“حماس ليست منظمة إرهابية، بل هي حركة تحرر من المجاهدين تكافح من أجل حماية أراضيها وأبناء شعبها”. كان هذا تصريحاً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للرد على محاولات دولة الاحتلال وداعميها الغربيين شيطنة المقاومة الفلسطينية ووصمها بالتطرف والإرهاب، على غرار ما تعرّضت له أغلب حركات التحرر العالمية، التي عادة ما وصمتها القوى الغربية والإمبريالية بـ”الإرهاب”. فاتهام أي حركة تحرر بـ”الإرهاب والتطرف” يكون عادة مقدمة لارتكاب أبشع الجرائم في حق شعبها الذي تنتمي إليه وحاضنتها الشعبية.
غزة ليست الأولى.. كيف يقوم المستعمرون بتشويه حركات المقاومة لتبرير ارتكاب الجرائم؟
بعد وصم حركات التحرر بالإرهاب وتشويه صورتها إعلامياً، يبدأ العقاب الجماعي، والقتل العشوائي والتعذيب واستعمال الأسلحة المحرمة دولياً والتهجير، بل يصل إلى مرحلة “الإبادة”، كما حصل للهنود الحمر في القارة الأمريكية، ويحصل الآن للشعب الفلسطيني.
ويقول تقرير لوكالة الأناضول، إن ما يحدث في قطاع غزة المكتظ بالسكان من قصف للمدنيين وقتل للأطفال والنساء، واستهداف للبنية التحتية بآلاف الأطنان من القنابل شديدة التدمير، سبقه تحشيد إعلامي وتهيئة للرأي العام العالمي لتقبل مجازر فوق طاقة تقبل أي إنسان سوي.
وذلك سواء من خلال اتهام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالإرهاب، وأنها مثل تنظيم “داعش”، أو وصف الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية، بل هم أدنى من الحيوانات”.
فوزير “الدفاع” الإسرائيلي يوآف غالانت، قال “نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك”، وهو ما اعتبرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية، “دعوة لارتكاب جرائم حرب”.
لكن مثل هذه الجرائم سبق أن ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والاستعمار الإيطالي في ليبيا، والاحتلال الأمريكي في فيتنام. بل كل المستعمرين الأوروبيين شيطنوا حركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بالخصوص، وتعاملوا مع شعوبها مثل العبيد والأقنان (العمال معدومو الحقوق) بل أدنى من الحيوانات، مما سهل لهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا تسمح بها حتى قوانينهم.
حركة التحرر في ليبيا
أحد الأمثلة الصارخة لأبطال التحرر الذين وصمهم مستعمرو بلادهم بأشنع الصفات زعيم المقاومة الليبية عمر المختار، الذي حارب الاحتلال الإيطالي طيلة 20 عاماً (1911-1931).
وعندما أسر عمر المختار، ثم عرض لاحقاً على المحاكمة، وجهت له تهم التمرد والعصيان والخيانة، وأُعدم شنقاً في 16 سبتمبر/أيلول 1931، أمام نحو 20 ألفاً من الأهالي (السكان المحليين) والمعتقلين الذين أحضروا لمشاهدة إعدام “الأسطورة الذي لا يهزم أبداً”.
لكن “المتمرد” عمر المختار، تحول بعد شنقه إلى رمز، بل أسطورة للمقاومة والتحرر، ليس فقط في نظر الليبيين، بل في عيون العالم،وحتى مستعمريهم السابقين.
ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وضع القنصل العام لإيطاليا كارلو باتوري، الورود على ضريح عمر المختار في بنغازي.
وقال: “أعرب خلال السنوات الماضية الكثير من القادة المهمين في بلادي عن أسفهم نيابة عن الشعب الإيطالي، وعن المؤسسات الرسمية الإيطالية، للمعاناة الكبيرة التي عاناها الشعب الليبي نتيجة الاستعمار، وبصفتي مسؤولاً في الدولة الإيطالية، التي أتشرف بالانتماء إليها، أجدد أنا أيضاً وبصدق في هذا اليوم التعبير عن هذا الأسف”.
واليوم، الكثير من الشوارع الرئيسية في عدة مدن عالمية بينها غزة، تحمل اسم “عمر المختار”، تخليداً لذكراه. وفيلم “عمر المختار” (أسد الصحراء/عنوان النسخة الانجليزية)، الذي أدى دوره الرئيسي الممثل الأمريكي الشهير “أنتوني كوين”، ملحمة تاريخية لا يمل الناس من مشاهدتها رغم إنتاجها في 1981، نقلت كفاح الشعب الليبي عبر أحد أبطاله، وكيف عانوا من قتل المدنيين وتهجير البدو، واستخدام الأسلحة الكيماوية والقصف الجوي العشوائي للقرى لأول مرة في التاريخ.
وخلال الـ20 سنة الأولى من الاحتلال الإيطالي لليبيا قُتل ربع سكان برقة، البالغ عددهم حينها 250 ألف نسمة، وهُجّر منهم 100 شخص من البوادي إلى المحتشدات، ومات كثير منهم بالأوبئة والأمراض. وهذا السيناريو الذي تسعى إسرائيل لتكراره في غزة ولكن بشكل مبتكر، من خلال قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وتهجيرهم كرهاً أو طوعاً إلى خارج القطاع.
الاستعمار الفرنسي وجرائمه في الحالة الجزائرية
شبه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وصف الفلسطينيين بـ”الإرهابيين” بما كان يصف به المستعمرون الفرنسيون الجزائريين إبان ثورة التحرير (1954-1962)، مشدداً على أن “الفلسطينيين ليسوا إرهابيين ولن يكونوا إرهابيين.. ومن يدافع عن الحق والأرض وعن وطنه ليس إرهابياً”.
وأشار تبون، إلى مقولة العربي بالمهيدي، أحد قادة الثورة، الذي هاجمه الفرنسيون بعد أسره في 1957، بسبب استعمال الثوار الجزائريين القنابل التقليدية المخبأة في قفف وحقائب نسائية، وتفجيرها في حانات ومقاهي يرتادها المستوطنون فرد عليهم “أعطونا طائراتكم نعطكم قففنا”.
وبعد أكثر من نصف قرن من هذا التاريخ، وبالضبط في 2012، وقع ما هو أشبه بمناظرة ساخنة بين المناضلة الجزائرية زهرة ظريف بيطاط، التي شاركت في عمليات “القفف المفخخة”، والفيلسوف الفرنسي اليهودي بيرنار هينري ليفي، في مدينة مارسيليا الفرنسية.
حاول ليفي، إدانة ظريف بطاط، بالحديث عن قضيتها العادلة باستخدام وسائل “غير إنسانية”، وردّت بيطاط بأنهم لم يكونوا يملكون أسلحة متطورة، ولكنهم حاربوا المستعمر بـ”الوسائل الممكنة”.
ويروي العقيد الطاهر الزبيري، قائد أركان جزائري أسبق، عن وزير الخارجية الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، عندما طالبه أحد الرؤساء الفرنسيين السابقين بتعويضات عن أملاك (المعمرين) المستوطنين الفرنسيين الذين تركوها في الجزائر بعد استقلالها، فطالبه بوتفليقة (الرئيس السابق) بتعويضات عن حرق 8 آلاف قرية جزائرية.
فمساندة الشعب الجزائري للثوار كانت “دموية”، حيث سوت قرى كاملة بالأرض، وهجرت سكانها ووضعتهم في محتشدات تحت الحراسة، لحرمان الثوار من أي دعم لوجستي.
وهذا ما يفسر لماذا لجأت حماس والحركات الفلسطينيين لأسر أكبر عدد من الإسرائيليين؛ عسكريين وحتى مدنيين، بهدف مبادلتهم مع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والذين يتجاوز عددهم 7 آلاف، وتحقيق نوع من الردع.
لكن ضريبة الحرية كانت ضخمة، إذ خسرت الجزائر مليون ونصف مليون شهيد في أقل من 8 سنوات، رغم أن عدد سكانها بعد الاستقلال كان في حدود 6 ملايين نسمة فقط، مقابل مقتل 23 ألفاً و652 عسكرياً فرنسياً في نفس الفترة، وفق معطيات الجيش الفرنسي وتقديرات مؤرخين.
الحالة الفيتنامية ووصمها بالإرهاب
اتهام حماس بـ”الإرهاب” ليس سوى حلقة مكررة من مواجهات “الاستعمار والتحرر”، وعلى حد قول بطل معركة “ديان بيان فو” الجنرال الفيتنامي “فو نغوين جياب”، “الاستعمار تلميذ غبي، لا يفهم إلا بتكرار الدروس”.
فالتفوق العسكري الساحق لجيوش المستعمرين لا يمكن أن يتغلب على إرادة الشعوب التي تكافح من أجل التحرر، حتى لو اتُهمت بـ”الإرهاب”.
وتدخلت الولايات المتحدة عام 1955 في فيتنام وشكلت حكومة موالية لها في الجنوب لكي تقف بوجه ما زعمت أنه “زحف شيوعي”، فيما سعى الفيتناميون الشماليون إلى توحيد البلاد.
وخاض الشعب الفيتنامي، ومن ورائه جيش التحرير الفيتنامي، حرب عصابات تحررية، اتهمها الغرب بـ”الإرهاب”، لكنه استطاع في النهاية تحرير وطنه وجرى الإعلان في 2 يوليو/تموز 1976 عن قيام جمهورية فيتنام الاشتراكية الموحدة بعد 22 عاماً على تقسيم البلاد.
وعلى هذا النحو أثبتت حركات التحرر الوطني في هذه التجارب أنه ليس هناك شعب خسر حرباً لتحرير نفسه من الاستعمار.