تقدم لنا التطورات الأخيرة في الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، التي دخلت الآن في شهرها الثالث، علاماتٍ جديدة حول تقدم الحرب. يمكننا القول إن إسرائيل بعد فشلها في تحقيق ما أرادته في غزة بفضل مقاومة حماس الناجحة، وأيضاً بعد فشل عمليتها البرية، بدأت تنتهج استراتيجية جديدة لإنقاذ نفسها من هذا الوضع الصعب.
إن مقتل صالح العاروري مؤخراً في بيروت في هجوم إسرائيلي بطائرةٍ مسيَّرة، والانفجارات في إيران، وتصاعُد التوترات في البحر الأحمر بسبب هجمات الحوثيين، كلها تطورات تخدم استراتيجية إسرائيل الجديدة، والميزة الأهم في هذه الاستراتيجية أنها مبنية على نشر الحرب خارج الأراضي الفلسطينية. سأُلقي أولاً نظرةً على التطورات الأخيرة في المنطقة، ثم سأحاول تحليل استراتيجية إسرائيل الجديدة في ضوء هذه التطورات.
تصاعُد التوتر في البحر الأحمر
بدأت قيادة أنصار الله بمهاجمة السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي والمملوكة لإسرائيل في البحر الأحمر، في 19 نوفمبر؛ ما أدى إلى زيادة التوترات في المنطقة بشكل كبير. إن النظام الذي نفذ 24 هجوماً حتى الآن يعلن بوضوح أنه سيهاجم السفن الإسرائيلية، ولن يسمح لها بالمرور عبر البحر الأحمر، مع التأكيد على أن البحر الأحمر مفتوح وآمن للسفن الأخرى. وقد قام تحالفٌ يُسمى “عملية حارس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة لضمان أمنها في تجارة البحر الأحمر التي تمثل 15% من التجارة البحرية العالمية، وخاصةً تجارة القمح والنفط والغاز الطبيعي المسال.
ومع ذلك من الصعب القول إن التحالف قد اجتذب القدر نفسه من الاهتمام، أو كان فعالاً كما كان متوقعاً، السبب الأول لذلك هو أن السعودية والإمارات ليستا جزءاً من التحالف، ونحن نعلم أن السعودية تحاول تجنب تكاليف هذه الحرب في اليمن لبعض الوقت، رغم أنها اتخذت موقفاً ضد نظام الحوثيين في الحرب الأهلية في اليمن. ومع ذلك فإن السعودية، التي دخلت فترة من الانفراج مع إيران تحت القيادة الصينية، ربما تتجنب أيضاً تجدد المواجهة مع إيران بشأن اليمن، وبالمثل بدأت الإمارات بالفعل في سحب وجودها في اليمن، ولهذه الأسباب فإن غياب دولتين خليجيتين مهمتين يحد من نفوذ التحالف، وأدى عجز التحالف عن الرد على هجمات أنصار الله إلى خلق أزمة أخرى. وبعد أن قررت 18 شركة شحن كبرى عدم استخدام البحر الأحمر، الذي يتمتع بإمكانات تجارية بحرية كبيرة، تُواصل هذه الشركات التجارة عبر رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، بدلاً من البحر الأحمر، وقد أدى هذا إلى ارتفاع التكاليف والتأخير في هذه المنتجات التجارية، ما يجعل الغرب في موقف صعب.
هجوم بيروت الإسرائيلي وموقف حزب الله
ربما كان التطور الأهم في الأيام الأخيرة هو الغارة الجوية الإسرائيلية على بيروت، ومقتل العاروري، وهو مسؤول كبير في حماس. إن اغتيال العاروري، الذي كان أحد قادة حماس، والذي زُعم أنه قاد جانب حماس للتنسيق داخل محور المقاومة، كان في جوهره ترهيباً إسرائيلياً لمحور المقاومة، وبشكل أكثر تحديداً إيران، وليس حماس. باغتيال العاروري تريد إسرائيل إظهار تأثيرها الرادع وتحدي محور المقاومة، لكن زعيم حزب الله نصر الله، الذي أصدر خطاباً في أعقاب اغتيال العاروري، أوضح استراتيجية محور المقاومة.
شدد نصر الله في كلمته على أن أطراف محور المقاومة لا تخضع لعلاقة هرمية، وأن كل مكون يتصرف باتخاذ قراره الخاص، وبالتالي فهو ليس حركة تحركها إيران. ويعزِّز هذه الحجة بقوله إن طوفان الأقصى كان بقرار من حماس، وليس من إيران، ورغم أن نصر الله يدعي أن الأمر ليس كذلك تتكشف استراتيجية إيران، الطرف المهيمن في محور المقاومة، هنا بشكلٍ أو بآخر. لا تريد إيران أن تتعمق الصراعات، وتتجنب إضفاء الطابع الإقليمي على الحرب من خلال تحويلها إلى حرب مباشرة، ما يعني أنها لن تتحمل المسؤولية عن تصرفات حماس أو الحوثيين. وهذا هو نقيض الاستراتيجية الإسرائيلية التي سأتحدث عنها لاحقاً.
ورغم أن نصر الله أكد في خطابه الأخير، كما في خطاباته السابقة، أن أي هجوم إسرائيلي على لبنان سيُقابل بردٍّ قاسٍ للغاية، وأنه لن تكون هناك حدود، لم يفعل حزب الله حتى الآن بعد الغارة الجوية على بيروت أكثر من إطلاق بضعة صواريخ على القواعد الإسرائيلية جنوب لبنان. ومع ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية في حالة تأهب قصوى؛ تحسباً لهجوم محتمل لحزب الله، وتعتقد إسرائيل أن هجوماً محتملاً لحزب الله يمكن تنفيذه باستخدام صواريخ بعيدة المدى أو من خلال التسلل عبر الحدود إلى الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل، وتعمل على تكثيف إجراءاتها ضد هذه الاحتمالات، ومع ذلك لا يوجد مؤشر ملموس على رد فعل من جانب حزب الله. وبالتالي فإن تورط حزب الله الملموس في الحرب لا يمكن أن يأتي إلا بعد هجوم استفزازي إسرائيلي أكبر.
إلى ماذا تشير الانفجارات في إيران؟
انفجرت في مدينة كرمان الإيرانية قنبلتان بفارق 10 دقائق، خلال فعالية تأبين لقاسم سليماني، ما أسفر عن مقتل ما يقرب من 100 شخص. يبدو أن وقت ومكان هذا الهجوم يقدم لنا بعض الأدلة، كان مكان الهجوم هو فعالية تأبين سليماني، أحد أهم شخصيات حركة محور المقاومة ومنسق مكونات هذا المحور. وجاء التوقيت بعد يوم واحد من الغارة الجوية الإسرائيلية في بيروت، والتي أسفرت عن مقتل العاروري، الذي كان ينسق لحماس مع المكونات الأخرى في محور المقاومة. وبتحليل بسيط للتفجيرات الإيرانية في ضوء هاتين الواقعتين، يظهر أن إسرائيل تقف وراء الهجوم.
زادت إسرائيل في الأيام الأخيرة بشكل كبير من أنشطتها الاستخباراتية في دول المنطقة، ولم يكن من قبيل الصدفة أنه في يوم التفجيرات الإيرانية نفسه، أُلقِيَ القبض على 34 عميلاً إسرائيلياً في تركيا، في عملية قام بها جهاز الاستخبارات الوطنية. وكان رد فعل الاستخبارات التركية سريعاً، وأوقفت الأنشطة الاستخباراتية الإسرائيلية المتزايدة (مع الأخذ في الاعتبار الأحداث في إيران). ومع ذلك فإن أنشطة الاستخبارات الإسرائيلية داخل إيران، مثل الاغتيالات أو الهجمات السيبرانية أو التجسس، مستمرة منذ بعض الوقت. ويمكننا القول إن هذه الهجمات تهدف إلى دفع القيادة الإيرانية إلى اتخاذ موقف ملموس ضد إسرائيل مع رد فعل الجمهور.
استراتيجية إسرائيل المتغيرة
في ضوء التطورات المذكورة أعلاه، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تتمثل في نشر الحرب على مساحة واسعة وبكثافة عالية، وبالتالي تحويلها إلى حرب إقليمية. وكما أوضح المتحدث باسم الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، فإن إسرائيل لا تملك القدرة على القضاء على حماس، وهذا أمر واضح، ولكن إذا تراجعت إسرائيل في هذه الحرب، فإن ذلك سوف يؤدي فجأة إلى تدمير التأثير الرادع الذي ظلت إسرائيل تعمل جاهدة على مدى سنوات من أجل بنائه، والذي توليه أهمية كبرى.
لذا فإن ما تحاول إسرائيل فعله الآن هو تعميق صراعها مع حزب الله في لبنان، ومع إيران من خلال أنشطتها الاستخباراتية، ومع الحوثيين في البحر الأحمر من خلال الاستفزاز المستمر، ونشر الحرب إلى أكبر عدد ممكن من المناطق.
إن هجمات أنصار الله في البحر الأحمر، والتي بدأت في أعقاب الهجمات الإسرائيلية على فلسطين، رغم أنها لم تخلقها إسرائيل بشكل مباشر، تفتح المجال أمام إسرائيل لتنفيذ استراتيجيتها الجديدة، وتستغل إسرائيل هذا الوضع بقدر ما يمكن استغلاله. في المقابل كان صالح العاروري، هدف الهجوم الإسرائيلي في بيروت، وقاسم سليماني، شخصية مراسم الاحتفال في مكان الانفجار في إيران، شخصيتين مهمتين في حركة محور المقاومة. وتحاول إسرائيل بهذه العمليات تحويل حركة محور المقاومة إلى كتلة واحدة، وتهدف بهذه الطريقة إلى جعل الحرب متعددة الأطراف ومتعددة الجبهات، من أجل الحصول على دعم ملموس من الولايات المتحدة، وبالتالي الخروج من هذه الحرب بأقصى قدر ممكن من المكاسب.
وعلى النقيض من استراتيجية إسرائيل المتمثلة في توسيع وتعميق هذه الحرب، تعمل إيران (معها حزب الله) على خلق نقيض لاستراتيجية إسرائيل من خلال محاولتها إبقاء الصراع منخفض الحدة قدر الإمكان. إن تصريحات نصر الله الباردة، وحقيقة أن حزب الله لم يشارك بعد بشكل مباشر في الحرب، هي أهم المؤشرات على هذا التوجه.
أتوقع أنه في الأيام أو الأسابيع المقبلة ستشن إسرائيل أيضاً هجوماً (أو استفزازاً) ضد النظام السوري، الذي تريد ضمه إلى الكتلة التي تحاول تشكيلها ضدها، وذلك لأن النظام السوري، إلى جانب لبنان واليمن وإيران، يشكل عنصراً مهماً آخر في حركة محور المقاومة. ومن خلال إدخال سوريا في المعادلة التي كانت في صراع معها لسنوات، تريد إسرائيل أولاً إنشاء كتلة منافسة، ثم تشكيل جبهة خاصة بها مع الولايات المتحدة، وإذا حدث مثل هذا التطور فإن احتمال نشوب حرب إقليمية يبدو مرتفعاً للغاية.
ومع ذلك، ومع العلم أن تكلفة مثل هذه الحرب الإقليمية ستكون باهظة للغاية للولايات المتحدة، فإن عدم رغبة الولايات المتحدة في تحمل هذه المخاطر في الوقت الحالي، والموقف البارد للجبهة الإيرانية، هما أكبر العقبات في الطريق إلى الحرب الإقليمية التي ترغب فيها إسرائيل.