في عصور الظلام الأوروبية، التي امتدت من القرن الخامس وحتى الخامس عشر، سئم السادة، الذين يمتلكون كل شيء، من مطالبات العامة، الذين لا يملكون شيئاً، بتطبيق القانون والعدالة.
كان سادة ونبلاء مقاطعة ساكسونيا الألمانية من أشد الباحثين عن خلاص من تلك المطالبات، فأسدلوا رداء العدل على الظلم، وأصدروا قانون “مرآة ساكسونيا” والذي يعرف اليوم اختصاراً بـ”قانون ساكسونيا”.
نص القانون على أنه إذا سرق أحد عامة الناس يؤتى به في ساحة كبيرة، وعلى مرأى ومسمع من الجميع تقطع يده. أما إذا سرق السيد أو النبيل، فإنه يؤتى به إلى ذات الساحة، ساعة الظهيرة، ثم يقطع ظل يده. وإذا قتل رجل فقير رجلاً آخر تقطع رأسه فوراً ليكون عبرة، أما إذا قتل النبيل منهم أحداً ظلماً وعدواناً فإن ظل رأسه هو الذي يقطع.
عارضت الكنيسة في بادئ الأمر ذلك القانون، لكنه ظل سائداً من منتصف القرن الثالث عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر، وكان أسياد ساكسونيا يفتخرون بأنهم من أوائل من شرعوا قانوناً مدنياً يحفظ الحقوق ويصون الممتلكات ويؤسس لدولة القانون. حسب مؤرخين أوروبيين، أعجب سادة المقاطعات المجاورة بالقانون الجديد وراح يغزو المقاطعة تلو الأخرى حتى وصل قلب أوروبا وأطرافها، وراحت الدول تصدر قوانينها الساكسونية المشابهة.
اليوم، وبعد أن قطع القانون سيئ السمعة البحار والصحاري وبات رمزاً لازدواجية المعايير في العالم أجمع، قررت الولاية التخلي عن روح قانونها ومبادئه. إذ أعلنت ولاية “ساكسونيا أنهالت”، عبر وزيرة داخليتها، أن الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وإدانة أي جهود موجهة ضد دولة بات شرطاً أساسياً للحصول على الجنسية الألمانية.
لم يصدر من ولاية ساكسونيا أو ألمانيا الاتحادية ما يشجب أو يندد بالمجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ولو لذر الرماد في العيون، بل الدعم الكامل لإسرائيل و”حقها في الدفاع عن نفسها”. توقفت ألمانيا حتى عن جلد ظلال من تعتبرهم سادة ونبلاء، واكتفت بجلد المستضعفين في نظر كثير من المتابعين.
ألمانيا الأمريكية
منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، في سبتمبر 1945، سارت ألمانيا الغربية أولاً، ثم ألمانيا الاتحادية ثانياً، في كل طريق رسمته لها الولايات المتحدة الأمريكية؛ نصب رؤوس نووية على الأراضي الألمانية، إسقاط جدار برلين، منع تأسيس جيش أوروبي مشترك، محاصرة الاتحاد السوفييتي. وقبلت ألمانيا بانتهاك أمريكا لسيادتها بعدما كشف تجسس الولايات المتحدة على وزارة الدفاع الألمانية ومسؤولين رسميين.
ورغم ذلك، كان بمقدور ألمانيا أن ترفض الانضمام إلى التحالف الدولي بقيادة أمريكا وبريطانيا، والذي غزا العراق وقطع أوصالها في 2003. ألمانيا ولو تفهمت الصدمة الأمريكية من أحداث الـ11 من سبتمبر إلا أنها، ممثلة في الحكومة الائتلافية بين الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر، أدركوا أن تلك الصدمة لا تشكل أساساً عقلانياً لغزو العراق، ورفضت دعم القرار.
الآن، يقود ألمانيا تحالف حكومي من الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر، ولكنهم لا يجدون غضاضة في دعم وتأييد إسرائيل بشكل مطلق في حربها التي تشنها على قطاع غزة وراح ضحيتها، حتى كتابة هذه السطور، أكثر من 18 ألف شهيد وعشرات الآلاف من المصابين.
تتعامل الحكومة الألمانية مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من منطلق أن عملية “طوفان الأقصى” شنت ضدها شخصياً، وكأن الكيبوتسات التي اقتحمتها قوات عز الدين القسام صبيحة السابع من أكتوبر، تقع في غلاف برلين، لا غلاف غزة.
حقيقة الأمر أن قراءة الموقف الألماني على هذا النحو ليس مبالغة على الإطلاق، وبشهادة المسؤولين الألمان أنفسهم. ففي حقبتها الممتدة من عام 2005 وحتى 2021، كررت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل هذه العبارة مرات ومرات: “لا يوجد ما نناقشه حول أمن إسرائيل.. أمنها هو جزء من جوهر وجود الدولة الألمانية”. أما الدبلوماسيين الألمان فيقولون: “الرؤى التي تضمن مستقبل إسرائيل تصنع في برلين”. أما نظراؤهم الإسرائيليون فيردون على المتعجبين من موقف ألمانيا من الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بقيادة نتنياهو بقولهم: “ألمانيا داعمة لإسرائيل كيفما كانت، وليس لنسخة معينة من إسرائيل”.
ألمانيا هي الدولة التي صدرت خبراتها الصناعية لإسرائيل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما كانت دولة وليدة تعاني الأمرين للبقاء، اقتصادياً وعسكرياً. طوّرت الموانئ، وشبكة النقل والتوزيع، وصدّرت لها تكنولوجيا الحديد والصلب، وهي الدولة التي دفعت أكثر من 90 مليار يورو لليهود كتعويضات عن الهولوكوست، وهي من أرسلت أسلحتها وخبرائها لتل أبيب عندما كانت إسرائيل في عقدها الأول، وأغدقت عليها بالقروض الميسرة.
اليوم هي أكبر شريك تجاري لإسرائيل في أوروبا، وهي من باعت غواصات ذات قدرات نووية لإسرائيل، وهي الدولة التي رعت شركاتها الرياضة الاسرائيلية عندما لم تجد راعياً يقوم بتمويلها بالقدر الكافي.
إن التزام ألمانيا تجاه إسرائيل وبقائها وازدهارها لا يضاهيه التزام إلا الالتزام الألماني تجاه ألمانيا نفسها.
الأمر الذي يطرح سؤالاً ملحاً: لماذا تدعم ألمانيا إسرائيل بهذه القوة؟
بالإضافة إلى الهيمنة الأمريكية على السياسة الألمانية، يمكن تلخيص جملة الأسباب الدافعة للموقف الألماني المتطرف في دعم إسرائيل في عاملين أساسيين: عبء المحرقة، واللوبي الإسرائيلي في البلاد.
الهولوكوست
لا شك هنا أن الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق اليهود في عهد هتلر رهنت سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل حتى يومنا هذا. ولا ينبغي أن نتجاهل المؤسسات والقوى التي تبذل قصارى جهدها لاستمرار هذا الارتهان. فمن خلال التغطية المستمرة لموضوع المحرقة في التلفزيون والصحف الألمانية، يتم تذكير الألمان بأنه على الرغم من أن الجريمة ارتكبها أسلافهم، فإن الأجيال الحالية تتحمل نفس القدر من المسؤولية. ونتيجة لذلك، يصف الساسة الألمان دائماً حماية إسرائيل بأنها “سياسة الدولة” الألمانية. وهم في ذلك، يؤمنون بأنه بغض النظر عما ترتكبه أو سترتكبه إسرائيل، فإن ألمانيا يجب أن تدعمها. ويسقطون من كافة حساباتهم الشعب الضحية لهذه السياسة العمياء؛ الفلسطينيون.
ليس الساسة الألمانيون وحدهم من يعتنقون هذا المذهب، شركات الصناعة الألمانية الكبرى أيضاً. صبيحة السابع من أكتوبر سارعت شركتا “أديداس” و”بوما” لإصدار بيان مشترك مع مجموعة شركات ألمانية تدين فيه عملية “طوفان الأقصى” والوقوف مع إسرائيل والإسرائيليين. هاتان الشركتان تحديداً تكفران عن ذنب ارتكبه آباؤهما المؤسسان؛ الأخوان أدولف وردولف داسلر.
قبل الحرب العالمية الثانية، كانا يمتلكان شركة لتصنيع الأحذية الرياضية، وعندما قامت الحرب قاما بتحويل المصنع إلى مصنع حربي في خدمة الجيش الألماني النازي. انفصل الأخوان بعد الحرب، وأسس أدولف شركة أديداس، بينما أسس رودولف شركة “بوما”.
تحاول ألمانيا التخفيف من عبء المحرقة من على كاهلها بتأسيس “علاقة خاصة” مع إسرائيل. تحاول ألمانيا، التي خرجت من الحرب العالمية محملة بعبء البلاد التي باتت رماداً وعبء الهولوكوست، إعادة التمركز في النظام العالمي عبر التكفير الدائم عن ذلك الذنب، بتشكيل علاقة خاصة مع إسرائيل، وتمييزها عن باقي دول العالم. وتطمح بذلك ألمانيا إلى أن تصنف “دولة صالحة” لا “دولة مارقة”، وهي التي دفعت كلفة المرق باهظاً.
اللوبي الإسرائيلي
ألمانيا، دولةً وشعباً، في حالة تكفير دائم عن ذنب لم تقترفه الأجيال الحالية، لكن تسلل وسكن الشعور بالذنب في العقل الألماني السياسي وبات محركه ودافعه. ولقد استطاعت القوى الناعمة لإسرائيل من ترسيخ هذا الشعور عبر وسائل الإعلام ورجال الأعمال وجماعات الضغط النافذة في الأراضي الألمانية. بات من سابع المستحيلات أن يصدر كتاب من دار نشر ألمانية ينتقد الصهيونية أو إسرائيل، أو يكتب كاتب مقالاً يطلب فيه الرحمة للفلسطينيين الأبرياء، أو يخرج علينا سياسي ألماني بخطاب معارض للمصالح الإسرائيلية.
صاحب رسوخ عقدة الذنب من الهولوكوست عند الألمان ترسيخُ مفهوم أخطر وهو أن إسرائيل هي “وريث حق الشعب اليهودي”. فدفعت تعويضات الهولوكوست لدولة إسرائيل باعتبارها الممثل الوحيد والحصري لليهود بالعالم. وبات أي اعتراض على سياسات إسرائيل اعتراضاً على حق اليهود في الوجود!
هذه العملية أخذت الكثير من الجهد في التخطيط والتنفيذ من قِبَل جماعات الضغط الإسرائيلية في ألمانيا التي تعمل بشكل دؤوب على استسغلال الخصوصية التاريخية للهولوكوست لكسب الدعم والتأييد لمصلحة إسرائيل، وتكبيل أي مسعى ألماني يتقاطع مع المصالح الإسرائيلية.
وهنا سنذكر 3 من أهم مراكز الضغط أو اللوبيهات الإسرائيلية في ألمانيا:
المجلس المركزي لليهود
تأسس في الـ19 من يوليو عام 1950، كردّ فعل على العزلة المتزايدة لليهود الألمان من قِبَل المجتمع اليهودي الدولي، وكذلك الاهتمام المتزايد بالشؤون اليهودية من قِبَل الحكومة الألمانية آنذاك. وهي أكثر المنظمات اليهودية حصولاً على الدعم المالي والمعنوي من الدولة الألمانية؛ إذ وافق البرلمان الألماني حديثاً على رفع الدعم المخصص للمجلس من 13 مليون يورو إلى 22 مليون يورو.
يعتبر المجلس المركزي لليهود أكبر هيئة تمثل اليهود في ألمانيا، لكن أوضاع الألمان معتنقي الديانة اليهودية وأحوالهم ليست على رأس أولوياته، بل التدخل في السياسة الخارجية والداخلية الألمانية؛ إذ يخاطب المجلس المجتمع الألماني باعتباره ممثل اليهود وراعي مصالحهم، ما يتيح له التدخل في المجال السياسي بقوة. على سبيل المثال، قام المجلس بجمع التبرعات لصالح الجيش الإسرائيلي، كما طالب الحكومة الألمانية بوقف كل أشكال الدعم الموجهة للفلسطينيين بشكل فوري غداة عملية “طوفان الأقصى”، بما في ذلك الدعم الإنساني.
كما شن المجلس هجوماً ضارياً على اللاعبَين المسلمين، أنور الغازي ونصير مزراوي وطالب بطردهما من الأراضي الألمانية أو التحقيق جنائياً معهما بسبب تعاطفهما مع فلسطين ضد الحرب الإسرائيلية. وهو ما تكلل في النهاية بفسخ نادي ماينز الألماني عقده مع أنور الغازي.
ويمارس المجلس ضغوطاً ضخمة على الأحزاب، وسبق أن اتهم برلمانيين بمعاداة السامية لمواقف لا تخدم إسرائيل. تصل الضغوط كذلك إلى المنظمات غير الحكومية، من أندية رياضية ومنظمات أهلية وتجمعات ثقافية.
فأي مفكر ينتقد إسرائيل ولو كان يهودياً سيكون هدفاً لنيران المجلس، كما حدث مع الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر. وأي وسيلة إعلام ستخوض في تفاصيل عمل المجلس سيواجه اتهامات معاداة السامية كما حدث مع مجلة “دير شبيغل” التي أنتجت تحقيقاً يكشف عمل اللوبي الإسرائيلي في أروقة البرلمان الألماني.
جمعية مبادرة القيم
تأسست عام 2018 على يد طبيب الأسنان إليو أدلر. تدعي المبادرة تكريس مواردها للتعبير عن المصالح اليهودية الألمانية المشتركة، وتقول على لسان مسؤوليها إنها تعمل على ضمان مستقبل مشرق لليهود بألمانيا. لكن، وعلى خُطى المجلس المركزي لليهود، تكرّس جلّ مواردها لدعم المصالح الإسرائيلية.
في عام 2019، أعلن البرلمان الألماني حركة مقاطعة إسرائيل “BDS” حركة معادية للسامية. قاد هذا القرار في الخفاء جمعية “مبادرة القيم” التي وضعت ملف حركة المقاطعة على جدول أعمال البرلمان وأقنعت أعضاءه بطريقة أو بأخرى بضرورة تصنيف الحركة كتنظيم معادٍ للسامية. ووردت تلك التفاصيل في تحقيق لمجلة “دير شبيغل”، التي اتهمت هي أيضاً بمعاداة السامية ونشر “اكلشيهات مكذوبة عن اليهود”.
تطمح “مبادرة القيم” إلى تجنيد الشخصيات السياسية ودفعها لتأييد إسرائيل في الحياة السياسية الألمانية وتشديد الخناق على الجمعيات والمبادرات الفلسطينية في ألمانيا وخارجها.
منتدى سلام الشرق الأوسط (Naffo)
تأسس المنتدى في عام 2009، إلا أن نشاطه سري بشكل كبير. فحسب الرئيس التنفيذي السابق للمنتدى، مريم روزنشتاين، يعقد مسؤولو المنتدى لقاءات سرية مع السياسيين الألمان. وبذلك يصبح طرفاً فاعلاً في صناعة وجهة النظر والموقف الألماني ليس فقط من القضية الفلسطينية، بل كل ما يدور في الشرق الأوسط، كما يشير اسم المنتدى.
يعقد مسؤولو المنتدى لقاءات بشكل منتظم مع ممثلي الأحزاب الألمانية البارزة، لدفعها للتعبير عن دعمها الدائم غير المشروط لإسرائيل، وترتب لهم زيارات لإسرائيل، وتلقنهم الرواية الإسرائيلية فيما يخص “حل الدولتين” الذي يدعي المنتدى تبنيه.
ليسوا أصدقاء
إسرائيل ليست صديقة ألمانيا، والعكس صحيح، فالأصدقاء يهتمون ببعضهم البعض، أما ألمانيا دولة وحكومة فما زال يدفعها الذنب في علاقتها بإسرائيل لتبني مواقف شديدة التطرف خوفاً من الوسم بأنها “مارقة”، وتخشى أن تنتقد أياً من تصريحات الساسة الإسرائيليين، ولو كان التهديد بإبادة سكان غزة بالسلاح النووي. أما الولايات المتحدة الأمريكية، الصديق الحميم لإسرائيل، فلا عقدة لديها ولا ذنب تكفر عنه. لذا تراها تنصح إسرائيل بصدق، وتنتقد تصريحات المسؤولين الإسرائيليين علناً، وتطالب بأمور لن تطالب بها ألمانيا ولو هدم جدار برلين ألف مرة.