ساهمت السينما في الماضي في إلقاء الضوء على مآسٍ تاريخية حتى لا تسقط في دائرة النسيان، غير أن وظيفتها الآن مختلفة، فهي توثق لحظة بلحظة كارثة إنسانية لا تزال تتكشف، في مهمة سيزيفية، نسبة إلى الشخصية الأسطورية سيزيف، الرجل الذي ظل يدفع صخرة عملاقة إلى أعلى الجبل لتسقط مرة أخرى فيعيد المحاولة.
وتمثل الأفلام التي تنقل أحداث غزة وثائق ستبقى عبر الزمن من ناحية، ووسائل لنشر حقيقة المأساة في دوائر أوسع من ناحية أخرى، خصوصا مع عرضها في مهرجانات عالمية، مثلما حدث مع فيلم "صوت هند رجب" في مهرجان فينيسيا مؤخرا، وأفلام أخرى منها "غزة صوت الحياة والموت" موضوع حديثنا اليوم.
- "تيلي نورود".. أول ممثلة افتراضية في هوليود تشعل أزمة جديدة حول الذكاء الاصطناعي
- فيلم "معركة تلو الأخرى".. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون السياسة
فيلم "غزة صوت الحياة والموت" (Gaza Sound Man) هو عمل وثائقي صدر عام 2025 من إخراج حسام أبو دان. شق الفيلم طريقه في عدد من المهرجانات الدولية، إذ عُرض في مهرجان كرامة لحقوق الإنسان (الدورة الـ15) في عمّان، ونال هناك جائزة إلى جانب تنويه خاص من لجنة جائزة حقوق الإنسان، كما عُرض في مهرجان "شيفيلد دوك فيست" (Sheffield DocFest) في المملكة المتحدة، ليحصد جائزة "تيم هيثيرنغتون" (Tim Hetherington) تقديرا لسرده الإنساني الاستثنائي.
غزة بين الحياة وصدى الموت
يروي "غزة صوت الحياة والموت" تجربة مهندس الصوت محمد ياغي، الذي قضى السنوات السابقة في جمع أرشيف صوتي لغزة، أرشيف يعكس حبه لوطنه وأهله، وأصبح اليوم الوسيلة المتبقية لتذكر غزة كما كانت قبل أن يدمرها القصف الإسرائيلي.
ومع اندلاع الحرب بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتحول ميكروفونه إلى شاهد -ليس بالعيون، بل بالآذان- يرصد من خلال حساسيته الدقيقة كيف تغيرت أصوات غزة: من ضحكات الأطفال أثناء لعبهم، إلى هدير القذائف، ومن همسات الولادة واللحظات الأولى لأنفاس طفل، إلى أنين المدفونين تحت ركام المنازل التي انهارت فوق رؤوسهم. لقد تحول كل صوت كان يحمل في طياته لمسة حياة إلى صدى موت.
يبدأ الفيلم بتعريف المشاهد على هذا التضاد بين غزة الماضية وغزة الحاضرة، ثم يقدم قصصا شخصية تمثل أبطال الحياة اليومية الآن. ونتابع حكاية الطفلة غزال التي تروي كيف تركت ألعابها خلفها، وتعتبر نفسها وأسرتها محظوظين لأنهم تمكنوا من أخذ ملابسهم قبل قصف منزلهم، ونحكي كيف تبدلت حياتها: من الاستيقاظ مبكرا والإفطار استعدادا للمدرسة، إلى الاستيقاظ قبل الفجر والانتظار ساعات للحصول على الماء، وهو دور قد يأتي بعد نفاده، فتظل أيامها محمّلة بالقلق من نقص الماء حتى إن حصلت عليه، خشية أن ينقطع في الغد.
كما يستعيد الفيلم عبر الصوت قصة الطفل خليل، الذي ذهب لإحضار نظارته الطبية التي نسيها في أحد المحلات، فقُصف المكان وسقط جريحا. ونسمع تسجيلا صوتيا لخليل، وقصته الكاملة من أخته، إلى جانب لقطات مصورة لشقيقتيه ووالدته أمام المستشفى، وهنّ في حالة ترقب لا يعرفن إن كان لا يزال حيا أم فارق الحياة.
ثم نصل إلى تسجيل مصوَّر يختتم الفيلم، وينقل حلم كثير من سكان غزة بالعودة إلى حياتهم البسيطة السابقة، التي رغم متاعبها كانت مليئة بالسكينة والفرح. ويسأل محمد ياغي جدة مسنة عمّا تفتقده الآن، فتجيبه بأنها تفتقد الاستيقاظ على صوت أذان الفجر، والصلاة، وشرب كوب من الشاي في انتظار الضحى. ثم تضحك بمرارة وتقول إن صوت الطائرات المسيّرة، أو كما تسميها "الزنانة"، أصبح الصوت الملازم لأيامها ولياليها.
الصوت بطل الحكاية في غزة
يحاول "غزة صوت الحياة والموت" الابتعاد عن الشكل التقليدي للتقارير الحربية، فهو يربط الحرب في غزة بالسينما لا عبر الصور الصادمة فقط، بل عبر لوحة سمعية تتيح للمشاهد أن يغمض عينيه ويشعر بمعاناة أبطالها، لوحة مرسومة بأصوات الفقد والصمود.
الصوت السينمائي في "غزة صوت الحياة والموت" يتجاوز وظيفته المعتادة في نقل الحوارات أو تعزيز المؤثرات البصرية أو حتى إبراز جماليات الموسيقى التصويرية. إنه هنا البطل الحقيقي، يحل محل الصورة ليصبح الأداة الأساسية لنقل أفكار الفيلم ورسائله.
وتتشابك في غزة أصوات الحياة وأصداء الموت، كما يلمّح عنوان الفيلم نفسه. الألفة تمتزج برائحة الخراب، وصرخة المولود الأول ترافقها صفارات الإنذار، إذ قد تُمحى حياة عائلة كاملة فقط لوجودها في المكان واللحظة الخاطئين. والأهم أن العمل يوضح، بقصد، أن المقاومة لا تُقاس بعدد الأسلحة أو حجم القنابل، بل بقدرة الإنسان على الاستمرار في النطق وتسجيل صوته، وعلى البقاء حيا رغم الغياب المفروض عليه والحصار الخانق.
يعيد الفيلم للضحايا حقهم في أن يُسمع صوتهم، لا أن يُختزلوا في صور عابرة أو تقارير سريعة على الشاشات. يظهرون هنا كأشخاص لهم الحق أن ينقلوا غضبهم ومعاناتهم وحزنهم على حياتهم التي تُدمّر أمام أعينهم، والعيش تحت تهديد دائم بفقدان أحد أفراد عائلتهم أو حياتهم شخصيا. وتكمن أهمية التسجيل مع أناس من قلب غزة في أنهم يتحدثون هنا والآن.
لكن المشاهدة تضعنا أمام أسئلة مؤلمة: هل لا تزال تلك الفتاة على قيد الحياة؟ هل نجا خليل بالفعل؟ وماذا عن شقيقته التي روت قصته مع مهندس الصوت؟ يصنع الفيلم رابطة قوية بين المتفرج والشخصيات، ويترك في ذهنه هاجسا مستمرا حول مصير من ظهروا لحظات عابرة: الأب الذي فقد أطفاله دفعة واحدة ويرفض أي محاولة لمواساته، والأمهات اللواتي لم يُمنحن سوى دقائق على الشاشة، لكن صورتهن تبقى عصية على النسيان.