اختلف العسكريون في توازن القوى بين الغواصات وحاملات الطائرات على مر العقود ولم يُحسم هذا الصراع حتى الآن؛ حيث تحوّلت الغواصات وحاملات الطائرات إلى سفنٍ رئيسية في العصر البحري الحديث، ولا تزال تُشكّل عنصراً حاسماً في القوة البحرية. فمن يحكم البحار؛ الغواصات أم حاملات الطائرات؟
على مر التاريخ، تبارزت حاملات الطائرات والغواصات من أجل التفوق باعتبارها السفن الحاسمة في الحروب البحرية. وعززت الحرب العالمية الثانية هيمنتها كسفن رئيسية، حيث تسبب كلا النوعين في إلحاق خسائر فادحة ببعضهما البعض.
وقد أحدثت الثورات التكنولوجية في مرحلة ما بعد الحرب، مثل التشغيل بالطاقة النووية ودخول الطائرات النفاثة، تحولاً جذرياً في المنافسة. واليوم، أصبحت كل من حاملات الطائرات والغواصات المتطورة باهظة الثمن وذات قدرة هائلة، مما يضمن أن توازن القوى بينهما سيظل مصدر قلق حيوي للدول وللاستراتيجيين البحريين.
متى بدأت المواجهة بين الغواصات وحاملات الطائرات؟
كانت سفينة “إتش إم إس كوريجوس” التابعة للبحرية البريطانية أول حاملة طائرات تسقط ضحيةً لغواصة في البحار. فأثناء مطاردتها لغواصات “يو بوت الألمانية”، أُصيبت كوريجوس بطوربيدات إحدى فرائسها لتغرق في 17 من سبتمبر/أيلول عام 1939.
وبعد خسارة حاملة الطائرات المذكورة، سحبت البحرية الملكية أسطولها من حاملات الطائرات المكلفة بالمهام المضادة للغواصات على الفور، وذلك على اعتبار قيمتها أكبر من المخاطرة بها في عمليات كهذه. ومع ذلك، استمرت غواصات “يو بوت” الألمانية في إلحاق خسائر فادحة بحاملات طائرات البحرية الملكية. وبعد وقت قصير من اندلاع حرب المحيط الهادئ، بدأت الغواصات تُلحق الخسائر نفسها بقوة حاملات الطائرات الأمريكية.
لكن الغواصات الأمريكية انتقمت لاحقاً، كما يقول تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية. فبعد حل المشكلات القيادية والفنية التي عصفت بالخدمة في سنوات الحرب الأولى، أصبحت الغواصات الأمريكية تخترق أعماق خطوط الشحن اليابانية لتهاجم السفن العسكرية والمدنية على حدٍ سواء. وألحقت الغواصات الأمريكية دماراً كبيراً بأسطول حاملات الطائرات اليابانية.
كيف تم تطوير حاملات الطائرات لقتال الغواصات؟
لم تكن المعركة من طرفٍ واحد؛ إذ أدرك البريطانيون أثناء الحرب العالمية الأولى أن الطائرات تستطيع لعب دور كبير في قتال الغواصات. لكن طائرات ذلك العصر كانت تفتقر إلى المدى، والسرعة، ومعدات الاتصال، وحمولة الأسلحة اللازمة لمواجهة خطر غواصات “يو بوت” الألمانية بفعالية.
وبينما تغيّرت هذه الظروف الأساسية مع بداية الحرب العالمية الثانية، ولعبت الطائرات دوراً محورياً في معركة الأطلسي بعد مرورها بفترة تكيُّف. وتضمّن ذلك مشاركة الطائرات التي تنطلق من البر ثم الطائرات التي تنطلق من حاملات الطائرات في النهاية. ولهذا اتخذت بريطانيا القرار المشؤوم باستخدام “إتش إم إس كوريجوس” في دورٍ مضاد للغواصات. فيما كانت أول غواصة يابانية تغرق في الحرب هي الغواصة “آي-70” التي سقطت ضحيةً لطائرةٍ من حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس إنتربرايز”.
طوّر الحلفاء فئةً جديدة من “حاملات الطائرات المُرافقة”، وهي عبارة عن حاملة طائرات صغيرة بسرعات منخفضة نسبياً، وتستطيع مرافقة القوافل البحرية والدفاع عنها. وساعدت طائرات تلك الحاملات في تحديد مواقع الغواصات التي تأتي للصيد على أطراف القوافل البحرية، لتقود الهجوم بعدها أو تُرشِد المدمرات لصيد فرائسها. وشهدت الحرب فقدان ثلاث من حاملات الطائرات المُرافقة.
بينما لا يوجد إحصاء دقيق لعدد غواصات “يو بوت” التي غرقت بواسطة طائرات محمولةٍ على الحاملات، لكن طائرات سلاح الجو التابعة للبحرية الملكية أغرقت 31 منها، فيما أغرقت البحرية الأمريكية 38 غواصةً أخرى٬ بحسب مجلة ناشونال إنترست.
ومن هذا المنطلق، يُمكن القول إن حاملات الطائرات قلبت الطاولة على الغواصات. ولا شك أن الغواصات شكّلت تهديداً كبيراً لحاملات الطائرات، لكن الحاملات شكّلت أساساً لكسب الحروب التجارية الكبرى. ومن المؤكد أن عجز اليابان عن توفير ما يكفي من الطيارين وحاملات الطائرات المُرافقة جعل الدفاع عن التجارة اليابانية في المحيط الهادئ مهمةً شديدة الصعوبة؛ ما سمح للبحرية الأمريكية بتدمير التجارة البحرية اليابانية بالكامل بفعالية.
بعد الحرب العالمية الثانية.. ثورات تقنية شهدتها الغواصات وحاملات الطائرات
شهدت الغواصات وحاملات الطائرات سلسلةً من الثورات في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وأدى تطوير غواصات “حقيقية” بواسطة الألمان في العام الأخير من الحرب إلى تغيير أساسيات الحرب المضادة للغواصات، وذلك عن طريق إلغاء الحاجة لعمل الغواصات على السطح. كما تتمتع الغواصات الحقيقية بسمات أداء أكثر فتكاً من الأشكال السابقة.
ودشّنت الولايات المتحدة العصر النووي في حرب الغواصات بعدها بفترةٍ وجيزة، وذلك عبر بناء الغواصة “يو إس إس نوتيلوس” التي تعمل بالوقود النووي وتستطيع البقاء تحت الماء للأبد. ثم جاء ظهور صواريخ كروز والصواريخ البالستية التي يُمكن إطلاقها من الغواصات ليمنح الغواصة مهامها الاستراتيجية الجديدة، ويزودها بأدوات فتاكة جديدة لمهاجمة حاملات الطائرات والسفن السطحية الأخرى.
وبالنسبة لحاملات الطائرات، أصبحت غالبية السفن الموجودة قديمة الطراز مع تطوير الطائرات النفاثة؛ ما أدى لتدشين عصر “حاملات الطائرات الضخمة” التي أصبحت أكبر من حاملات طائرات الحرب العالمية الثانية بضعفين أو ثلاثة.
واحتوت الحاملات الأكبر على محطات طاقة نووية خاصة بها. ثم تطورت المروحيات كذلك وصارت مزودةً بمعدات السونار الحساسة والطوربيدات الفتاكة المضادة للغواصات. وتمتعت الطائرات المتخصصة المضادة للغواصات بقدرات مشابهة، سواءً تلك التي تُقلع من الحاملات أو من البر.
وبهذا استمرت المنافسة بين حاملات الطائرات وبين الغواصات. وشعرت الولايات المتحدة بقلق شديد على سلامة حاملات طائراتها، خاصةً بعد ظهور غواصات صواريخ كروز الجوالة السوفييتية الكبيرة، التي تستطيع ضرب أهدافها من مسافات بعيدة. كما بنى السوفييت غواصات فئة ألفا التي تستطيع الغوص لمسافات أعمق وبسرعة أكبر من أي غواصة تابعة للناتو، كما يمكنها الصعود من الأعماق لمهاجمة حاملات الطائرات الأمريكية أثناء الحركة. فيما كانت الطوربيدات ذات الرؤوس النووية تعني أن أي هجوم ناجح سيحظى بفرصة كبيرة لتدمير حاملة الطائرات المستهدفة.
وطوّر السوفييت والأمريكيون حاملات طائرات متخصصة مضادة للغواصات. حيث حوّلت البحرية حاملات الطائرات فئة إسكس إلى شكلٍ جديد مضاد للغواصات، وسلّحتها بالمروحيات وطائرات الأجنحة الثابتة المضادة للغواصات بدلاً من المقاتلات والطائرات الهجومية.
بينما كانت أولى حاملات الطائرات السوفييتية عبارةً عن منصات مخصصة لمكافحة الغواصات ومسلحة بالمروحيات والأسلحة المضادة للغواصات. أما الجيل التالي من حاملات الطائرات، فئة كييف، فقد حمل مقاتلات ستوفل قصيرة المدى والمصممة لردع أو هزيمة أي توغلات للطائرات المضادة للغواصات، وذلك داخل مناطق تواجد غواصات الصواريخ البالستية السوفييتية.
ما شكل المواجهة اليوم بين الغواصات وحاملات الطائرات؟
لم تمل كفة التهديدات لصالح أحد الجانبين اليوم. وصارت أكثر الأنواع تطوراً من كليهما باهظة الثمن للغاية؛ حيث تبلغ تكلفة يو إس إس جيرالد فورد نحو 12 مليار دولار (لا تشمل قيمة الطائرات)، بينما تصل تكلفة الغواصة النووية من فئة فرجينيا إلى 2.7 مليار دولار. وأصبحت الغواصات تؤدي بعض مهام حاملات الطائرات، مثل شن الغارات بعيدة المدى ضد الأهداف الأرضية.
وفي المعارك، تُعد حاملات الطائرات أسرع من الغواصات وتتمتع بمجموعة مرافقة (تتضمن غواصةً عادةً) من أجل الأغراض الدفاعية. وتستطيع حاملات الطائرات إطلاق طائرات قادرة على رصد ومهاجمة الغواصات عن بُعد، رغم أن تلك الطائرات أصبحت أقل وفرةً بعد نهاية الحرب الباردة. بينما تستطيع الغواصات ضرب حاملات الطائرات من مسافات أبعد باستخدام الصواريخ الجوالة، وتستطيع كذلك الاستفادة ببيانات الاستهداف من أجهزة الاستشعار خارج الغواصة للعثور على فرائسها.
في النهاية٬ ستظل الغواصات من أسلحة الحرب المهمة طالما استمر البحر في توفير عائق يحول دون رصدها واستهدافها بالأسلحة. وستظل حاملات الطائرات من الأسلحة المهمة طالما ظل من المفيد امتلاك مطارات متنقلة. ويبدو من المرجح أن يظل الحال على ما هو عليه في المستقبل القريب؛ لهذا يتعين على قباطنة الناقلات وربابنة الغواصات أن يقلقوا حيال بعضهم البعض بشدة.