يعود مصطلح “المؤرخين الإسرائيليين الجدد”، الذي يؤرق إسرائيل، إلى الواجهة و ذلك في خضمّ الحرب التي يشنّها الاحتلال على قطاع غزّة، وتعمّده إلى التحايل على القانون الدولي الإنساني لتبرير قصفه واستهدافه للمنشآت المدنية والمستشفيات والعزّل،
اسم “المؤرخون الجدد” أطلق على مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين الذين طرحوا وجهات نظر تدعو إلى إعادة دراسة مجددة للصراع الإسرائيلي- العربي وفق معايير ومقاييس محايدة، ما يعني زعزعة وتحطيم المسلّمات التاريخية التي اعتمدتها الرواية الصهيونية والإسرائيلية فيما يتعلق بأحداث 1947-1948.
ومن جهة أخرى، تفسح دراسات هؤلاء المؤرخين المجال أمام نشر الرواية الفلسطينية للأحداث التاريخية الخاصة بعام النكبة بصورة أفضل، وفق ما جاء في موسوعة مصطلحات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”، كما كان لكتابات المؤرخين الجدد تأثير على العملية السلمية، حيث استدلّ بها المفاوضون الفلسطينيون خلال تحميلهم إسرائيل مسؤولية اللاجئين لتعزيز موقفهم التفاوضي معها.
تاريخ ظهور مصطلح المؤرخون الجدد
يُعدّ المؤرخ بِني موريس أوّل من جاء على ذكر هذا المصطلح في مقال نشره في مجلّة بالولايات المتّحدة سنة 1988؛ ليغدو بذلك من أوائل هؤلاء المؤرخين الجدد، رغم أنّه تراجع في وقت لاحق عن كثير مما كتبه سابقاً.
كيف دحض المؤرخون الإسرائيليون الجدد مزاعم تأسيس الكيان الصهيوني؟
لفهم آلية المصالحة التي عقدها المؤرخون الإسرائيليون الجدد مع التاريخ الفلسطيني، وجب العود إلى روايات المؤرخين الصهاينة المتعلقة بأحداث نكبة 1948.
هذه الرواية الصهيونية الرسمية المُتجذّرة ليس في الأوساط الإسرائيلية الشعبية الأكاديمية فحسب، بل هي أيضاً الرواية التي ساهم في ترسيخها الإعلام الغربي لدى الرأي العام، ولاقت حظّها داخل فضاءات النخبة المفكرة لستّة عقود كاملة.
على ماذا تقوم مزاعم هذه الرواية القديمة؟
1 الوطن القومي “هبة الله” لشعبه المختار
مفاد هذه الرواية أنّ الدولة اليهودية الناشئة في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، هي في أساسها وليدة انتصار أسطوري قادته الجيوش الإسرائيلية ضدّ الاحتلال البريطاني والجيوش العربية التي تفوق اليهود من حيث العدد والعدّة.
وبذلك كانت لليهود أحقيّة تأسيس “وطن قومي” لهم في فلسطين، “هبة الله” وأرض الأجداد، وهو ما يفسّر تأريخ الصهاينة القدماء للقضيّة الفلسطينية على أنّها قائمة على أساسٍ ديني توراتي، دون اعتبار لتاريخ الشعوب التي سبقتهم في تعمير هذه الأرض ولا لعلمِ الآثار الأكاديمي، أسطورة استساغها الإعلام الرسمي الغربي، ولاقت دعماً من المتبنّين للرواية الصهيونية، كما استخدمها بحنكة السياسيون الإسرائيليون والناشطون الاجتماعيون.
لعلّ في مقدّمتهم الناشط الأمريكي الصهيوني بن شابيرو، الذي استند خلال حضوره ببرنامج “Uncensored”، الذي يقدمه المذيع الشهير “Piers Morgan” على تفسير التاريخ الفلسطيني من زاوية دينية يهودية صرفة قائلاً: “أما الإسلام ديانة العرب الفلسطينيين فلم يكن قد ظهر إلا في القرن السابع الميلادي”، نافياً بذلك أحقية الفلسطينيين في أرضهم على اعتبار ظهور الإسلام لحق ظهور الديانة اليهودية التي ذاع صيتها لألفي عام منذ عهد إبراهيم إلى ما قبل ظهور المسيح.
2 – النكبة في المرويات الإسرائيلية
– تدّعي روايات الاحتلال أنّ عرب فلسطين لم يُجبروا على ترك منازلهم قُبيل نكبة الـ1948، وأنّ رحيلهم كان من تلقاء أنفسهم بناء على اقتراح من الجيوش العربية في الفترة التي سبقت الحرب، كما أنّهم لم يحرموا من حقّ العودة بعد انتهاء الحرب.
ويُذكر المؤرخ الإسرائيلي “الجديد” إيلان بابيه في مؤلفه “عشر خرافات عن إسرائيل” بأنّ الرواية التاريخية الإسرائيلية ما انفكّت تروّج أنّ ما حصل للفلسطينيين ما هو إلا من واقع عملهم، حيث إنّ حرمانهم من الحصول على دولة مستقلة مثل اليهود كان نتيجة رفضهم للتقسيم، وعند نشوب الحرب ضد الدولة الإسرائيلية الوليدة غادروا أراضيهم بإيعاز من الدول العربية، أملاً في تصفية اليهود وعودتهم.
هذه الروايات الباطلة التي تردّدها إسرائيل على أنّها الحقيقة الوحيدة، تخفي وراءها عشرات المجازر التي راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين “العُزّل” في مختلف القُرى والمُدن بين عامَي (1937-1948)، حيث مثّلت النكبة عمليّة تطهير عرقي خلّفت نزوح أكثر من 700 ألف فلسطيني.
وحسب تقرير لصحيفة “هآرتس” العبرية عام 2019، قامت فرق من وزارة الدفاع الإسرائيلية منذ أوائل العقد الماضي بإزالة مجموعات من الوثائق التاريخية لإخفاء دليل النكبة والفظائع التي رافقتها، ناهيك عن إخفاء شهادات توثّق طرد البدو من قراهم وهدمها وقتل المدنيين.
غير أنّه مع فتح الأرشيف الإسرائيلي بعد انقضاء السنوات القانونية، وبروز المؤرخين الإسرائيليين الجدد وشروعهم في كتابة رواية تاريخية أكثر حياداً بدأت الرواية الإسرائيلية تعرف طريقها للتهاوي والانهيار.
تصحيح مسار تأريخ القضيّة الفلسطينية في روايات المؤرخين الإسرائيليين الجدد
بعض المؤرخين الإسرائيليين الجدد ومؤلفاتهم
إيلان بابيه وكتابه “التطهير العرقي في فلسطين”
إيلان بابيه، أستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة “إكسيتر” البريطانية، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في الجامعة، هو أبرز المؤرخين الجدد في إسرائيل، قدّم في أطروحاته التاريخية سردية للنكبة مخالفة لما دأبت على ترويجه الصهيونية، مؤكداً في كلّ كتاباته ومؤلفاته أنّ تغريبة الشعب الفلسطيني كان مخططاً لها بفعل دوافع قومية استعماريّة.
بني موريس صاحب كتاب “ولادة مشكل اللاجئين الفلسطينيين 1947 ـ 1949”
عرف موريس بمراجعته لملفّ “التهجير القسري” الذي جرى في السنوات 1947–1949، وفي مقابلة له مع آري شافيط في “هآرتس” سنة 2004، صرّح “لم يكن للدولة اليهودية أن تقوم بدون اقتلاع سبع مئة ألف فلسطيني. لهذا كان ضرورياً اقتلاعهم”.
كما يشدّد موريس في كلّ فرصة على اعتقاده بأنّ “إسرائيل ستنتهي في غضون ثلاثين إلى خمسين عاماً، وسيصبح اليهود أقليةً ملاحقةً أو مذبوحةً أو مضطهدةً في بحر عربي كبير من الفلسطينيين الذين لا يمكنهم إلا أن ينتصروا على إسرائيل “، وفق مقال نُشر بصحيفة العربي الجديد.
مؤرخون آخرون
من جانبهم، ساهم كل من سمهي فلابان صاحب كتاب “ولادة إسرائيل: الأسطورة والواقع”، وآفي شليم اليهودي ذي الأصل العراقي، صاحب كتاب “الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين”، وكتب وأبحاث أخرى لكل من توم سيغيف وباروخ كيمرلنغ كل بطريقته ومنظوره في دحض روايات المؤرخين القدماء.
المؤرخون الإسرائيليون الجدد وطوفان الأقصى
اعتبر إيلان بابيه أنّ الحرب الشعواء التي شنّتها قوات الاحتلال على قطاع غزّة على أثر هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليست أحداثاً جديدة، واصفاً إيّاها بأنّها “الوجه الدائم للصهيونية منذ تأسيس إسرائيل”.
وأضاف أنّه لم يعد يتسنّى للحكومة الإسرائيلية أن تلعب دور الضحية، خاصة أن قطاعات كبيرة من المجتمع المدني الغربي لا يمكن خداعها بسهولة بهذا النفاق الذي تجلى في المقارنة مع حالة أوكرانيا، مُذكّراً بأنه منذ العام 1967- سُجن مليون فلسطيني، وتعرّضوا لكافة أشكال الانتهاكات والتعذيب.
وفي حديث مع الجزيرة نت، يؤكد شلايم أن الطريقة الوحيدة لفهم الحرب الإسرائيلية على غزة تتلخص في فهم السياق التاريخي، واصفاً إيّاها بأنّها حرب “لا معنى لها”، مشيراً إلى أنّ الإجابة عن الصراع الذي بدأ في السابع من أكتوبر، إجابته موجودة في السياق التاريخي، تحديداً سنة 1967 تاريخ احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.