في عام 2008، قال الجنرال باتريك كاميرت، نائب قائد قوة بعثة الأمم المتحدة في الكونغو الديمقراطية، في وصف واقع النساء المرير في الحرب هناك “أن تكون امرأة، فإن هذا قد يصبح أكثر خطورة من أن تكون جنديا في نزاع مسلح”.
تقول الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية إن النساء من بين أسوأ ضحايا الحرب، ويتضح هذا في السودان حيث تحذر منظمة الصحة العالمية من وجود أكثر من 4 ملايين امرأة وفتاة معرضات لخطر العنف الجنسي جراء الحرب، وفي قطاع غزة حيث تشير تقديرات هيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى مقتل امرأتين كل ساعة، ومع انهيار المنظومة الصحية هناك جراء القصف الإسرائيلي على القطاع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تلد النساء قيصريا دون تخدير.
هدف متعمد
“الموت جاي (آتٍ) جاي”، قالتها هيا أبو جرار، سيدة فلسطينية في العشرينيات من عمرها، نزحت مع نحو مليون امرأة وفتاة من بيوتهن في غزة إلى أماكن أخرى، واستقرت هيا في رفح الفلسطينية، المحطة الثانية للقصف الإسرائيلي بعد خان يونس.
تزوجت هيا، مصورة الأفراح والمناسبات، منذ عامين، وعاشت مع زوجها في منطقة السرايا في قطاع غزة، ومع اشتداد الحرب هناك نزحت إلى بيت أهل زوجها في رفح، حاملة في رحمها جنينا في الشهر الثامن.
“يافا”.. قالت هيا، في حديثها للجزيرة نت عبر الهاتف، إنها وزوجها اختارا ذلك الاسم قبل الحرب لطفلتهما الأولى المنتظرة. ومثل 50 ألف امرأة حامل في غزة، تخشى هيا الولادة هناك أو البقاء في انتظار الموت، “أنا خائفة خائفة كثيرا من أموت هنا”.
يرى أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في جامعة “كورنيل” ماثيو إيفانغليستا أنه عندما تنطوي الحرب على إلحاق الأذى بالمدنيين، فإن النساء والأطفال والرجال غير المسلحين يعانون أكثر من غيرهم لأنهم لا يملكون أسلحة للرد.
رأي تؤيده أرقام الأمم المتحدة التي توضح أن نحو 70% من الشهداء الفلسطينيين البالغ عددهم نحو 25 ألف، من النساء والأطفال. وفي حديث مع الجزيرة نت، قال إيفانغليستا إنهم لا يتمتعون بما يسمى بامتياز المقاتل، وهو الحق في قتل جندي من الجيش المنافس دون اتهام بالقتل. وبالتالي فإن القانون الإنساني الدولي وقانون الحرب يمنحان حياة المدنيين وممتلكاتهم وضعا “محميا”. وشدد إيفانغليستا على أنه لا ينبغي أبدا استهدافهم بشكل مباشر، “وأي ضرر يلحق بهم عن غير قصد عندما تهاجم الجيوش أهدافا عسكرية يجب أن يكون متناسبا مع الميزة العسكرية التي يحققها الهجوم”.
ومع ذلك، لفت إيفانغليستا إلى أن بعض الحروب تستهدف المدنيين بشكل متعمد. وقال إن الحروب التي تستهدف “التطهير العرقي” كنزع السكان من منطقة معينة “تدخل تحت بند جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وفي أقصى الحدود الإبادة الجماعية”.
أسوأ حرب
توقفت هيا أبو جرار عن متابعة حملها منذ بداية الحرب، “منذ نحو 3 أشهر لم أجر فحوصات طبية أو أحصل على فيتامينات، لا توجد مستشفيات، قصفوا المستشفيات”.
وتابعت هيا “لا يوجد سوى مستشفى صغير في رفح لكنه دون معدات أو أدوية. أريد الخروج والولادة في مصر”.
وصفت هيا الحرب الإسرائيلية الأخيرة بأنها أسوأ حرب مرت على فلسطين مع نقص الطعام والمستلزمات النسائية، “ومحاولتنا الدائمة أنا وحماتي وسلفاتي (زوجات أشقاء الزوج) اللاتي يقمن معي الآن، التصرف بأي طريقة لتأمين البدائل من أجل العيش، والضرورة من أجل العائلة والأطفال الصغار، خاصة أن زوجي وإخوانه الرجال محاصرون جميعهم في القطاع”.
قالت هيا “ربما تكون الحرب الأسوأ بالنسبة لي. مرت علي أكثر من حرب، لكنني كنت صبية مسؤولة عن نفسي فقط، لكن اليوم أنا مسؤولة عن زوجي وابنتي وأهل زوجي وأهلي. جعلت الحرب المسؤولية هي الأسوأ علي”.
من جانبه، قال إيفانغليستا إن النساء تتحملن أثناء الحرب في كثير من الأحيان أعباء غير متناسبة في محاولة الحفاظ على الأسرة في مواجهة نقص الغذاء والماء والهجمات المتعمدة، خاصة عندما يكون الرجال بعيدين عن المنزل.
ورغم أن هناك أثرا إيجابيا لهذه المأساة في رأي إيفانغليستا، وهو أنه غالبا ما يبرز التحدي المتمثل في التعامل مع حالة الحرب نقاط قوة لدى النساء قد لا تكون واضحة في وقت السلم، حيث تظهر مهارات البقاء على قيد الحياة والقيادة والإبداع في المقدمة.
دون تخدير
“أكثر ما أخشاه اليوم هو الولادة قيصريا دون تخدير”، قالت هيا أبو جرار بصوت مرتجف. لم تضع هيا خطة للولادة، ولم تشتر أي قطعة من الملابس لطفلتها الأولى.
حصلت هيا على إذن خروج من رفح إلى مصر مرافقة لحماتها المريضة بالسرطان، فرحت لأنها ستلد خارج غزة، وبعد ساعات قليلة من الأمل، تراجعت الحماة عن الخروج من رفح، رغم نقص الدواء، وقالت لهيا “لن أترك البيت المليء بالنساء، زوجات أبنائي وأطفالهم حتى لو متت لعدم وجود الدواء”.
تسرب الأمل من بين يدي هيا، استسلمت لقرار حماتها، لكن الخوف يزداد كل دقيقة مع اقتراب الولادة. قالت هيا إن ابنة عمها أنجبت الشهر الماضي قيصريا دون تخدير، “رأت كل شيء، المشرط والمقص، وشعرت بأوجاع قالت لي إنها لم تشعر بها طوال حياتها. لا أريد أن ألد قيصريا، لا أريد أن ألد دون تخدير”.
وكانت “منظمة كير الدولية” في غزة رصدت خضوع النساء الحوامل لعمليات قيصرية طارئة دون تخدير بسبب نقص الوقود والأدوية اللازمة.
من جانبه، استنكر إيفانغليستا الولادة القيصرية دون تخدير، وقال “لم أسمع قط في التاريخ عن أي شيء مثل الصدمة التي تعاني منها النساء الآن في غزة مع التدمير الإسرائيلي الشامل للنظام الصحي، الذي أدى إلى نقص أدوية التخدير والإمدادات الصحية الأساسية”.
يشيب لها الشعر
مثل هيا، عانت أحلام بخيت من الحرب التي انطلقت في السودان منتصف أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وبكلمات قليلة قالت المرأة الخمسينية، في حديث مع الجزيرة نت، إنها رأت كل الحزن والويل في خروجها من الخرطوم وسط النيران وطلقات الرصاص حتى وصلت إلى مصر.
وقالت أحلام “استيقظنا يوم 15 أبريل/نيسان على أصوات المدافع والرصاص التي رافقها دخان كثيف في السماء”. كانت أحلام تعيش في منطقة جبرة بالعاصمة الخرطوم بمفردها، بعد أن التحقت ابنتها بالجامعة في تركيا.
فرت مريضة السكر مع بعض جيرانها من الرصاص المتطاير بملابسها التي ترتديها فقط، وتواصلت مع أقاربها في مناطق مختلفة، “ربنا ستر وعرفت أخرج من الخرطوم وأصل للحدود مع مصر، وسكنت مع أقاربي، لكن لأيام وأنا في طريق للخروج لم يكن معي حقن السكر وأصبت بغيبوبة مؤقتة. هربت وأنا محجبة بملابس النوم وبقيت على حالي لأيام طويلة”.
وردت لأحلام قصص من جيرانها وأقاربها وصفتها بأنها “يشيب لها الشعر”. تابعت أحلام “دخلت قوات الدعم السريع ونهبت البيوت، سرقوا الذهب والأموال والأثاث والسيارات والملابس وكل شيء”.
ذكرت أحلام أن إحدى معارفها تعرضت للاغتصاب في غرب دارفور أثناء هروبها، وقالت “كان كل من حولي لديهم قصص مشابهة لعنف تعرضت له أسرهن، وهناك الكثير من حوادث الاغتصاب حتى للنساء الحوامل”.
وكانت منظمة “هيومن رايتس ووتش” قد سلطت الضوء على تعرض عشرات النساء والفتيات في دارفور للاغتصاب على أيدي قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها في السودان.
ولفت إيفانغليستا إلى أن الاغتصاب، في بعض الأحيان، يتم استخدامه إستراتيجية متعمدة لتقويض تماسك المجتمع من خلال خلق الخوف والفوضى.
وذكر أستاذ التاريخ والعلوم السياسية في جامعة “كورنيل” أنه بالنسبة للعديد من الثقافات، يعدّ اغتصاب النساء “جريمة شرف”، ضد شرف الرجال عندما يهاجم مقاتلو العدو نساءهم.
وقال “يضع هذا عبئا مزدوجا على عاتق النساء، يتمثل في الصدمة الجسدية والنفسية الناجمة عن الاغتصاب نفسه، ومن ثم العار في مواجهة مجتمعاتهن، التي كثيرا ما تلومهن ظلما على وقوعهن ضحية للاعتداءات”.
ووصف الاغتصاب في زمن الحرب بأنه أكثر “انتهازية” وينفذه مقاتلون غير منضبطين، “يرتبط الاغتصاب والعنف الجنسي ارتباطا وثيقا بالحرب نفسها، إذ إن الحروب هي مسألة طرف مهيمن وجانب خاضع، الفائز مقابل الخاسر. وبهذا المعنى تعدّ الحرب نوعية. وكثيرا ما يقوم الجنود “بتأنيث” أعدائهم، ويرتكب الجنود الذكور العنف الجنسي ضد الرجال والنساء أيضا لتأكيد هيمنتهم”.
ومع مواجهة النساء أسوأ ما في الحرب، وتحديدا الحرب الحالية في غزة، ألمح أستاذ التاريخ والعلوم السياسية إلى أن التطورات الأخيرة تضعف آمال تخفيف معاناة النساء في الحروب، حيث تتجاهل الدول والجهات الفاعلة بوضوح تدابير الحماية الواسعة التي يوفرها القانون الدولي.
وشدد إيفانغليستا على أن التركيز على الإعداد للحرب وعدم الرغبة في السعي إلى التوصل إلى نوع ما من التسوية لوقف الحرب الإسرائيلية “أديا إلى معاناة لا توصف للنساء والأطفال الفلسطينيين في غزة”.