمط البناء في الجزائر خلال مراحل الدول التي تعاقبت على المنطقة منذ الدولة الفاطمية والحمادية والمرابطية ثم الدولة الموحدية والدولة الحفصية إلى الدولة العثمانية على بناء قصبات تحيط بها أسوار تحمي المدينة من الغزو.
وداخل القصبة يكون قصر الحكم والمسجد ومرافق الدولة والأسواق وبنايات السكان البسيطة.
ولم تشذ بجاية عن القاعدة، فأول ما بدأ به الحماديون أثناء بناء قصبة بجاية كان مسجد عبد الرحمن ابن خلدون وسور القصبة ثم قصر الحكم، فمن بين مساحة 20000 متر مربع التي تتربع عليها قصبة بجاية، فإن الجامع الأعظم يحوز مساحة 400 متر مربع.
ويعتبر جامع قصبة بجاية أقدم مسجد في مدينة بجاية التاريخية الذي بقي من عهد الدولة الحمادية، وهو جزء من النسيج العمراني لمدينة “الناصرية” العتيقة التي كانت تضم، بالإضافة إلى العديد من المساجد، الأسواق والمستشفيات التي كانت تلبي احتياجات السكان.
علماء مروا على جامع القصبة
مرّ على الجامع الأعظم ببجاية عدة علماء ومُحَدّثين، حيث كانت تمنح لهم أعمدة بالمسجد يلقون الدروس فيها على طلاب العلم في الوقت الذي كانت تعد بجاية منارة العلم في المنطقة ككل.
من أشهر المدرسين في مسجد عبد الرحمن بن خلدون ببجاية الكبير كان عبد الرحمن بن خلدون الذي بات يحمل اسمه اليوم، حيث استقر صاحب المقدمة في بجاية لسنوات، إذ دخلها سنة 1364م ومكث فيها سنوات، حيث حظي بمكانة كبيرة لدى سلطان بجاية، إذ قربه وعينه مستشاراً لديه ومدرساً بالجامع إلى أن رحل عنها.
ومن بين العلماء الذين دَرّسوا بجامع بجاية الأعظم، الإمام عبد الحق الإشبيلي وهو أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن سعيد الأزدي الأندلسي الإشبيلي، يعرف بابن الخراط، كان إماماً حافظاً عالماً بالحديث وعلله، عارفاً بأحوال الرجال موصوفاً بالخير والصلاح، والزهد والورع، وملازمة السنة، مع مشاركة في الآداب وقول الشعر، ولد بإشبيلية سنة 514 هـ الموافق لـ 1119 م، تعلم بها ثم انتقل إلى بجاية واستوطنها، ولي التدريس والخطابة في المسجد الأعظم المعروف الآن بمسجد ابن خلدون.
وأيضاً تولى الشيخ عبد الرحمن الثعالبي التدريس في مسجد عبد الرحمن بن خلدون، حيث دخل بجاية في أواخر القرن الثامن بداية القرن التاسع وأخذ العلم على سيدي عثمان المنقلاتي أشهر علماء المنطقة وقتها.
ودَرّس كذلك الإمام أبو مدين شعيب بجامع القصبة، حيث بالإضافة إلى العلوم الشرعية كان يُدرِّس الرياضيات، وعلم التصوف، وكان على الطريقة القادرية، من شيوخه سيدي عبد القادر الجلالي، وأبي يعزى العالم المتصوف، وشارك في الحروب الصليبية، مع صلاح الدين الأيوبي مع جملة من الطلبة والمريدين من بجاية، وقطعت ذراعه اليمنى، ودفنت في حائط البراق، منحهم صلاح الدين أخصب الأراضي في بيت المقدس، وما زال الحي يحمل اسم حي المغاربة إلى يومنا هذا تيمناً بهم.
وكذلك ألقى الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الوغليسي دروسه بجامع بجاية الكبير، حيث كان عالماً بالكتابتين الأدبية والشرعية، وكان المعتمد في وقته في المخاطبات السلطانية.
الاحتلال الإسباني والفرنسي
حول الاحتلال الإسباني لبجاية سنة 1510 جامعها الكبير إلى كنيسة كاثوليكية، فيما هدمت بقية المساجد بالمدينة.
ومع طرد الإسبان أعاد العثمانيون تحويل الكنيسة إلى مسجد، كما كان، إلى أن دخل الفرنسيون سنة 1830 إلى بجاية وقرروا تحويل الجامع إلى ثكنة عسكرية بالنظر إلى موقعه الاستراتيجي في أعالي المدينة؛ ليتم ذلك بالضبط سنة 1833.
بعد الاستقلال 1962 بقي المسجد مغلقاً ثم تحول إلى مكتبة، ثم باشرت السلطات الجزائرية ترميمه وإعادته إلى سابق عهده، حيث افتتحه رسمياً والي ولاية بجاية يوم 11 مارس/آذار 2024 الموافق للأول من شهر رمضان.
ورفع الأذان فيه لأول مرة منذ 190 سنة لصلاة الظهر، وفتح حالياً المسجد لأداء الصلوات الخمس والتراويح وصلاة الجمعة.