يبدو أن الفوز التاريخي لليمين المتطرف الفرنسي في انتخابات البرلمان الأوروبي الأحد 9 مايو/أيار 2024، دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاتخاذ قرار وصف بـ”المغامرة”، وهو حل البرلمان الفرنسي أو “الجمعية الوطنية” وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، في خطوة تنطوي على مجازفة كبيرة وتدخل البلاد في غموض سياسي عميق، خصيصاً أنها قد تمهّد لفوز اليمين المتطرف على حزب ماكرون الحاكم.
الانتخابات الفرنسية المبكرة.. هل يمهد ماكرون الطريق لليمين المتطرف نحو السلطة؟
- كشفت الانتخابات الأوروبية عن صعود كبير لحزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بعد حصوله على 31.5% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي ليحل في المرتبة الأولى، تاركاً وراءه حزب “النهضة” التابع لماكرون في المركز الثاني بحصوله على 15.2% من الأصوات.
- بعد تعرضه لهزيمة ساحقة أمام خصيمته “مارين لوبان” في الانتخابات الأوروبية، أعلن الرئيس الفرنسي، مساء الأحد، بشكل مفاجئ عن انتخابات عامة، قائلاً في كلمة أذيعت بعد هزيمة حزبه بهذا الفارق الكبير، إن “نتائج الانتخابات ليست مُرضية للأحزاب التي تدافع عن أوروبا”. معلناً عن انتخابات تشريعية تجري جولتها الأولى في 30 يونيو/حزيران الجاري، والجولة الثانية في 7 يوليو/تموز المقبل.
- في محاولة لتبرير قراره، أكد ماكرون أنه يريد أن “يتيح مرة جديدة” للفرنسيين “خيار مستقبلنا البرلماني من خلال الاقتراع”.
- لكن يرى مراقبون أن ماكرون بهذه الخطوة يخاطر بمستقبله السياسي، وقد يمهد الطريق أمام اليمين المتطرف لتولي السلطة بعد أن كان على هامش المشهد السياسي لعقود، كما قد يقلّص سلطاته قبل ثلاث سنوات من موعد انتهاء ولايته الرئاسية.
- ويقول المحلل السياسي في الشأن الفرنسي هشام أبو شهلا للوكالة الفرنسية، إن نتائج الانتخابات الأوروبية جاءت متوافقة إلى حد كبير مع كافة استطلاعات الرأي الأخيرة بفرنسا، مع تفاوتات بسيطة، وهو ما يؤكد مرة أخرى بأن شعبية اليمين المتطرف في تصاعد مطرد، بل يظهر ذلك توسع قواعده الانتخابية، في فئة الشباب على سبيل المثال، بل وفئات اجتماعية أخرى كان تأثير اليمين المتطرف وسطها محدوداً إلى وقت قريب، مثل فئة المتقاعدين.
- يقول أبو شهلا: “هذا يثبت بأن ما بدأه إيمانويل ماكرون عام 2017 من محاولة خلق تيار وسط وإعادة ترتيب الحياة السياسية الفرنسية بعيداً عن تجاذبات اليمين واليسار، لم ينجح”.
- عموماً، يرى أبو شهلا أن النتائج جاءت مخيبة لآمال الائتلاف الحاكم رغم أنها كانت متوقعة، وأثبتت استمرار حضور أحزاب اليسار واليمين في الساحة السياسية بفرنسا، رغم الانقسامات التي تعيشها.
- يضم التجمع الوطني الذي يتزعمه ماكرون حالياً 169 نائباً في مجلس النواب الفرنسي، من إجمالي 577 نائباً، فيما يمتلك حزب التجمع الوطني 88 نائباً.
- وإذا فاز حزب التجمع الوطني بالأغلبية، فسيظل ماكرون يوجه شؤون الدفاع والسياسة الخارجية، لكنه سيخسر القدرة على تحديد السياسة الداخلية.
هل يمكن لليمين الفرنسي تحقيق أغلبية ساحقة تطيح بحُكم ماكرون؟
- تقول مجلة “الإيكونومست” البريطانية، إن ماكرون في موقف صعب، وفي بعض الأحيان ليس لديه خيار سوى “رمي النرد”. وكما هو الحال في أمريكا، لا يستطيع الرؤساء الفرنسيون تمرير الكثير من أجندتهم الداخلية من دون الأغلبية في المجلس التشريعي؛ لدى ماكرون رئيس وزراء، يدير الأعمال اليومية للحكومة، ولكن في المسار الطبيعي للأمور، لا تزال الحكومة بحاجة إلى الفوز بالأصوات لتمرير التشريع. في الوقت الحالي، لا يتمتع حزب ماكرون بالأغلبية، لكن لا يستطيع أي شخص آخر تشكيل حكومة أغلبية.
- ولا يمكن الجزم أنه بإمكان اليمين المتطرف تشكيل أغلبية وحده في فرنسا. لكن احتمال ظهور تحالفات أخرى قد تمكن حزب “التجمع الوطني” من الحكم أمر وارد.
- حتى وإن لم يشكل تيار اليمين المتطرف استثناء في فرنسا، إذ حققت أحزابه تقدماً واضحاً في معظم دول الاتحاد الأوروبي، فإن التجمع الوطني برئاسة الشاب الذي قدمته الزعيمة التاريخية مارين لوبان، وهو جوردان بارديلا تفوق بفارق كبير بحصوله على 31,36% من الأصوات متقدماً على الغالبية الرئاسية التي حصلت على 14,6% والحزب الاشتراكي الذي نال 13,83%، ما يعزز احتمال تصدره الاستحقاق المقبل.
- في السياق، تقول وكالة “فرانس 24“، سيكون رئيس التجمع الوطني الجديد جوردان بارديلا مرشح حزبه اليميني المتطرف لمنصب رئيس الوزراء في فرنسا، وفق ما أعلن نائبه سيباستيان شونو يوم الإثنين 10 يونيو/حزيران. وقال شونو لإذاعة آر تي إل الفرنسية “انتخب جوردان بارديلا نائباً أوروبياً، وهو حصل بالتالي على المباركة الشعبية” مضيفاً “إنه مرشحنا” لرئاسة الوزراء.
- يُشار إلى أن بارديلا انتخب رئيساً لحزب التجمع الوطني في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022، خلفاً لزعيمته مارين لوبان، ابنة مؤسس الحزب جان ماري لوبان.
- وبتصويت غالبيتهم لليمين المتطرف، بعث الناخبون الفرنسيون برسائل واضحة تعبر عن خيبة أملهم إزاء سياسة الائتلاف الحكومي، فلم تحصل مرشحة حزب النهضة فاليري هاير سوى على حوالي 15% من الأصوات، وهي نسبة أقل بكثير من 32% التي حصل عليها حزب التجمع الوطني، كما تقول “فرانس 24”.
- وبات الرئيس الفرنسي يواجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تحدياً مزدوجاً رسم ملامحه بنفسه: تقليص أصوات اليمين المتطرف بدون القدرة على اتباع نهج سياسة قادرة على اقتلاع جذوره، والتي تعد أعمق بكثير من مسألة الهجرة التي كانت دائماً على رأس أولوياته. ثم مواجهة تبعات جعل معسكره السياسي مكشوفاً، بقرار العودة للانتخابات التشريعية، ندماً على ما لم يختره قبل عامين، عندما لم تر الأغلبية الرئاسية أنه من المناسب توسيع الجبهة الجمهورية التي أكسبت زعيمها ولايتين رئاسيتين.
- وهذا الأمر، كلفه عدداً من النواب، الذين كان يفتقدهم لتعزيز الأغلبية النسبية وتجنب مخاطر الحل. بناء على ذلك، ستكون مسألة بناء الثقة أمراً حاسماً في الأيام المقبلة لجميع الأحزاب السياسية التي ترغب، في منع بارديلا ولوبان من الإقامة في “قصر ماتينيون”، بحسب فرانس 24.
كيف ستنعكس خسارة ماكرون بالبرلمان الأوروبي على مستقبله السياسي؟
- مع تقلص عدد أعضاء حزبه بالبرلمان الأوروبي، ستتضرر سلطة ماكرون، وبالتالي قد يضعف نفوذه داخل المؤسسة التشريعية القارية. ولكن، داخل المجلس الأوروبي، المؤسسة القوية التي تمثل الدول الأعضاء السبع والعشرين، يظل ماكرون لاعباً رئيسياً مهماً كانت نتيجة الانتخابات.
- لكن قرار رئيس الدولة شكل مفاجأة حتى لأقرب حلفائه، الذين تيقنوا أنه لا جدوى من التفاوض؛ حيث لم تتح الفرصة لرئيس حزب “آفاق”، إدوارد فيليب، ولا لرئيس “الحركة الديمقراطية”، فرانسوا بايرو، أن يلتقيا الرئيس بالإليزيه، ولكن تم إبلاغهما عبر الهاتف، أما يائيل براون بيفيه، رئيسة الجمعية الوطنية، فقد باتت الآن مهددة بفقدان منصبها، بحسب الوكالة الفرنسية.
- بحسب كافة استطلاعات الرأي إضافة إلى المؤشرات الميدانية وحتى نتائج الانتخابات الأوروبية، فإن اليمين المتطرف هو الفائز الأكبر بعد إعلان ماكرون، لكن، حتى اللحظة، لا شيء يضمن حصوله على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية.
- ويرى المحلل السياسي مجيد بودن أن صعود اليمين المتطرف في فرنسا، قد يضعف موقعها داخلياً ودولياً، ويخلق شبح تصدع المجتمع الفرنسي، ومن هذا المنطلق، “حاول ماكرون استباق أي حجب ثقة مستقبلي ممكن ضد حكومته، وبادر بحل البرلمان لكي يواجه المشكلة بشكل مباشر” لكن خطوته تنطوي على مجازفة كبيرة.
- وهذا التوجه وفق المتحدث لـ”فرانس 24″، قد يجنب ماكرون المكوث مدة ثلاث سنوات في الحكم عاجزاً بدون جرأة الإقدام على أي قرارات كبيرة، وهو ليس جيداً للوضع السياسي الفرنسي ولا لتاريخه، وبالتالي فالرئيس يراهن على شيئين اثنين؛ الأول مواجهة الواقع المرير وزرع نوع من الفزع لدى الجمهور لصد مشروع اليمين المتطرف، والثاني أن يسلمهم الحكم لمدة قصيرة ويراهن على فشلهم ثم العودة، لاستلام الأمور بشكل أوضح، وهذا جائز دستورياً.