في سابقة تاريخية، بدأت محكمة العدل الدولية في لاهاي، الخميس 11 يناير/كانون الثاني 2024، جلسات استماع تتعلق بقضية رفعتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي، طالبت فيها بتعليق عاجل للحرب في قطاع غزة، كما اتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، في قضية من شأنها أن تغير مسار الحرب في القطاع المحاصر.
وهذه هي المرة الأولى التي تتم فيها محاكمة إسرائيل بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية، والتي تم وضعها بعد الحرب العالمية الثانية في ضوء الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود وغيرهم من الأقليات المضطهدة خلال “الهولوكوست”.
وكانت إسرائيل أحد الأعضاء المؤسسين لمحكمة العدل الدولية في الخمسينيات من القرن الماضي، في أعقاب مقتل ستة ملايين يهودي على يد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ومن المرجح أن يكون لدفاع إسرائيل عن نفسها من اتهامات الإبادة الجماعية في نفس المحكمة رمزية كبيرة.
تفاصيل أولى الجلسات للمحاكمة
تنطلق ظهر الخميس الجلسة الأولى للاستماع إلى القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتخصص الجلسة الأولى للاستماع لمطلب جنوب أفريقيا بفرض إجراءات طارئة، وإلزام إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة.
وفي اليوم الثاني، وهو الجمعة 12 يناير/كانون الثاني، ستعقد الجلسة الثانية من المحاكمة، والتي سيستمع خلالها قضاة المحكمة إلى رد إسرائيل للطعن في اتهامات جنوب أفريقيا بالإبادة الجماعية.
وفي جلسات هذا الأسبوع أيضاً، سيتم التداول فقط بشأن ما إذا كان يمكن منح موافقة على اتخاذ التدابير الطارئة، وغالباً يعلن قضاة محكمة العدل الدولية مثل هذه التدابير، والتي تتكون عموماً من مطالبة دولة بالامتناع عن أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع القانوني.
ووفقاً للإجراءات الاحترازية، يجب على المحكمة في البداية أن تقرر ما إذا كان لديها الاختصاص القضائي للنظر في الدعوى وما إذا كانت الأفعال التي تُتهم إسرائيل بارتكابها تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. وقد تتخذ المحكمة قرارات مختلفة عن تلك التي طلبها مقدم الشكوى.
وإذا خلصت المحكمة إلى أنها تتمتع بالسلطة القضائية مبدئياً فسوف تتخذ القضية مسارها في قصر السلام؛ حيث تقع المحكمة في لاهاي، حتى لو قرر القضاة عدم الأمر بتدابير الطوارئ.
ما هي القرارات المتوقعة؟
من المتوقع أن يستغرق قرار الحكم النهائي بشأن الإبادة الجماعية عدة سنوات، لكن الأمر القضائي بشأن حرب غزة الذي طلبته بريتوريا من محكمة العدل الدولية قد يأتي في وقت أقرب بكثير.
فقد تقدمت جنوب أفريقيا بطلب من المحكمة أن تأمر إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة، ووقف أي أعمال إبادة جماعية أو اتخاذ إجراءات معقولة لمنع الإبادة الجماعية، وتقديم تقارير منتظمة إلى محكمة العدل الدولية حول مثل هذه الإجراءات.
ومن المتوقع أن تفوز بريتوريا بالفعل بأمر ضد إسرائيل يلزمها بالوقف والكف عن ارتكاب كافة أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، حسب ما أفاد به فرانسيس بويل، محامي حقوق الإنسان الأمريكي الذي فاز بطلبين أمام محكمة العدل الدولية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية ضد يوغوسلافيا نيابة عن البوسنة والهرسك، مضيفاً أن الأمر قد يصدر في غضون أسبوع من جلسة الاستماع هذا الأسبوع.
ما الذي يتوقعه المسؤولون الإسرائيليون؟
ويقدر مسؤولو وزارة العدل الإسرائيلية أن محكمة العدل الدولية في لاهاي قد تصدر أوامر مؤقتة ضد إسرائيل، دون أن تأمر بوقف كامل لإطلاق النار، وأوضح الحقوقيون الذين تحدثت إليهم صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أنه في جلسات الاستماع التي ستعقد بشأن الالتماس الذي قدمته جنوب أفريقيا، يمكن للمحكمة العليا أن تأمر إسرائيل بالسماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في الالتماس الذي قدمته جنوب أفريقيا، وفتح تحقيق أو السماح بعودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة.
فيما يقول خبراء إنه إذا حكمت محكمة العدل الدولية بأن دولة الاحتلال ارتكبت إبادة جماعية في غزة فستكون هذه هي المرة الأولى التي تجد فيها المحكمة أن دولة ما ارتكبت إبادة جماعية.
مدة المحاكمة؟
لن يصدر قرار نهائي من محكمة العدل بشأن اتهامات الإبادة الجماعية التي وجهتها جنوب أفريقيا إلى إسرائيل في الوقت القريب، بل إن الأمر قد يستغرق سنوات حتى يتم عقد جلسة للبحث في القضية بشكل كامل على أساس موضوعي.
ما الأهمية التي تحملها المحاكمة؟
بمجرد عقد هذه المحاكمة، فإنها تعتبر خطوة تاريخية وسابقة، “لأن محكمة العدل الدولية لم تحكم قط، حتى الآن، بأن دولة ارتكبت بالفعل إبادة جماعية”. وأضاف أن “أبعد ما ذهبت إليه هو الحكم بأن صربيا فشلت في منع الإبادة الجماعية على يد الميليشيات في سريبرينيتسا”، بحسب ما ذكره البروفيسور إلياف ليبليتش، خبير القانون الدولي في جامعة تل أبيب لموقع CNN الأمريكي.
كما أن القضية التي تواجهها إسرائيل قد تضع حلفاءها في موقف محرج؛ إذ يقول خبراء إن أي حكم سيصدر ضد إسرائيل قد يعتبر واشنطن أيضاً متواطئة في الانتهاك المزعوم لاتفاقية الإبادة الجماعية، ويقول عالم السياسة الأمريكي جون ميرشايمر إنه على الرغم من أن طلب جنوب أفريقيا يركز على إسرائيل، إلا أن له آثاراً ضخمة على الولايات المتحدة، وخاصة الرئيس جو بايدن ومساعديه الرئيسيين؛ بسبب دعمه اللامشروط لدولة الاحتلال منذ بدء حربها ضد غزة. وأضاف: “لماذا؟ لأنه ليس هناك شك في أن إدارة بايدن متواطئة في حرب إسرائيل”.
الاتهامات التي يواجهها الاحتلال
وكانت جنوب أفريقيا قد طلبت من المحكمة، في وقت سابق، إصدار أمر عاجل يعلن أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، في حملتها على قطاع غزة.
في حين تقع عريضة الاتهام التي جهزتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، في ما يقارب 84 صفحة، حيث استعرضت فيها كل تطورات الحرب على غزة، وكافة الانتهاكات التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين هناك في القطاع، وكذلك في الضفة الغربية.
ومن ضمن ما جاء في عريضة الاتهامات الخاصة بجنوب أفريقيا بحق إسرائيل، أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً واسع النطاق براً وجواً وبحراً على غزة، وتعرَّض القطاع لما وُصف بأنه واحدة من “أعنف حملات القصف التقليدي” في التاريخ للحرب الحديثة.
فيما ترفض تل أبيب الدعوى المرفوعة ضدها في محكمة العدل الدولية، وتنفي الاتهامات الموجهة إليها، وتقول إن “حماس” هي المسؤولة الوحيدة عن معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة.
وفي وقت سابق، قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، في حديثه مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي زار تل أبيب، إنه “لا يوجد ما هو أكثر وحشية وسخافة” من الدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل، منتقداً جنوب أفريقيا التي رفعت الدعوى.
يشار إلى أن محكمة العدل الدولية أصدرت في وقت سابق أحكاماً ضد إسرائيل، من خلال “آراء استشارية”غير مُلزِمة، يتعلق أحدهما بالجدار العازل الذي تبنيه دولة الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، إذ اعتبرت العدل الدولية أنه ينتهك القانون الدولي، ودعت إلى هدمه، إلا أن إسرائيل تجاهلت القرار.
التعريف القانوني للإبادة الجماعية؟
عندما يتعلق الأمر بمسألة الإبادة الجماعية، فإن القانون الدولي يقر بالتعريف المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالإبادة الجماعية، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وينص هذا التعريف، الذي قبلته أكثر من 130 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، على أن الإبادة الجماعية تعني الأفعال “المرتكبة بقصد التدمير، كلياً أو جزئياً، لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”، حسب ما نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني.
وكل من إسرائيل وجنوب أفريقيا طرفان في اتفاقية الإبادة الجماعية، ما يعني أنهما مُلزمَتان “باتخاذ تدابير لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”، مثل سَنّ تشريعات أو معاقبة أولئك الذين يُعتبرون مذنبين بارتكاب الجريمة.
ويأتي هذا على وقع حرب شنَّها جيش الاحتلال الإسرائيلي، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضد غزة، خلَّفت أكثر من 23 ألفاً و357 قتيلاً، و59 ألفاً و410 مصابين، معظمهم أطفال ونساء، ودماراً هائلاً في البنية التحتية، وكارثةً إنسانيةً غير مسبوقة، وفقاً لسلطات القطاع والأمم المتحدة.