أدان رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك المظاهرة المقرر تنظيمها في لندن، بالتزامن مع ما يُعرف بـ”يوم الهدنة”، ضدّ حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، واصفاً التحرك بـ”الاستفزازي والمعيب”.
وقد شاركته الرأي وزيرة أمن الطاقة كلير كوتينيو، التي اعتبرت أن ذلك “بعيدٌ كل البعد عن الثقافة البريطانية”، مشيرةً إلى أن الحكومة ستدعم ما سيكون حظراً غير مسبوق على الاحتجاج، إذا ما وافقت الشرطة عليه.
من جهتها، قررت شرطة لندن السماح بالمظاهرة في الوقت الذي أكد فيه المنظمون -من حملة “التضامن مع فلسطين” (PSC)- أن المسيرة لن تتعارض مع فعاليات إحياء ذكرى “يوم الهدنة” في مدينة وستمنستر، بل ستسير في طريقٍ مختلف.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن فعاليات “يوم الهدنة” ستُقام يوم الأحد 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 -وليس في 11، يوم المظاهرة الداعمة لفلسطين- وفي مدينة وايت هول، وسط لندن، ما يعني أنها بعيدة تماماً عن المظاهرة.
ويوم الهدنة يُعتبر عيداً وطنياً في كل من: فرنسا، وبلجيكا، ونيوزيلندا، وصربيا، إضافةً إلى الولايات المتحدة ودول الكومنولث. ويتم الاحتفال به في 11 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، إحياءً لذكرى الهدنة التي أنهت الحرب العالمية الأولى، ووقّعها الحلفاء مع ألمانيا في مدينة كومبيين الفرنسية.
وإذا كنتم تتساءلون: “ما علاقة يوم الهدنة بالحرب على غزة اليوم”، فالإجابة تكمن في دور الحرب العالمية الأولى ومدى تأثيرها على تقسيم الشرق الأوسط.
ما علاقة يوم الهدنة بفلسطين؟
في ديسمبر/كانون الأول 1917، أي خلال الحرب العالمية الأولى، سيطرت الإمبراطورية البريطانية على القدس لتنهي 400 عام من الحكم العثماني على المدينة.
لاحقاً، في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918، وقّع الحلفاء على اتفاق هدنة مع الإمبراطورية العثمانية قبل أقلّ من أسبوعين على يوم الهدنة مع الألمان، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى.
قبل الاستيلاء على المدينة المقدسة وبقية الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، قدّمت الحكومة البريطانية سلسلة من الوعود المتناقضة لمختلف الأطراف المعنية، بشأن خططها فيما يخصّ الأراضي التي سيطرت عليها.
فقد قدّمت بريطانيا وعوداً لشريف مكة الحسين بن علي -الحاكم العربي للمدينتين المقدستين في مكة والمدينة والمناطق المحيطة- بأنها ستعترف بالاستقلال العربي، مقابل إطلاق انتفاضة ضد الإمبراطورية العثمانية.
لكنها بالمقابل، عادت وأصدرت ما يُعرف بـ”وعد بلفور” في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، الذي التزمت فيه بتأييد “إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين”، من خلال رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور إلى اللورد روتشيلد، أحد أبرز زعماء الجالية اليهودية في المملكة المتحدة.
بعد 3 سنوات، أي في العام 1920، ستقرّ عصبة الأمم -التي كانت قد تشكلت حديثاً- بالانتداب البريطاني على فلسطين؛ ما منح المملكة المتحدة سلطة إدارة فلسطين ومنطقة شرق الأردن، الأردن حالياً.
وستدرج ضمن صك انتداب بريطانيا وعد بلفور، مع ضرورة “عدم القيام بأي شيء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”.
لكن عملياً، فقد صار وعد بلفور المبدأ التوجيهي للحكم البريطاني للبلاد خلال السنوات الثلاثين التالية، حتى قيام ما يُعرف بـ”دولة إسرائيل” عام 1948، بعد الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935 التي أطلقها الشيخ عز الدين القسام.
ترافق إعلان دولة إسرائيل مع النكبة الفلسطينية، حين سيطرت الحركة الصهيونية بالقوة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، وهجّرت أكثر من 750 ألف فلسطيني من نحو 20 مدينة و400 قرية، هربوا من بيوتهم بسبب المجازر التي ارتُكبت بحق أهلهم والتي كانت أقرب إلى تطهيرٍ عرقي.
حدث كل ذلك بدعمٍ بريطاني طبعاً، كان قد وصل إلى ذروته مع إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين عام 1948، مسلّمةً إياها إلى الصهاينة الذين أعلنوا قيام ما يُعرف بـ”دولة إسرائيل” وسيطرة القوات الصهيونية على 78% من أراضي فلسطين، بينما سيطرت الأردن على الضفة الغربية وخضع قطاع غزة للإدارة المصرية.
لكن رغم الأحداث التاريخية اللاحقة، يمكن القول إن الحرب العالمية الأولى كان لها التأثير المباشر على تاريخ الشرق الأوسط، حتى يومنا هذا. كما أن الانتداب البريطاني لفلسطين كان الحدث الأكثر أهمية في تاريخ المنطقة على مدار مئات السنين، ومهَّد الطريق لكل ما يجري اليوم.
قبل وعد بلفور
جاء الاستيلاء البريطاني على فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى ليعطي الأمل للحركة الصهيونية في إمكانية تحقيق أحلامهم، بإقامة وطنٍ قومي لليهود في منطقة الشرق الأوسط، رغم أنها كانت موجودة منذ منتصف القرن الـ19؛ باعتبارها حركة سياسية تسعى لإنشاء وطن يهودي بعيداً عن الاضطهاد الأوروبي المعادي للسامية.
ولفترة طويلة، دارت نقاشات بين أنصار الحركة الصهيونية حول الشكل الذي يجب أن يتخذه هذا الوطن، وكيف سيكون التعامل مع غير اليهود الموجودين فيه، وأين موقعه.
وبالمناسبة، أوغندا كانت من ضمن الدول المطروحة في المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903، ويُقال إن زعيم الحركة الصهيونية وقتئذٍ –ثيودور هرتزل– كان يفضّل الأرجنتين على فلسطين.
قبل ذلك، لطالما حاول هرتزل إقناع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإبرام “صفقة القرن”، ولطالما رفضها قائلاً: “يجب علينا نسيان فكرة السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإلا فإنهم سيحشدون بالوقت المناسب كل السلطة في أيديهم أينما يستقرون، وسنكون بذلك وقّعنا على مذكرة إعدام إخواننا المؤمنين”.
وعلى العموم، لم يكن أحد ليتخيّل أن يُمنح لليهود دولة مستقلة في الشرق الأوسط، لولا الانتداب البريطاني الذي كان “متعاطفاً” مع الحركة الصهيونية.
انطلاقاً من هنا، تحمل الحرب العالمية الأولى أهمية كبرى بالنسبة للفلسطينيين، بعدما وضعت أوزارها في “يوم الهدنة” 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، قبل أن يرى الشعب الفلسطيني أن حياته تنقلب رأساً على عقب وباتت مرتبطة بالقتل والتهجير المستمرين، وأن مستقبله صار مجهولاً.