يعتبر البعض كرة القدم محض “جِلدة مدورة” يتصارع عليها 22 رجلاً، أو أن مباراة كرة القدم مجرد ساعة ونصف ضائعة في اللا شيء، يرد عليهم آخرون بالقول: “إنكم لم تدركوا الشغف الكامن في اللعبة، وإنهم لا يفقهون ما الذي يدفع أحدهم ليواظب على حضور مباريات فريقه المفضل لعقود طويلة، أو أن يُقدم أحدهم على المقامرة بمستقبله ويقتل لاعب منتخبه الكولومبي لإحرازه هدفاً في مرماه بالخطأ مثلما حدث مع “إسكوبار” لاعب المنتخب الكولومبي الذي قُتل بـ12 رصاصة اخترقت صدره.
ذلك الشغف الذي يصل لدرجات الجنون والحماقة في بعض الأوقات، لا يشبعه سوى الفوز وإحراز البطولات، يقول أسطورة كرة القدم الفرنسية “إيريك كانتونا” في السياق نفسه: “أنا لا ألعب ضد فريق معين، أنا ألعب ضد فكرة الخسارة”.
لكن لذّة الانتصار تزداد بازدياد المعاناة التي يولد من رحمها الإنجاز، وهذا ما حدث مع كل من منتخبي العراق وألبانيا، وقد يحدث مع منتخب فلسطين في كأس آسيا المقبلة.
أسود الرافدين
في عام 2007، كان العراق مجرد منتخبٍ متوسط المستوى آتٍ من دولة ممزقة يقاسي شعبها ألم الاحتلال منذ 2003، والطائفية تنهش في جسد الشعب العراقي، ما أدى إلى مغادرة الملايين بلادهم هرباً من الموت المحقق.
لم يعد هناك شيء يرسم البهجة على وجوه العراقيين، فقد دُمرت بغداد ونهبت، والمستقبل لا تبدو له معالم.
كان هذا قبل أن يقرر يونس محمود قائد المنتخب ورفاقه تغيير مجرى التاريخ في منافسات أمم آسيا لعام 2007، لم يكن يتوقع حينها أكثر الحالمين والمتفائلين أكثر من الوصول إلى المربع الذهبي من البطولة، حيث إن الفريق لم يستعد سوى قبل الانطلاق بشهرين، وبالطبع لم يكن معسكر الفريق في العراق بل كان في قطر، التي استضافت أيضاً مباريات العراق في التصفيات المؤهلة للبطولة.
فاز العراق بالبطولة بسجلٍ خالٍ من الخسائر، حيث أطاح في المباراة قبل النهائية بالشمشون الكوري (المرشح الأول للفوز بالبطولة) بركلات الترجيح، قبل أن يُسجل القائد التاريخي يونس محمود هدف الفوز على المنتخب السعودي (صاحب الحظوظ الأوفر للفوز بالبطولة) في النهائي، كان هذا الانتصار هو بهجة العراقيين الأولى ومؤنسهم حينها في بحر من الأحزان.
مثل هذه الانتصارات هي التي تبقى كعلامة تاريخية مهما طال الأمد.
معركة بارتيزان
لأول مرة في تاريخها وصلت ألبانيا إلى نهائيات أمم أوروبا 2016، تلك الدولة التي عندما يذكر اسمها أمام أغلب أبناء الشرق الأوسط يعتقدون أنك أخطأت في النطق وأنك تقصد “ألمانيا”، لكن لا، هي ألبانيا الدولة التي لم يصل عمرها لـ100 عام بعد، بعد أن قاسى شعبها ويلات الحروب والاحتلال والانتفاضات طيلة تاريخها.
لم يكن طريق الوصول ممهداً مفروشاً بالورود، فلقد كان على المنتخب الألبانيّ المرور من بوابة الغول الصربي، وما يحمله هذا اللقاء من نيران في الصدور لم تطفأ بعد.
تعود جذور الكراهية إلى الحرب العالمية الأولى، حينما مرّت الدولة العثمانية بضعف واضح في إقليم “البلقان”، وأُعلن استقلال ألبانيا كنتيجة لمؤتمر لندن لوقف الحرب في البلقان، لكن ذلك لم يرضِ الصرب الذين أعلنوا الحرب على ألبانيا باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أرضهم، وفي إطار الحرب خسرت ألبانيا أجزاءً كبيرة من أرضها أدت إلى خروج ما يقارب من نصف سكانها منها وانضمامهم إلى الدول المجاورة.
توقفت الحرب لأمد من الزمن حتى تجدد الصراع مع انتفاضة إقليم “كوسوفو” الذي كان جزءاً من دولة صربيا مطالباً بالاستقلال، ومع الدعم الألباني لاستقلال الإقليم تجددت الاعتداءات الصربية مجدداً بدعم روسي، ثم توقفت الحرب بضغوط دولية.
في 14 من أكتوبر لعام 2014، في ستاد بارتيزان في العاصمة الصربية بلغراد، كانت مباراة المنتخبين في إطار الجولة الثالثة المؤهلة، وفي أثناء عزف النشيد الوطني الألباني حلّق علم ألبانيا فوق الملعب، ليس هذا هو الحدث، لكن العلم كان ضاماً لإقليم البلقان وأجزاء من ألبانيا يؤمن الصرب بأنها حقهم، لم يحتمل “ميتروفيتش” لاعب المنتخب الصربي رؤية العلم محلقاً هكذا، فقفز وانتزعه لتبدأ معركة حامية الوطيس، انتهت بإلغاء المباراة واقتحام الجماهير للملعب، وهروب رئيس وزراء ألبانيا من المدرجات، وإلقاء القبض على شقيقه.
احتسبت المباراة لصالح المنتخب الألباني في النهاية ليحصل على ثلاث نقاط ساعدته كثيراً في الوصول إلى أمم أوروبا.
وصل المنتخب الألباني إلى أمم أوروبا في أكبر حدث رياضي في تاريخ ألبانيا، ليعلن مجموعة من مشجعي المنتخب أنهم سيذهبون إلى فرنسا حيث تقام البطولة مشياً على الأقدام، تعبيراً عن امتنانهم للاعبي الفريق الذين رسموا البهجة على وجه ألبانيا بأسرها.
الوصول الفلسطيني الثالث
مدعوماً بطوفان جماهيري، يتطلع منتخب فلسطين إلى كتابة تاريخ جديد لمشاركاته في بطولة كأس آسيا لكرة القدم.
وصول منتخب فلسطين في كأس آسيا 2024 بقطر هو الوصول الثالث في البطولة، بعد أول مشاركة له في أستراليا عام 2015، ثم في نسخة الإمارات عام 2019، والآن يعود من جديد.
يشارك منتخب فلسطين في المجموعة الثالثة، بجانب منتخب إيران صاحب اللقب في 3 مناسبات، والإمارات، وهونغ كونغ، مهمة ليست سهلة لرفاق المدرب الجزائري مكرم دبوب.
لم يسبق للمنتخب الفلسطيني تحقيق أي فوز في كأس آسيا خلال مشاركتيه السابقتين. أظهر أداء منتخب فلسطين في النسختين الماضيتين قلة خبرة ورعونة، خاصة على مستوى الهجوم، حيث سدد لاعبوه فقط 16 تسديدة، منها 4 تصدى لها حراس الخصوم، في نسخة الإمارات 2019.
مباريات منتخب فلسطين
تبدأ مباريات منتخب فلسطين في مشواره في البطولة بمواجهة مع إيران في 14 يناير/كانون الثاني على ملعب المدينة التعليمية. ثم سيواجه منتخب الإمارات بعد 4 أيام على ملعب الجنوب، وسيختتم دور المجموعات بمواجهة هونغ كونغ في 23 يناير/كانون الثاني على ملعب عبد الله بن خليفة.
يعسكر المنتخب الفلسطيني حالياً في الجزائر، وتحديداً بمدينة عنابة، ويأمل مدرب منتخب فلسطين، مكرم دبوب، في قدرة الفريق على التألق من خلال التحضير الجيد لبطولة كأس آسيا، التي تقام من 12 يناير/كانون الثاني وحتى 10 فبراير/شباط 2024.
ويعتبر وصول منتخب فلسطين للمرة الثالثة على التوالي إلى بطولة كأس آسيا تأكيداً على عزيمة الشعب الفلسطيني وقدرته على تحدي الصعاب. فهذا المنتخب، المكوّن من لاعبين واجهوا الكثير من المعوقات وتجاوزوها مثل مضايقات واعتقالات الاحتلال الإسرائيلي، والصعوبات في السفر لخوض المباريات وغيرها من التحديات، قادر على أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه بتحقيق إنجاز كروي غير مسبوق.
مصدر الشغف
صارت كرة القدم مصدر الشغف للملايين، ساعة ونصف من الهروب من العالم الحزين، فدول كالعراق وفلسطين هي دول فقيرة يقاسي أهلها ويلات الاحتلال، أما الألبان فحالهم أفضل قليلاً.
صارت كرة القدم كلَّ شيء للمتيمين بفرقهم، مصدر الأدرينالين في العروق، حبس الأنفاس حتى اللحظات الأخيرة، خيبات الأمل، الانتصارات غير المتوقعة، الهدف في الثانية الأخيرة، إصابة نجم الفريق وتحامله على نفسه لاستكمال المباراة.
هذه التفاصيل والمئات غيرها هي التي تجعل معنى لهذه اللعبة.