ما إن بدأت الهدنة الإنسانية في قطاع غزة في الرابع والعشرين من نوفمبر، بعد 46 يوماً متواصلة من الحرب، حتى تكشَّف حجم الدمار الهائل الذي حلَّ بالقطاع، الجامعات والمدارس والمصانع والبيوت والمستشفيات ومرافق الحياة بأسرها طالها القصف والتدمير، بيدَ أن استهداف الاحتلال الإسرائيلي للبنى التحتية كان الأعظم أثراً على صعيد الكلفة وطول المدة اللازمة للتعافي، وما إن انتهت الهدنة حتى عادت سياسة التدمير لِما كانت عليه.
خلال الحرب اتَّبع الاحتلال الإسرائيلي ولا يزال سياسةً ممنهجةً متمثلةً في تدمير مقومات الحياة بقطاع غزة، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش، فاستهدف مطحنة القمح الوحيدة في قطاع غزة وصوامعها، وقصف خزانات وآبار المياه الصالحة للشرب، وعمد إلى إخراج شبكات التزود بالمياه والصرف الصحي الرئيسية عن العمل.
مع تركيز وسائل الإعلام على شحّ المياه قد يتبادر لذهن القارئ أن مشكلة المياه لدى الغزيّين منحصرة بإيجاد مياه صالحة للشرب، وهذا ليس صحيحاً، فرغم أهميتها فإن تصريف المياه العادمة يشكل تحدياً بالغ الأهمية؛ كون التخلص منها بغير الطرق الصحيحة الآمنة يضع قطاع غزة برمته على شفا كارثة تهدد كل ما يحتويه القطاع من مكونات بيئية.
كيف يكون ذلك؟ نستعرض في هذا المقال الجوانب الخطيرة لمشكلة المياه العادمة في قطاع غزة.
وضع نظام الصرف الصحي في قطاع غزة قبل السابع من أكتوبر
يقوم سكان قطاع غزة بتصريف الكم الأكبر من المياه العادمة بواسطة شبكة الصرف الصحي التي تديرها البلديات، حيث تصل نسبة ربط المنازل بشبكة الصرف الصحي إلى %78، بناءً على دراسة أجراها البنك الدولي في عام 2018، أما النسبة المتبقية من المنازل فتقوم بتصريف المياه العادمة من خلال الحفر الامتصاصية. ويقدّر مجمل الكمية التي يتم تصريفها سنوياً بواسطة الشبكة بحوالي 80 مليون متر مكعب، ما يعادل 220 ألف متر مكعب يومياً.
تعمل شبكة الصرف الصحي على تجميع المياه العادمة في بِرك كبيرة، ثم تنقلها مضخات نضحٍ لمحطات معالجة المياه العادمة. في حرب عام 2021 قصف الاحتلال الإسرائيلي 18 مضخة لمياه الصرف الصحي، خرجت 6 منها عن الخدمة تماماً. أيضاً تم تدمير 18,734 متراً من شبكة الصرف الصحي، ونتيجة الحصار لم يتم ترميم هذه الشبكة، ولم تعد إلى حالتها السابقة. تعتمد منظومة الصرف الصحي في قطاع غزة على إمدادات الوقود والكهرباء المتذبذبة، فنادراً ما تعمل بكامل طاقتها الاستيعابية، وقد أشار البنك الدولي في تقريره عام 2018 إلى أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه فسيصل عجز الكهرباء إلى %63 بحلول عام 2030.
بشكل عام تعاني المياه من ملوحة عالية وتلوث شديد، نتيجة ارتفاع مستويات النترات والبورون السامّين، إضافة للقولونيات البرازية، والمسبب الرئيسي لهذا التلوث هو تسرَّب المياه العادمة إلى المياه الجوفية من الحفر الامتصاصية، فنوع التربة الرملية ذات النفاذية العالية، التي تغطي معظم قطاع غزة، يشكل نقطة ضعف، تجعل تسرب المياه الملوثة إلى الآبار الجوفية أمراً سهلاً؛ لذلك سعى صناع القرار في قطاع المياه على زيادة ربط المنازل بشبكة الصرف الصحي، وتقليل استخدام الحفر الامتصاصية.
مياه المستشفيات العادمة.. إلى أين؟
تنتشر الملوثات والجراثيم في بيئة المشافي عادةً، يمتد ذلك إلى ما يستخدمه المرضى من أدوات ومرافق وما يستعمله الأطباء في علاج المرضى. يطلق على هذه المخلفات النفايات الطبية، ويستخدم في التخلص الآمن منها بروتوكول متخصص، يضمن الحدّ من انتقال العدوى وانتشار الأوبئة. تصنف المياه العادمة التي تُصرّف من المشافي على أنها نفايات طبية، كونها تحتوي على مسببات عدوى ومركبات دوائية ومضادات حيوية، وأحياناً بقايا مواد كيميائية ومشعة، والتي تحتاج إلى أدوات وطرق آمنة للتخلص منها، لذلك ينص قانون الصحة على إنشاء وحدة معالجة أولية لمياه المشافي العادمة، قبل إعادة ضخها في شبكة الصرف الصحي العامة.
يوجد في قطاع غزة 32 مشفى، وعدد من الوحدات الصحية التي تقدم خدماتها الطبية لأكثر من مليونَي قاطن في القطاع، ونتيجةً لشحّ الموارد المالية والحصار المتواصل منذ 17 عاماً، وعدم استقرار الأوضاع السياسية، لا يمتلك أي من مشافي غزة وحدة معالجة للمياه العادمة، باستثناء المشفى الأوروبي، أما بقية المشافي والوحدات فهي تضخ المياه العادمة بشكل مباشر في شبكة الصرف الصحي العامة، دون أي معالجة أولية.
يشكل صرف مياه المستشفيات العادمة في شبكة الصرف الصحي دون معالجة أولية خطراً محدقاً على سكان قطاع غزة إذا ما تسرَّبت المياه غير المعالجة للمياه الجوفية الملوثة أصلاً، أو تعرض السكان للتواصل المباشر معها. فعلى سبيل المثال لا الحصر تنشط في بيئة المستشفيات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية (antibiotic-resistant bacteria)، إذا ما تعرض البشر لهذه البكتيريا تزداد صعوبة علاجها؛ كونها أصبحت بكتيريا خارقة (Superbugs)، قادرة على مقاومة مجموعة من المضادات الحيوية. ولنا أن نتخيل حجم الضرر على منطقة تعاني من انهيار المنظومة الصحية وشحّ الأدوية.
في دراسة أجرتها الجامعة الإسلامية عام 2018 على مياه الصرف الصحي الخاصة بمجمع الشفاء الطبي، المجمع الأكبر في غزة، والذي يخدم أكثر من نصف مليون غزِّي، بمعدل ألف مريض يومياً، وجد الباحثون نسباً عالية من الملوثات، وأن تصنيفها كمياه عادمة هو “مياه عالية التلوث”، والتي يُمنع ضخها في شبكة الصرف الصحي دون معالجة أولية.
محطات معالجة المياه العادمة خارج الخدمة!
نتيجة الحرب أخرج الاحتلال الإسرائيلي 50% من الآبار والمضخات عن العمل نتيجة الاستهداف المباشر. في شمال غزة فقط تم تدمير 30كم من الطرق، بما تحتويه من بنى تحتية، كخطوط ناقلة وشبكات للصرف الصحي والاتصالات والكهرباء. ومع قطع إمدادات الكهرباء والوقود لم يعد من الممكن ضخ المياه العادمة من برك التجميع لمحطات المعالجة، وفقدت بلديات قطاع غزة القدرة على تشغيل محطات المعالجة، فإن وصلتها المياه العادمة فإنه يتم تصريفها إلى البحر مباشرةً دون معالجة.
ضخ المياه العادمة إلى البحر دون معالجة يعني تدمير الحياة البحرية، وتعطيل النظم البيئي. فقد تتراكم المواد السمية لسنين طويلة في أنسجة الحيوانات البحرية التي يصطادها سكان القطاع ويتغذون عليها. أيضاً تحتوي المياه العادمة غير المعالجة على مستويات عالية من العناصر الغذائية، مثل النيتروجين والفوسفور، وتساعد هذه العناصر الغذائية في تكاثر الطحالب، وبالتالي استنفاد مستويات الأوكسجين في الماء وخنق الحياة البحرية.
فصل الشتاء يزيد الطين بلة
كانت أمطار الشتاء مُنقذاً لأهل القطاع في توفير مياه الشرب، التي دمر الاحتلال الإسرائيلي بنيتها التحتية، على الصعيد الآخر لم تستوعب شبكة الصرف الصحي بوضعها الحالي كميات مياه الأمطار العالية. ولأنه لا يوجد فصلٌ بين شبكة الصرف الصحي وشبكة تصريف الأمطار، اختلطت المياه العادمة مع مياه الأمطار وملأت الشوارع، وفاضت داخل البيوت من مصارف شبكة الصرف الصحي في المراحيض. يزيد الشتاء الأمر تعقيداً، فالشوارع المدمرة لا تساعد فى جريان المياه، بل تجعلها تتجمع في المناطق المنخفضة، مسببةً بقاءها لفترة أطول، ما يفاقم من مشكلة التلوث ويشكل خطراً على الصحة العامة.
النفايات الصلبة تتكدس
تحوّلت أحياء المدن في قطاع غزة إلى مكاره صحية، نتيجة تراكم النفايات الصلبة في الشوارع، فالإغلاق الذي تفرضه الحرب وشح الوقود لا يسمح للبلديات بجمع النفايات الصلبة والتخلص منها بالطرق السليمة والاعتيادية. أيضاً دفعت حالة النزوح من وإلى مناطق متفرقة في القطاع إلى زيادة كميات النفايات وتركزها في بعض المناطق دون غيرها. في مدينة خان يونس مثلاً ارتفعت كمية النفايات الصلبة من 250 طناً يومياً إلى 350 طناً يومياً، ما زاد الضغط على طواقم جمع النفايات، فلا يستطيعون جمعها كلها ولا توجد مكبات تتسع لها. جذبت هذه النفايات المكشوفة القوارض والحشرات والبعوض وغيرها من الآفات الناقلة للأمراض. تتفاقم خطورة النفايات الصلبة عند تحللها، حيث تطلق غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون وغازات ضارة أخرى تُسهم في تلوث الهواء وانبعاث الروائح الكريهة، ويمكن أن يؤدي استنشاق هذه الغازات إلى مشاكل في الجهاز التنفسي، حيث سُجلت بعض حالات أمراض الجهاز التنفسي في هذه الأحياء، خاصةً لدى الأطفال وكبار السن.
الكارثة قبل أن تقع.. هذا إن لم تكن وقعت بالفعل!
مما استعرضناه يتضح أن أحد أسوأ الكوابيس البيئية التي يمكن تخيلها قد يصبح حقيقة في مكان واحد فقط، وحتى نضع الكارثة في إطارها الصحيح نرسم السيناريوهات التالية.
السيناريو الأول: بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي 50% من مضخات وآبار القطاع التي كانت تعمل، لتضاف لتلك التي ما زالت مدمرة منذ حرب عام 2021، ستبقى المياه العادمة إما كامنة في شبكة الصرف الصحي حتى تمتلئ وتفيض فتملئ الشوارع وتخرج من مراحيض البيوت. أو تصل برك التجميع لحالة الإشباع فتلقي بما تحتويه على الأحياء المجاورة، كحال بركة “أبو راشد”، التي لو فاضت ستُغرق منازل ربع مليون غزيّ في منطقة جباليا.
السيناريو الثاني: لو افترضنا- آملين- أن تُوصل شبكة الصرف الصحي ما تحتويه إلى محطات معالجة المياه العادمة، فدون كهرباء أو وقود لن تتم معالجتها، وستقوم المحطة بعد أن تمتلئ بِركها بضخّ المياه الملوثة إلى البحر الأبيض المتوسط. هذه المياه العادمة هي خليط من مياه الأمطار والمياه العادمة ومياه المستشفيات بما تحتويه من مسببات أمراض. مجتمعةً ستهدد شواطئ بحر غزة وتدمر حياته البحرية لفترة طويلة، سيُلوَّث رمل الشواطئ، ولن يستطيع الغزيون السباحة بأمان، ولن يستطيعوا أن يأكلوا من صيد البحر، وستزداد المياه الجوفية تلوثاً. الاحتلال الإسرائيلي نفسه اشتكى من ذلك بعد أن دفع موج غزة المياه العادمة إلى شواطئ يافا وأسدود، فمُنعت السباحة فيها لفترة طويلة خلال السنوات السابقة.
السيناريو الثالث: مع استمرار تكدس النفايات وتحللها وهطول الأمطار، ستختلط النفايات بالمياه، وتصبح السوائل المتسربة من النفايات أشد تلوثاً وأسرع في الانتشار. المخيف في الأمر هو اختلاط المياه العادمة بمياه المستشفيات ومياه الأمطار ومياه النفايات وجريانها في الشوارع. فقد يحصل تماسّ مباشر بينها وبين البشر عند امتصاص الجلد لها، أو ابتلاعها، أو تعرض العين لها، أو استنشاق أبخرتها المتطايرة. أو تماس غير مباشر من خلال الأسطح الملوثة، مثل الملابس أو الأحذية أو الألعاب، عندها فنحن نتحدث عن حالة وبائية شديدة وأمراض عديدة معدية، يمكن أن يتعرض لها السكان كالإسهال والقيء وتشنجات البطن أو التهابات الجلد والعينين والجهاز التنفسي والمسالك البولية. خلال الأيام الماضية سجلت حالات بالإصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ)، وانتشرت عند الأطفال حالات الإسهال الشديد والقيء، ما يعني أن هذا السيناريو أو بعض أجزائه قد تحقق بالفعل.
السيناريو الرابع: أن يفيض كل ما سبق إلى الأراضي الزراعية، وهو ما سيؤدي إلى تلوث التربة والإضرار بالكائنات الحية الدقيقة اللازمة لنمو النباتات، ما يجعل من الصعب زراعة المحاصيل في المستقبل. وقد يؤدي لتلوث المحاصيل، حيث تمتص النباتات الملوثات الموجودة في الماء والتربة، ما يجعلها غير آمنة للأكل، أو أن تتسرب الملوثات الموجودة في المياه إلى المياه الجوفية، فتزيد من تلويث مصادر مياه الشرب الملوثة أصلاً.
الخلاصة
ما يحصل في قطاع غزة هو كارثة بيئية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولن ندرك عمق أثره إلا عندما تضع الحرب أوزارها، يجب أن تدرك المؤسسات الدولية خطورةَ ما يحدث، فتبعاته لن تقتصر على غزة فقط. سنبقى على أمل ألا يحدث السيناريو الخامس، وهو أن تحدث السيناريوهات الأربعة مجتمعة.