جزيرة غوري، السنغال- عشرات الفتيات من خيرة العقول السنغالية الشابة يقمن حاليا في جزيرة غوري، لا يوجد خبر أسعد للأوروبيين من هذا لو عاد التاريخ قرنين إلى الوراء، أو توغل قرنين آخرين، حينما كان هذا العدد من الفتيات أو حتى من المراهقين أو الرجال الأشداء عنوانا لرحلة نخاسة مربحة تنتهي بمن نجى من الأمواج عبدا يحمل آصار الحياة، وأغلال التاريخ في عنقه وقدميه.
إنها غوري.. تلك الكف السمراء التي مدتها الطبيعة بين ضفاف الموج الخضراء، قبل أن تسقيها أمواج الدموع، وتتعالى على الظهور السمراء لعابريها من شيوخ وصبية ونساء، سياط النخاسين البيض الذين أقاموا أركان اقتصاديات غربية، وثروات شعوب وأفراد مؤسسات على قوائم من جوع ودموع العبيد الأفارقة الذين عبر جزء كبير منهم على الأمواج المصاقبة لغوري، وانطلقت بهم السفن تمخر عباب الغيب، قبل أن ترميهم في آخر مثوى للألم، وأبعد نقطة من محل الميلاد.
تتلقى تلك الفتيات المقيمات بالجزيرة تعليما نوعيا، باعتبارهن من بين صواحب المعدلات الأعلى في السنغال، ويتهيأن بين الحين والآخر لرحلات وإقامات تعليمية في مدن أوروبية راقية، في رسم جديد للعلاقة بين غوري وأوروبا، يطوي تلك الصفحة الدامية، كما كان يطوى شراع السفن مؤذنة بمن استطاع الصمود من العبيد والوصول إلى المرافئ الغربية.
هضبة من الألم وسط الأمواج
تنتصب غوري كهضبة صغيرة أو تلة غافية بين الأمواج على بعد 3.5 كيلومترات لا أكثر من العاصمة السنغالية دكار، تغتسل الجزيرة التاريخية بالأمواج العاتية منذ الأزل، لكنها ربما اغتسلت أكثر بشلالات الدموع التي ذرفها قرابة 20 مليون عبد أفريقي، نقلوا عبر بوابة اللاعودة التي تمثل الآن جزءا من متحف العبودية الأفريقية.
ولا تزيد مساحة هذه الجزيرة على 28 هكتارا، بعرض لا يتجاوز 300 متر، وطول ينحني للأمواج قبل أن يكمل كيلومترا واحدا، ومع ذلك دخلت التاريخ بعمق وعنف وآلام شديدة.
صنفت اليونسكو هذه الجزيرة ضمن التراث العلمي منذ عام 1978، ومنذ عقود أصبحت جزءا أساسيا من موارد السياحة في السنغال، حيث يفد إليها يوميا مئات السياح، وتنتعش فيها حركة اقتصادية متواصلة يستفيد منها اقتصاد البلد، وسكان القرية الذين لا يتجاوز عددهم 1200 نسمة، يعيشون على ما تدره ذكريات الدموع وآثار طريق الرقيق من مال وفير، وما يروي ظمأ السياح من قصص ومعلومات مؤلمة عن الملايين العابرة للأمواج تحت رحمة سياط الرجل الأبيض.
ساحة صراع أوروبي
وقد نفض البرتغاليون أثوابهم على شاطئ غوري سنة 1444 ميلادية، ليغرسوا بذلك أولى مخالب النخاسة الأوروبية في هذه الجزيرة الوادعة، ولم تكتمل 6 سنوات على نزولهم في هذا الصقع البحري، حتى أقاموا بها مركزا تجاريا وكنيسة صدح قداسها سنة 1450، ثم دار زمان البرتغاليين، فاستولى الهولنديون على الجزيرة سنة 1617، قبل أن تدخل الإيالة الفرنسية والبريطانية ثم الفرنسية على التوالي طيلة 4 قرون انتهت بسيطرة كاملة من الفرنسيين منذ عام 1817 ميلادية.
ولدور غوري في تجارة الرقيق وكونها المرفأ المباشر الذي لا تفصله عن الولايات المتحدة أكثر من 8 آلاف ميل بحري، فقد كانت ميدان صراع وتنافس، بين القوى الاستعمارية التي تبادلت السيطرة عليها 17 مرة.
وقد كان الفرنسيون الأكثر حظا حيث امتدت سيطرتهم عليها لأكثر من قرنين من الزمن، وقد كانت فترة سيطرة الغربيين على الجزيرة حافلة بالرحلات المؤلمة التي نقلت الملوك والسوقة والعلماء والأطفال والمحاربين في السلاسل، يسمسرون كما تسمسر البهائم.
وتبدو المفارقة المؤلمة في كون القرون الدامية السوداء من عمر جزيرة غوري كانت في عمق عصر الأنوار الأوروبي وسير العقل الغربي الحثيث نحو الديمقراطية وحقوق الإنسان، الذي يتضاءل معناه وحريته ما لم يكن أوروبيا، مستوطنا أو غازيا أو نخاسا يجوب الآفاق.
ويعتقد الحقوقي السنغالي عليون تيون، في حديث له مع الجزيرة نت، أن غوري هي قصة الانقلاب الحضاري الأكثر بشاعة في التاريخ، حيث استوت على جودي الإرهاب سفن الأوروبيين لتنقل إلى المزارع والحقول والمناجم والمصانع الغربية، وليقيم على الظهور الأفريقية نهضته الصناعية.
ينظر تيون إلى الفترة باعتبارها الفترة التي وصلنا فيها إلى القاع في التعامل مع الإنسان الأفريقي وكرامته، حين كان هناك من لا ينظر إليه كبشر؛ وتلك هي طبيعة الاستعمار، لأن الاستعمار -وفق قوله هو دائما هيمنة، وتغيير للهويات، للأسماء، للغة، للثقافة، وبالتالي فإنه مثل العبودية يعتبر جريمة ضد الإنسانية.
غرف التعذيب والتسمين والانتهاكات
يجول المرشد السياحي الذي رافقنا في جزيرة غوري بين الأروقة الضيقة لقلعة غوري، وبين الزنازين الصغيرة التي كانت مأوى العابرين إلى حيث لا عودة، لا يمهلك الرجل وقتا طويلا لتشبع نهم فضولك وشغفك بالاطلاع على كل التفاصيل، فقد باتت مهمة حكاية التاريخ واستدرار المواجع الأفريقية ميدانا آخر يدر المال على عدد غير قليل من مقدمي خدمات الدلالة والسياحة، بعد أن كان الجزيرة ميدانا آخر لاستدرار المال من آلام دموع العبيد المهجرين.
وبين أزقة المدينة تكثر الواجهات المطلية باللونين الأحمر والأصفر الأثيرين في العلم السنغالي، وألوان أعلام الدول التي احتلت الجزيرة في غابر الأيام وسالف الأزمان.
وتوجد بها كنيسة ومسجد كان في الأصل ديرا للراهبات، وقد اختارت له اليونسكو التي رممته أن لا ترتفع منارته ولا أن تمتد هامته، وذلك حفاظا منها على “ما كان” من تشكيل معماري في الجزيرة ذات الخدوش المؤلمة في تاريخ أفريقيا.
ولم يكن غير البهيمية عنوانا للتعامل الأوروبي مع هؤلاء المجلوبين من “بلاد السود” فكانوا يختارون الأقوياء الصعاليك، أما الضعاف المهازيل فيتلقون تسمينا خاصا في الجزيرة قبل أن يشحن إلى الضفاف الأخرى، كما يتم التخلص ممن لا يجدي معه التسمين بإلقائه إلى المحيط.
وكان الشاب القوي البنية يحظى برعاية خاصة، ما دام مروضا سهل القياد، فإذا كان من أهل الشكيمة أو الممانعة، فكانت القضبان والقيود الحديدية ذات الوزن الثقيل له بالمرصاد، ليقبع في زنازين ضيقة تحمل اسم بيوت العبيد.
وقد بدأ تشييد هذه الزنازين الضيقة في عام 1780، ورغم أن مساحتها لم تكن تزيد على 6.76 أمتار مربعة، فإنها كانت بمثابة صناديق يتكدس فيه أكثر من 15 شخصا، يتجاورون في عنابر الألم، ويتم تقييدهم أثناء وجودهم في الزنازين، ولا تفك عنهم تلك القيود إلا مرة واحدة في اليوم خلال فترة السماح لهم بدخول الحمام كما يقول المرشد السياحي الذي رافقنا في الجزيرة.
أما المتمردون فقد كانوا يسجنون في أقفاص حجرية لا يتجاوز ارتفاعها 0.8 متر، وهو ما سيكون بمثابة دورة تأهيلية مؤلمة للأفريقي المتمرد، لكي يحني هامته لسياط النخاس والأيام، وعواثر الحظ الماخر للأمواج.
أما الغرف الكبيرة في بيت العبيد فلم تكن تتجاوز مساحتها 10 أمتار مربعة، وكانت تحتضن لا على سبيل الحنان والدفء أكثر من 50 نزيلا، ممن قذفت بهم الأقدار إلى جحيم العبودية قادمين من أصقاع أفريقية متعددة.
ولأن تسمين هذه البضاعة البشرية ضرورة مهمة لرفع أسعارها، فقد كانوا يتلقون وجبات من الفاصوليا وزيت النخيل، وذلك من أجل زيادة الوزن الذي يسهم في زيادة سعر المعروض البشري.
وكما يتفاضل العبيد بحسب الوزن والقوة، فإنهم يتفاضلون أيضا بحسب الجنس والعمر، فقد كانت الفتيات والمراهقون والشباب الأقوياء أكثر جاذبية تسويقية من غيرهم، نظرا للآفاق المفتوحة أمامهم في العمل والإنتاجية والإنجاب أيضا.
وقد أقيم في غوري 28 منزلا عرفت ببيوت العبيد، ومنذ أن توقفت هذه التجارة مطلع القرن العشرين، تحولت تلك البيوت إلى مساكن غافية تحت ركام التاريخ الأسود، فيما حولت الحكومة السنغالية واحدا من هذه المنازل إلى متحف، وذلك بعد أن دخلت غوري سنة 1976 إلى قائمة التراث العالمي، ولكن من بوابة عسف الإنسان الأبيض بأخيه الأسود.
ولأن بيوت العبيد هي المرفأ الأخير قبل العبور إلى المجهول المؤلم، فقد امتد بين عنابر الموت معبر يفضي إلى المرسى الذي تبحر منها سفائن النخاسين، لقد اختار الأوروبيون لهذا المعبر اسما بالغ الدقة في التعبير أنه “طريق اللاعودة”.
وتتضارب الأرقام بشأن العابرين في طريق اللاعودة، حيث تذهب الروايات الأفريقية المتعددة إلى أن عددهم لم يقل عن 20 مليون إنسان، أما في بعض الأدبيات الأوروبية فإن الرقم يهبط إلى 11 مليونا، وهو في النهاية عدد هائل يغلف بالدماء والدموع، حقبة أوروبية وأميركية استمرت أكثر من 400 سنة.
وتعددت في أفريقيا مصادر بيع الرقيق، حيث كان الملوك والقادة يبيعون أتباعهم، فيما كانت الحروب البينية توفر هي الأخرى أعدادا هائلة من الأسرى الذين يتحولون إلى طوابير في أسواق العبيد.
وتتفاوت أسعار العبيد حسب مزاج النخاس وحركة السوق، فربما بيع شخص قوي مفتول العضلات، بموضع قدمه من الملح الذي كان تجارة رابحة تعادل الذهب اليوم، وربما بيع بحفنات من شعير أو أرز، كما أن عددا من الأسر الأفريقية الفقيرة كانت تبيع بعض أبنائها لتعيل الآخرين، وفق ما هو سائد في الأدبيات المتداولة لدى سكان المنطقة، دون أن يتم إثبات ذلك تاريخيا.
ولشيوع هذه الظاهرة وصعوبتها كانت الزعامات الدينية الإسلامية تعمل بقوة لمحاصرتها، وفق ما يذهب إليه التاجر الفرنسي شامبونو متحدثا عن العالِم الموريتاني الإمام ناصر الدين “فمنذ ظهور هذا المرابط لم يصعد عبد أفريقي واحد إلى سفننا”.
ويؤكد المؤرخ السنغالي عبد الرحمن انكيدا في حديث مع الجزيرة نت أن “عبيد غوري” لم يكونوا من السنغال فحسب بل كانت تأتي بهم القوافل من مالي ونيجيريا والنيجر وموريتانيا ودول أفريقية عديدة.
الأمير السنغالي العائد من الأسر
ومن المفارقات الغريبة جدا أن أحد الأمراء الأفارقة الذين وقعوا في الأسر والنخاسة عاد بالفعل عبر معبر اللاعودة، وهي حالة يتحدث عنها بعض المؤرخين باعتبارها حالة من أندر ما حصل في تاريخ الجزيرة المضمخة بتاريخ المأساة.
ففي الثلاثين من عمره، وقع الأمير السنغالي الشاب أيوب سليمان ديالو في شباك النخاسة، أبحرت به ذات ألواح ودسر، مخرت الأمواج، وتراءت شواطئ الوطن من بعيد، بعد أن ابتلعه الغيب، لتنسج زرقة الموج وعسف النخاسين ثوب حياة آخر ليس من أثواب الأمراء والقادة الأفارقة، وخصوصا أحفاد الملك العالم إبراهيم ديالو الفولاني.
كانت رحلة النخاسة هي التي عجلت بالقيود إلى قدمي أيوب، ليكون ثالث العبدين اللذين أراد بيعهما وينتهي به الأمر أسيرا لدى شعب الماندي الوثني، الذين باعوا الثلاثي إلى النقيب بايك من شركة رويال أفريكان ولتطوح به رحلة النخاسة إلى ميريلاند في الولايات المتحدة، حيث بيع هناك وعمل فترة في مزرعة للتبغ، قبل أن يتمكن من الفرار الذي لم يطل، ليحتضنه السجن، ولكن ثقافته الواسعة أخرجته من السجن، مع بقائه مسلما رغم العروض الكثيرة التي انهالت عليه لكي يكون “المسيحي الأسود”.
رمت الأقدار حبل نجاة إلى أيوب سليمان، حينما التقى القاضي والقس الإنجيليكاني توماس بلوت، الذي فوجئ بالثقافة الواسعة للرجل ولعمق معارفه الدينية، زيادة على كونه أحد أبناء الفخامة في بلاده، ليسمح له بعد ذلك بكتابة رسالة إلى والديه تتضمن استنجادا لدفع فدية عنه، ودعوة لمستضيفه من 32 شخصا تثبت أنه ابن السادة الأمراء، ترى هل أجابه قومه أم لا، الأكيد أنه سافر إلى العاصمة البريطانية لندن، واستعاد حريته بكتاب رسمي مختوم وكان ذلك عام 1733، وبالتوازي مع ذلك أصبح يحمل اسم جوب بن سالومون، وتطورت علاقته مع النخبة اللندنية، لتصل حد استقباله من لدى الملك الإنجليزي جورج الثاني (توفي 1760).
ومع عودته إلى بلده في عام 1734، واستعادته لسلطة بوندو الضعيفة، احتفظ سليمان بمودة خاصة مع البريطانيين، ليدلف إلى جلاليب النسيان، طيلة قرنين أو أكثر، قبل أن تكتشف رسالته المكتوبة باللغات الثلاث العربية – الإنجليزية- الفرنسية سنة 2015، ولتنتقل إلى العالم عبر مقال بقلم الكاتب الفرنسي جان بيير بات نشر عام 2020 في صحيفة ليبراسيون الفرنسية، وتضمن العديد من التفاصيل السابقة.
ولم تكن السنوات الثلاث التي قضاها الأمير السنغالي أيوب بن سليمان فاصلا بسيطا في حياته، بل كانت عنوان الشهرة الأهم في حياة هذا الأخير الذي تكبد ألم 3 حجج، عبدا من “فئة العلماء والمثقفين” قبل أن يتغمدها النسيان من جديد، فلا يعرف عنه شيء، سوى ما كشفت عنه النصوص الغربية، باعتباره المحظوظ الأوحد على الأقل من ضحايا تجارة النخاسة، الذي تمكن من العودة إلى بلاده، واستعادة حريته وملك آبائه.
عبد موريتاني تحول إلى رمز بأميركا
وإذا كان الأمير السنغالي أيوب سليمان قد استعاد حريته ووطنه، فإن ابن الضفة الشمالية الموريتاني الشيخ عمر بن سعيد الفوتي نال هو الآخر رحلة نخاسة طويلة المدى ألقت به أمواجها إلى الشواطئ الأميركية، منتقلا من السلطنة والجاه إلى الرق والاستعباد، في بلاد العم سام، بعيدا عن موطنه الأصلي في منطقة فوتا بولايات ضفة النهر في موريتانيا التي عاش فيها 37 سنة من عمره، فقيها مدرسا وسيدا مطاعا، قبل أن ترميه النخاسة عبدا مسترقا في مدينة فايَتْفيل بولاية كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة الأميركية.
ولد بن سعيد في عام 1770، وتلقى تربيته الأولى في عائلة محافظة وفي أوساط ثرية، وقد حفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية، وحج بيت الله الحرام، وشارك في الحروب ضد القبائل الوثنية في منطقة غرب أفريقيا.
ولكن مسار حياة الرجل انقلب رأسا على عقب في عام 1807، حين تم أسره من قبائل البمبارا مع عدد من أهله وأقاربه، ثم باعوه إلى تجار العبيد الذين ألقوا بهم إلى مرافئ النخاسة، على الشواطئ الأميركية بعد رحلة مضنية مليئة بالقسوة والمعاناة استمرت شهرا ونصف شهر في عرض البحر.
انتقلت ملكية بن سعيد من سيد إلى آخر، وتعرض للسجن جراء هروبه من سيده الأول، وهناك في السجن كان يوثق بعض ملاحظاته ويكتب أفكاره على الجدران، وهو ما لفت انتباه الجنرال جيمس أوين (شقيق جون أوين حاكم ولاية كارولينا الشمالية) إليه، ليخرجه من السجن، ولكنه ذهب به للعمل في مزرعته الخاصة.
ظلت العروق الفولانية تنبض في وجدان عمر الذي أخرج من ملكه، وبلاده وسلطانه، ولم يدخر مسترقوه أي جهد لإخراجه من دينه لكنه ظل صعب المراس عصيا على الذوبان في حضارة لم يألفها، وعالم أدرج فيه قسرا دون أي يكون له أي قدرة على الخروج من عنف القيد، حتى وإن اتسعت حلقتا القيد، وسمحتا للرجل الذي عاش في أغلال العبودية والغربة 55 سنة، أن يتحرك قليلا، وأن يكتب بقلمه قصة مأساته، وتاريخ الإرهاب الذي مورس عليه، لتأتي مذكراته في 28 صفحة تضمنت سردا لحياته وما عاناه من ويلات ومآس، قبل أن يغادر الدنيا غريب الوجه واليد واللسان في بلاد العم سام.
وتحمل مذكرات بن سعيد رمزية بالغة باعتبارها المذكرات الوحيدة التي كتبها باللغة العربية أحد الأفارقة المستعبدين في الولايات المتحدة.
وقد افتتحها بالقرآن الكريم وتحديدا بسورة الملك، مما يعني أن الرجل بقي عاضا بالنواجذ على إسلامه، ولم تفلح الضغوط والمساومات في دفعه للتخلي عنه.
ورغم الأهمية البالغة لتلك المذكرات فقد بقيت طي النسيان ولم يعثر عليها إلا في نهاية القرن العشرين، ولاحقا أصبحت في حيازة الكونغرس وباتت متاحة للجميع بداء من عام 2019.
وبعد أكثر من 5 عقود من الزمن قضاها عمر بن سعيد عبدا مسترقا بعيدا عن الديار والأحباب، توفي عام 1864 دون أن يخلف عقبا، لتنتهي حياته التي زادت على التسعين حولا، وقضى معظمها عبدا من طراز “الفقهاء”، ليختم بذلك حياة لم تكن نهايتها مثل بدايتها سنة 1770، عندما كان زعيما قويا من سادة قومية الفولان.
وعلى ربوة في منطقة “بلادن” تظهر شواهد قبر الرجل، كما بنت سلطات مدينة فايتفيل مسجدا باسمه سنة 1991 تخليدا لذكراه واعترافا بمكانته الثقافية والاجتماعية وفق ما وثق ذلك المؤرخ الموريتاني الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير.
وقد امتاز عمر بن سعيد بثقافته الواسعة وبالسيرة الذاتية التي دوّنها عن نفسه، مما جعل منه علامة فارقة في التأثير الثقافي للعبيد الأفارقة في حياة الغرب، ذلك التأثير الذي خنقته العنصرية طيلة عقود، قبل أن ينتفض صارخا مع حنجرة مارتن لوثر كينغ “لديّ حلم”.
وليس أيوب سليمان ديالو، وعمر بن سعيد سوى مثال لما حملته ماخرات اليَمّ الغربية من نخب وعوام الشعوب الأفريقية، وما كتبته من عدوان، لكنها أيضا عنوان للملايين التي عبرت من الجزيرة الخالدة “غوري” أيقونة السياحة الآن في السنغال، وعنوان الرعب الأفريقي طيلة 4 قرون.
سير متصاعد نحو الحداثة
مع نهاية عصر النخاسة بدأت غوري عصرا جديدا، فاحتضنت واحدة من أهم المدارس العصرية في غرب أفريقيا، لكنها حملت اسم واحد من الرحالة الفرنسيين وهو وليام بونتي، ومنذ إنشائها سنة 1903، تحولت هذه المدرسة إلى منجم لصناعة القادة الأفارقة، الذين أداروا دفة ما بعد الاستقلالات الأفريقية عن فرنسا، ومن مشاهير الزعماء الذين مروا بهذه المدرسة الراحلون هوفوت بوانييه رئيس ساحل العاج، وموديبو كيتا أول رئيس لمالي، والرئيس السنغالي الأسبق عبد الله واد.
وتحتضن الجزيرة أيضا مدرسة مريم با للبنات، في إحياء لذكرى ومكانة الكاتبة السنغالية ذات الشهرة العالمية، كما تحتضن واحدا من أقدم مساجد السنغال، حيث شيد سنة 1890، وما زال يصاقب حركة الريح والموج، ولكن دون منار.
وإلى جانب ملايين السياح الذين يترددون بشكل مستمر على هذه المدينة، فقد زارها أيضا قادة ومؤثرون عالميون منهم الرؤساء الأميركيون بيل كلينتون سنة 1998، وجورج بوش سنة 2003، وباراك أوباما سنة 2013 الذي رأى في غوري تجربة تعد تذكيرا “قويا” بضرورة الدفاع عن حقوق الإنسان.
وما زالت آثار هؤلاء القادة باقية في الجزيرة، حيث علقت صورهم ومشاهد من زياراتهم للجزيرة في بعض غرفها، أما الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا فأطلق اسمه على إحدى أهم ساحات الجزيرة، تكريما لذكرى وجهود أحد أشهر القادة الأفارقة، والذي تحول إلى رمز عالمي للحرية والانعتاق ومكافحة العنصرية.
ومن المعالم التي ظلت تميز جزيرة غوري تمثال حرية العبيد، حيث ينتصب رجل أفريقي أسود فارع القامة تحتضنه زوجته وهما واقفان فوق طبل يتنسمان عبير الحرية، وقد تدلت من أجنحتهما السلاسل المحطمة، ويرمز الطبل إلى واحدة من أفظع فخاخ اصطياد العبيد، حيث كانوا يزفون مسرعين إلى صوت الطبل في طقس أفريقي عريق يمجد الفن والطرب، وما إن يتوافد الصغار والفتيات إلى ذلك القرع الجبار حتى تلتقمهم السلاسل والأغلال، ويبدأ تسفيرهم قسريا إلى معبر اللاعودة.
وقد تم إطلاق ذلك الاسم عليه وفقا للمرشد السياحي في الجزيرة، لأنه آخر عهد للعبيد بأفريقيا، فبعد خروجهم من ذلك الباب لا يعودون أبدا إلى القارة، وينقلون مكدسين في سفن كبيرة إلى الأميركيتين للعمل في مزارع التبغ والقطن والكاكاو وقصب السكر وغيرها.
ولئن كان الداخل -سابقا- من العبيد إلى تلك الجزيرة مفقود، فإن المعابر منها اليوم وإليها سهلة وميسورة، ولم يعد الوصول إليها رحلة نحو الموت أو العبودية، بل أصبحت استجماما في سفينة تمخر العباب الأزرق للأمواج، لترسو على الجزيرة بعد 35 دقيقة لا أكثر، ولتنفتح أمامها صفائح الأيام، سود الوقائع، حمر الذاكرة الدامعة.
وبينما كانت في السابق خاصة بالأرقاء وأسيادهم الأوروبيين، أصبحت الآن قبلة يومية لمئات السياح من السنغاليين والأجانب، يتجولون في جنباتها ويسألون المرشدين السياحيين عن تفاصيل ما حل بالعابرين منها في القرون الغابرة، فبعضهم يهتبل اللحظة لالتقاط الصور، وآخرون تخنقهم العبرة أمام هول التفاصيل، والبعض يطيل الوقوف وهو يتأمل المشهد، ويستعيد تلك الذكريات المؤلمة، على ركام الماضي المنحوت من تلك الآلام الأفريقية العميقة.
ومع خيوط المساء تلتحف الحجارة السوداء الصخرية بأشعة الشمس الذهبية، قبل أن يمد الليل بساطه على تلك البيوت الصغيرة الغافية بين أجنحة الموج، ليعزف الشاطئ ألحان المغيب التي تلقى سيمفونياتها الأولى نحيبا ونشيجا داميا سالت ذبذباته في اليم العميق وعلى مدى آلاف الكيلومترات، تمخر قصة الوجه الأسود من تاريخ الغرب تجاه القارة السمراء.