دمشق- تدفع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والأوضاع المعيشية المتردية في مناطق سيطرة النظام السوري بعض الشابات السوريات إلى التفكير في “زواج لمّ الشمل” أو “زواج على سفر”، والذي بات مخرجا أخيرا لهن وحلا اضطراريا للتغلب على ظاهرة العنوسة المتزايدة في تلك المناطق في ظل الفقر المتنامي والهجرة المتزايدة للشباب.
تقول سارة (24 عاما) -وهي موظفة في شركة للخدمات الإعلانية بدمشق- إنها باتت تفكر في “الزواج على سفر” -كما يسميه السوريون- هروبا حتميا من ويلات المعيشة في سوريا.
وتضيف في حديث للجزيرة نت “أرى حال المتزوجات في سوريا يوميا، ولا أريد أن أواجه ما يواجهنه من قهر و”تعتير” (مكابدة) لتأمين أبسط مقومات الحياة”.
وفرض “زواج لمّ الشمل” نفسه على السوريين بعد زيادة موجة الهجرة الكبرى للملايين باتجاه أوروبا خلال العام 2015، مجبرة آلاف الشبان والفتيات على البحث عن شركائهم من خلال نوافذ الدردشات الإلكترونية عبر تطبيقات التواصل المختلفة.
ومع الوقت تطورت الظاهرة في تلك التطبيقات حتى بات لـ”زواج لمّ الشمل” مجموعاته الخاصة والعامة التي تستقبل وتنشر طلبات الزواج وعروضه المختلفة، وتعمل على التوفيق بين شركاء المستقبل “أون لاين”.
ما هو زواج لمّ الشمل؟
يكمن الشرط الأساسي في “زواج لمّ الشمل” في أن يكون أحد الشريكين مجنسا أو مقيما بصورة رسمية في إحدى الدول الأوروبية التي تتيح هذا الخيار، وأن يكون بإمكانه بموجب حقوقه المدنية ومجموعة من الشروط والمعايير -التي تختلف باختلاف الدولة اللاجئ إليها أو المقيم فيها- أن يتقدم إلى دائرة الهجرة في تلك الدولة بملف “لمّ شمل أسرته”، وبعد إجراءات روتينية غالبا ما يحصل المقيم المستوفي للشروط على حق استقدام أفراد أسرته.
وفي هذا النوع من الزيجات يلجأ عادة الشريك المقيم في الخارج إلى مواقع التواصل الاجتماعي أو القنوات التقليدية المتاحة أمامه للتواصل مع إحدى الفتيات داخل سوريا، وبعد مرحلة التعارف والقبول يعقد الشريك المقيم في الخارج قرانه على شريكته في الداخل.
ويتم ذلك إما بعودته شخصيا إلى سوريا وتثبيت العقد في الدوائر الحكومية، أو بتوكيل أحدهم لينوب عنه في هذه الإجراءات، وبعد تقديم طلب لمّ الشمل إلى دائرة الهجرة في بلد المهجر وحصوله على الموافقة تنتقل شريكته إليه في دولة إقامته أو لجوئه لبدء حياتهما معا كزوجين.
لماذا ينتشر في سوريا؟
يُرجع الاستشاري النفسي والاجتماعي السوري الدكتور ماجد إسطنبولي أسباب انتشار ظاهرة الزواج عبر “لمّ الشمل” أو “الزواج عن بعد” في سوريا إلى عوامل عدة، أبرزها الهجرة الكبيرة للشبان السوريين خارج البلاد.
ذلك إلى جانب الفقر وانعدام فرص العمل وبقاء عدد كبير من الفتيات السوريات في البلاد دون زواج “بسبب هجرة الشباب وعدم قدرتهم على العودة خوفا من الخدمة العسكرية التي لا يعرفون كم ستطول”، وفق إسطنبولي.
ويضيف الاستشاري النفسي والاجتماعي السوري في حديثه للجزيرة نت “وهكذا لم يبقَ خيار أمام الفتيات السوريات إلا القبول بزواج لمّ الشمل عوضا عن الاستسلام لقدر العنوسة”.
وهو ما تذهب إليه سارة بالقول “إن ظروف الحياة هنا أصبحت مأساوية، ومن المجازفة اتخاذ قرار مصيري بتأسيس أسرة في بلاد حاضرها تعيس ومستقبلها مجهول”.
وتضيف للجزيرة نت “أفضّل الزواج بشخص لا أعرفه جيدا على الزواج بشخص أحبه في ظروف كالتي نعيشها هنا”.
وعلاوة على رغبتها في الاستقرار وتأسيس عائلة مع شريك محب في مكان “يحترم إنسانيتنا وأبسط حقوقنا كبشر” فإن سارة تجد زواج لمّ الشمل فرصة للهجرة النظامية إلى بلد يمكّنها من العمل بمقابل مادي مجدٍ تستطيع من خلاله دعم والديها المتقاعدين في سوريا.
وإضافة إلى سارة تلجأ فتيات سوريات في مناطق سيطرة النظام إلى الزواج عبر لمّ الشمل بقصد السفر للعمل أو متابعة الدراسة الجامعية.
وبلغت نسبة العنوسة بين الفتيات في سوريا 70% في عام 2022، وفق بيانات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام.
هل انتقل الزواج من الواقع إلى المواقع؟
وتنتشر مؤخرا على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الصفحات والمجموعات المتخصصة بعروض وطلبات زواج لمّ الشمل، وتشترك معظم المنشورات في هذه المجموعات بإدراج الناشرين المواصفات الخلقية والعمرية، وكذلك مستوى التعليم وغيرها من مواصفات الشريكة أو الشريك المطلوب للزواج.
وعن ذلك تقول أمل (اكتفت بذكر اسمها الأول) -وهي اختصاصية اجتماعية في شؤون الأسرة والطفل بدمشق- إن “ظاهرة الزواج عن بعد بأشكاله المختلفة تؤدي إلى تسليع الزواج، وتحويل مشروع تكوين الأسرة من لبنة أساسية لبناء المجتمع الصالح إلى سلعة يمكن شراؤها من متجر أون لاين”.
وأضافت في حديث للجزيرة نت “لكن لهذه الظاهرة ما يبررها في ظل التراجع المستمر في مستوى معيشة الأسر السورية، وارتفاع منسوب العنوسة بين النساء، واستمرار هجرة الشباب بحثا عن حياة أفضل خارج سوريا”.
ويرزح نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر منذ عام 2021، فيما يعاني 12.1 مليون سوري -ما يعادل نصف السكان- من انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقارير أممية.
الآثار النفسية والاجتماعية
ويقول ماجد إسطنبولي إن “الآثار النفسية والاجتماعية المترتبة على الزواج عن بعد كثيرة ومتعددة، ولا سيما أن هذا الزواج ليس دائما ذا قيمة قانونية في الدول التي تهاجر إليها الفتيات بعد لمّ شملهن، ففي حال عدم التوافق يمكن أن تصبح الفتاة بلا حقوق غالبا”.
ويضيف الاستشاري النفسي “في الوقت ذاته، فإن كثيرا من الشباب يقدمون معلومات غير صحيحة عن أوضاعهم للزواج من الفتيات في الداخل السوري، وأيضا الفتيات في سوريا ليس لهن خيار آخر لبناء عائلة والتخلص من الوضع الاقتصادي السيئ في سوريا سوى بقبول هذه الفرصة للزواج والسفر”.
ويرى إسطنبولي أن الآثار النفسية تكون غالبا بعد الزواج، لأن التواصل عن بعد لا يعطي صورة واضحة عن أخلاق الشاب أو الفتاة، ومن هنا فإن التوافق لا يمكن أن يكون واضحا كما لو كان على أرض الواقع، مما يزيد احتمالية الخلافات العائلية.
وعن وضع النساء في هذا الزواج، يتابع إسطنبولي “إن الفتاة بموجب هذا الزواج تصبح غالبا في بلد مختلف جدا عن بلدها وفي حالة ضعيفة جدا، فهي لا تعرف شيئا عن القوانين ولا عن اللغة، وغالبا تُجبر على تحمل الكثير بسبب الخوف”.
وختاما، يشدد إسطنبولي على أن “نسبة فشل هذا الزواج كبيرة، وأن آثاره النفسية تظهر بعد أن يتم، فالفتاة في بلد جديد وقد لا تتقبل الزوج، وهو الآخر قد لا يتقبلها، لذلك نجد أن معدلات الطلاق بين السوريين مرتفعة جدا في ألمانيا، خاصة أن قوانين الزواج والطلاق أكثر تساهلا”.
بدورها، تقول لارا خوري (41 عاما) -وهي عاملة في مركز رعاية مسنين بمدينة نورنبرغ الألمانية- عن تجربتها في زواج لمّ الشمل الذي خاضته قبل 3 سنوات “على الرغم من انفصالي عن زوجي السابق فإني لست نادمة على هذه التجربة، فأنا اليوم هنا في ألمانيا مستقرة في عملي وحياتي المهنية والعاطفية بسببها”.
أما عن التجربة ذاتها فتضيف خوري في حديث للجزيرة نت “حاولنا أنا وزوجي السابق قدر استطاعتنا أن نتكيف مع بعضنا البعض، لكنه كان مختلفا تماما عن الشخص الذي حاول تصديره خلال علاقتنا عن بعد، والتي امتدت إلى سنة ونصف”.
وعلى الرغم من فشل بعض الشركاء في الحفاظ على زواجهم بعد الانتقال للعيش معا فإن أزواجا آخرين نجحوا في تقديم صورة إيجابية عن هذه الظاهرة، ويبقى نجاح هذا الزواج أو فشله رهن خصوصية كل تجربة على حدة.
وبلغ عدد اللاجئين السوريين حول العالم 6.6 ملايين لاجئ مع نهاية عام 2022، بحسب تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة.