يؤيد 61% من الناخبين الأمريكيين وقف إطلاق النار في غزة، بينما لا يدعم ذلك سوى 14% من المشرعين في الكونغرس، فهل لا يزال اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل على قوته وتأثيره كما كان من قبل؟
كلا.. وهذا ما يكشف عنه تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي يلقي الضوء على الانقسام المتزايد داخل أروقة السياسة الأمريكية، وكيف يفسر البعض هذا الانقسام.
فمنذ اللحظة الأولى لبداية العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلن جو بايدن دعمه المطلق لإسرائيل، وتولى الترويج لروايتها المضللة بشأن الحرب في غزة، ووصل تبني الرئيس الأمريكي الرواية الإسرائيلية بحذافيرها إلى حد التشكيك في أعداد شهداء القصف الهمجي لقطاع غزة. لكن مع مرور الوقت، بدأت لهجة الخطاب الأمريكي تجاه العدوان الإسرائيلي تتغير بشكل لافت، دون أن يتغير مستوى الدعم العسكري واللوجستي، وهو ما يشير إلى أن الخلاف بين الحليفين لا يتعلق بأهداف العدوان المعلنة، وإنما بطريقة تنفيذها على الأرجح. لكن في جميع الأحوال، ومن خلال تطور الأحداث، تصاعدت الخلافات بين تل أبيب وواشنطن وخرجت من الغرف المغلقة إلى العلن.
دعم إسرائيل “المسار الأقل مقاومة”
أحد كبار المشرعين الديمقراطيين قال مؤخراً إنه من الأسهل دعم سياسة الحكومة الإسرائيلية، في كثير من الحالات على حساب الفلسطينيين، لأن جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل تتمتع بحضور أكثر تأثيراً نسبياً في الكابيتول هيل.
وقال المشرِّع جيم هايمز (ديمقراطي من كونيتيكت)، العضو البارز في لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، في اجتماع مع الناخبين في 23 أكتوبر/تشرين الأول، إن “للفلسطينيين مطالب مشروعة للغاية” و”تعرضوا لظلم وحشي”. لكنه أضاف أن الجماعات المؤيدة لإسرائيل -بما في ذلك جماعة جي ستريت ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية- تجعل العديد من أعضاء الكونغرس مؤيدين لإسرائيل بشكل تلقائي لأنه ببساطة “المسار الأقل مقاومة”.
ورغم أن استطلاعات الرأي تُظهِر أن أغلب الأمريكيين يعتبرون أنفسهم مؤيدين لإسرائيل، فإن دعمهم ليس غير مشروط على الإطلاق، عندما يتعلق الأمر بالكيفية التي يشن بها الإسرائيليون ما يزعمون أنها “حرب ضد حماس في غزة”.
إذ إنه بعد أكثر من شهرين من عدوان الجيش الإسرائيلي، المدعوم أمريكياً وغربياً، على قطاع غزة بهدف القضاء على حماس، لا يزال عاجزاً عن تحرير الأسرى أو تحقيق انتصار أي شكل من أشكال الانتصار العسكري للتغطية على هزيمته المستمرة منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.
ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة، وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها “في حالة حرب”، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.
61 % من الناخبين يريدون وقف إطلاق النار
وجدت دراسة حديثة للناخبين الأمريكيين المحتملين أن 61% يؤيدون الدعوة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، حيث تسببت أسابيع من القصف المكثف من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلية في ارتقاء ما يقرب من 19 ألفاً، أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، فضلاً عن الدمار واسع النطاق الذي طال أغلب مناطق القطاع. لكن رغم هذا الدعم الواسع، فإن 14% فقط من أعضاء مجلس النواب الأمريكي أعلنوا تأييدهم العلني لوقف إطلاق النار.
لكن الجماعات المؤيدة لإسرائيل تقدم مساهمات كبيرة في الحملات الانتخابية، وتزور أعضاء الكونغرس بشكلٍ متكرر، وتضغط من أجل دعم أنشطة الحكومة الإسرائيلية، كما يقول النقاد الذين تحدثوا إلى موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
عقد النائب هايمز اجتماعاً عبر الإنترنت لمناقشة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مع الناخبين في 23 أكتوبر/تشرين الأول، بقيادة فرع كونيتيكت في مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية. وفقاً لتسجيل الحدث الذي حصل عليه موقع Responsible Statecraft، عندما سُئل عن ميله لبدء تصريحاته بدعم إسرائيل، أجاب هايمز بعدة إجابات، تناولت إحداها الوجود شبه المستمر لجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل.
إذ قال هايمز: “في هذا المكتب أستقبل 6 إلى 8 زيارات أسبوعية من لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، وهي مجموعة يمينية مؤيدة لإسرائيل إلى حد ما، وجي ستريت، وهي مجموعة يسارية مؤيدة لإسرائيل. لم أتلقَّ أي زيارةٍ من مجموعة فلسطينية، رغم أنني أستقبل الزيارات على مدار 15 عاماً.
“مرةً أخرى، أنا لا أنتقد أحداً، أنا فقط أشرح الحقائق كما تبدو. لذا أعتقد أن المسار الأقل مقاومةً بالنسبة لعدد هائل من أعضاء الكونغرس هو أن تعكس الطريقة التي تهتم بها بالأمر. والسبب الذي يجعلني أرغب في الحديث أكثر عن ذلك هو أنه، كما تعلمون، لدى الفلسطينيين مطالب مشروعة للغاية، وقد تعرضوا في أوقاتٍ لظلمٍ وحشي، ومع ذلك لا يوجد أحد يروي قصتهم”.
وأشار هايمز إلى تأثير لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية في تفسير الدعم غير المتوازن لإسرائيل في الكونغرس: “ظلت اللجنة تفعل ذلك منذ ستين عاماً. يأتون ويجلسون في المكاتب، ويقولون، كما تعلمون، “إليك ثلاثة أشياء نود حقاً أن تفكروا في القيام بها، هل ستفعلونها؟” وأنا لا أقول إن اللجنة جيدة أو سيئة، بل فقط أقول إنني أعرف ما هو فعال في تقديم الأمر لأعضاء الكونغرس، وبصراحة ما يحطم قلبي هو أنه ما من جماعةٍ فلسطينية تأتي وتقول: دعونا نخبركم ما هي تطلعاتنا، دعونا نروي لكم بعض القصص، دعونا نخبركم بما يفعله المستوطنون خارج رام الله”.
تراجع تأثير اللوبي اليهودي
قالت لارا فريدمان، رئيسة مؤسسة السلام في الشرق الأوسط، لموقع Reponsible Statecraft: “أشعر بالفضول لمعرفة ما يعنيه بعبارة “المسار الأقل مقاومة”. هل يقصد أن هذا هو المسار الذي يكافئني من حيث دعم الحملة الانتخابية، أم من ناحية أخرى، كيف أتجنب العواقب السلبية المحتملة الأخرى مثل قيام شخص ما بتقديم دعم هائل لخصمي الأساسي؟”.
ولم يتلقَّ النائب هايمز الكثير من الدعم المالي من الجماعات المؤيدة لإسرائيل. ومع ذلك، شهد العام الماضي أكبر إنفاق على الحملات الانتخابية من قبل الجهات المانحة المؤيدة لإسرائيل، مقارنةً بأي دورة للكونغرس خلال الثلاثين عاماً الماضية.
وسط هذه الموجة من الأموال، كان أكبر مساهم في لجنة حملة هايمز في عام 2022 هو لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، وقد اشتبكت المجموعة مؤخراً علناً مع العديد من النقاد في الكونغرس، بدءاً من النائب مارك بوكان (ديمقراطي من ولاية ويسكونسن) إلى النائب توماس ماسي (جمهوري من ولاية كنتاكي).
وفي العام المقبل، من المتوقع أن تنفق المجموعات التابعة للجنة ما يزيد على 100 مليون دولار على الانتخابات التمهيدية في محاولة للإطاحة بالمشرعين الديمقراطيين الذين يرون أنهم لا يدعمون إسرائيل بشكل كافٍ، أو يتحدثون بصوت جهوري عن الحقوق الفلسطينية.
إن تأثير الإنفاق على الحملات الانتخابية معروف جيداً بين المطلعين على بواطن الأمور في الكونغرس. وقال النائب السابق بريان بيرد (ديمقراطي من واشنطن): “يعرف أي عضو في الكونغرس أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية مرتبطة بشكلٍ غير مباشر بمبالغ كبيرة من الإنفاق على الحملات الانتخابية إذا كنت تتفق معهم، ومبالغ كبيرة ضدك إذا لم تكن متفقاً معهم”. وأضاف: “عندما يُدلَى بأصواتٍ رئيسية، فإن السؤال المطروح في قاعة مجلس النواب، بشكل مثير للقلق، ليس في كثير من الأحيان ما هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله للولايات المتحدة الأمريكية؟ ولكن كيف ستحقق هذه اللجنة هذا الهدف؟”.
أوضح النائب هايمز خلال اجتماع 23 أكتوبر/تشرين الأول أسباب عدم دعمه للدعوات لوقف دائم لإطلاق النار. وقال هايمز، في إشارة إلى هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول: “ما لم يتمكن أحد من إقناعي بأن هناك آلية بديلة لتقديم أولئك الذين ارتكبوا هذه الجريمة الخطيرة ضد إسرائيل… إلى العدالة، فلن أفعل ذلك”.
وقال هايمز: “موضوعي كان ذو شقين، وهو أننا سندعم إسرائيل في مواجهة هذا الهجوم المثير للاشمئزاز، وثانياً، أننا بحاجة للتأكد من أن الرد الإسرائيلي معتدل، وأنهم يلتزمون قوانين الصراع المسلح، وأن تتخلى إسرائيل عن خطابها في تسوية غزة بالأرض، والحصار، وأن يجري كل شيء ما هو صحيح من وجهة نظر إنسانية”.
وحضر هايمز، الذي شغل 8 فترات في الكونغرس، خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام جلسة مشتركة للكونغرس في عام 2015، حيث انتقد دبلوماسية الرئيس أوباما مع إيران وحظي بحفاوة بالغة. لكن هايمز وجه كلمات قاسية للزعيم المثير للجدل خلال الاجتماع التأسيسي في 23 أكتوبر/تشرين الأول.
وقال: “هذه المشكلة لن تنتهي حتى يكون هناك حل الدولتين. من المؤسف جداً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي يبذل كل ما في وسعه تقريباً لجعل ذلك مستحيلاً. وبطبيعة الحال، هذا جزء من السبب وراء ارتفاع الغضب إلى المستويات التي كانت عليها قبل هجمات حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول”.
وبعد مرور أكثر من شهرين، أعرب أعضاء الكونغرس بشكل متزايد عن قلقهم بشأن القصف الإسرائيلي لغزة، ووصف الرئيس بايدن حملة القصف الإسرائيلية بأنها “عشوائية”، وهي مواقف يبدو أنها أصبحت أكثر قبولاً بعد أسابيع من المكالمة التي أشار فيها هايمز إلى المواقف المؤيد لإسرائيل بأنها “المسار الأقل مقاومة”.
الخلاصة هنا هي أن اللوبي اليهودي الأمريكي الداعم لإسرائيل لا يزال قادراً على التأثير في مواقف كثير من أعضاء الكونغرس، لكن بات واضحاً أن هذا التأثير لم يعد بنفس القوة التي كان يتمتع بها من قبل.