بلغت تكلفة حرب الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة نحو 260 مليون دولار في اليوم الواحد، ومع ذلك لم تقطع حكومة الاحتلال الأموال المخصصة للمدارس الحريدية ولا أوقفت المخصصات الموجهة للقضايا التي تناصرها أحزاب اليمين المتطرف في الائتلاف الحاكم، وقد زاد ذلك من المطالبة بمحاسبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حسب ما نشرته وكالة Bloomberg الأمريكية.
إذ تجاوزت التكاليف المادية للحرب ما كانت تتوقعه إسرائيل في البداية، وبدأت المالية العامة لدولة الاحتلال تنوء بهذه الضغوط. وزادت مخصصات اليمين المتطرف والمنح المرتبطة به من تأجيج الجدل في إسرائيل، فيما اشتد اضطراب الأسواق في وقت يستعد فيه وزير مالية الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، للكشف في غضون أيام عن ميزانية جديدة لما تبقى من عام 2023، ثم الإعلان عن الخطط الاقتصادية للعام المقبل.
صراع الأولويات في إسرائيل
ويتضمن برنامج الإنفاق الإسرائيلي ما يسمى “أموال الائتلاف”، أي الإنفاق المخصص لمشروعات الأحزاب الخمسة التي تتكون منها حكومة نتنياهو، التي توصف بأنها أكثر الحكومات ميلاً إلى تيار اليمين الديني في تاريخ إسرائيل.
وقد بلغت المخصصات التي أقرتها هذه الحكومة في مايو/أيار الماضي مبلغاً غير مسبوق، وصل إلى نحو 14 مليار شيكل (3.6 مليار دولار)، ومن المفترض أن يذهب بعضه إلى المدارس الدينية التي يُعفى طلابها من دراسة بعض المواد (العلمانية) مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات. وخُصصت حصة كبيرة أيضاً لتنمية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة.
وعلى الرغم من أن هذه المخصصات المرتبطة بالائتلاف اليميني ليست إلا جزءاً صغيراً من إجمالي الميزانية الحكومية في (2023-2024)، فإن الخلاف بشأنها صار دليلاً آخر على نزاع الأولويات في إسرائيل فيما تواجه دولة الاحتلال أصعب صراع مسلح لها منذ نصف قرن.
بدورها أعلنت وزارة المالية بالفعل أن الخسائر المالية للحرب تبلغ نحو 8 مليارات دولار، ومن المتوقع أن يكون التصرف في مخصصات ائتلاف الأحزاب الحاكمة أحد العوامل التي تحدد مدى تقبل الأسواق لتعامل الحكومة مع الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب.
يقول رافي جوزلان، كبير الاقتصاديين في شركة IBI الإسرائيلية للاستثمارات: “ما دامت الحكومة متمسكة بأموال ائتلافها، فإنها ستدفع المزيد في مقابل الاقتراض”.
وازدادت أهمية الأحكام التي يستخلصها تجار السندات وشركات الاستثمار العالمية بشأن المسار الاقتصادي لحكومة الاحتلال، لأن الأخيرة أقبلت على سوق السندات لدفع تكاليف الحرب. وقد تضخم عجز ميزانيتها في أكتوبر/تشرين الأول أكثر من 7 أضعاف ما كان عليه في الشهر ذاته من العام السابق. وأعلنت وزارة المالية في نوفمبر/تشرين الثاني عن خطط لزيادة اقتراضها بنسبة 75 % مقارنة بالشهر الماضي.
استعادت الأصول الإسرائيلية (في قيمة العملة والسندات) معظم خسائرها، إن لم يكن كلها، في أعقاب عملية طوفان الأقصى. لكن ظلال المخاطر المرتبطة بالاستثمار في سندات الحكومة لا تزال تخيم على الأجواء الاقتصادية.
فيما ارتفعت تكلفة تأمين السندات السيادية الإسرائيلية من العجز عن السداد لأكثر من ضعف ما كانت عليه قبل بدء الحرب. ولا تزال علاوة المخاطرة -أو عائد تعويض عن تحمل المخاطر- التي يطلبها المستثمرون للاحتفاظ بالسندات الإسرائيلية في الخزانة الأمريكية أعلى بنحو 25 نقطة أساس عما كانت عليه قبل الحرب.
واقع الأمر أن الزيادة غير المسبوقة في مخصصات البرامج الدينية والمستوطنات في الضفة الغربية المحتلة كانت موضع انتقاد ومطالبة بالمحاسبة قبل قيام الحرب بمدة طويلة، فقد حذر كثير من المنتقدين والمعارضين من أنها تخنق النمو الاقتصادي لدولة الاحتلال. لكن المسألة ازدادت بروزاً الآن بعد أن أعلن نتنياهو التعهد بدفع “أي ثمن اقتصادي تفرضه علينا هذه الحرب”.
تشديدات على الميزانية
فيما كانت ميزانية 2023 التي وضعها سموتريتش شهدت زيادة في الإنفاق قدرها 35 مليار شيكل (نحو 9 مليارات دولار)، وخُصص معظمها لإنفاق الجيش ويأتي معظم تمويلها من ديون السندات.
وتبقى نحو 8 مليارات شيكل (نحو 2 مليار دولار) من “أموال الائتلاف” لم تستخدم بعد. ومع ذلك، لا تزال الأحزاب الحاكمة تُمانع حتى الآن تحويل هذه الأموال بالكامل إلى إنفاق الحكومة على الحرب، أو قطع البرامج المرتبطة بها. وذلك على الرغم من أن هذه المخصصات تتجاوز إجمالي الأموال التي خصصتها الحكومة لبند الإنفاق على المستشفيات العامة، وكذلك لبند التعليم العالي الممول من الدولة، في ميزانية 2023.
وعلى الرغم من أن سموتريتش تعهد بإلغاء أي مخصصات مالية “غير ضرورية لدعمِ الحرب”، فإن المبلغ الذي اقترح اقتطاعه من مخصصات الائتلاف جاء أقل من ذلك الذي اقترحته إدارة الميزانية في وزارة المالية.
حثت وزارة المالية على تشديد التدابير المالية لتغطية ارتفاع الإنفاق وانخفاض الإيرادات، واقترحت الاقتطاع من مخصصات الائتلاف الحاكم وإغلاق بعض الوزارات الحكومية. وفي رسالة إلى سموتريتش، حذر رئيس وزارة المالية من أن القرارات المالية ستخضع لفحص دقيق من شركات التصنيف.
وأثار موقف الحكومة الإسرائيلية غضب المستثمرين وكثير من كبار المحللين الاقتصاديين. وأرسل 300 اقتصادي بارز من إسرائيل وخارجها رسالة إلى نتنياهو وسموتريتش الأسبوع الماضي، حثوا فيها رئيس الحكومة ووزير ماليته على “العودة إلى رشدهما فوراً”.
وقالت مجموعة الاقتصاديين، التي ضمت الاقتصادي الأمريكي الإسرائيلي جوشوا أنجريست الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: “الخطوة الأساسية والضرورية التي يجب اتخاذها هي وقف تمويل أي شيء غير ضروري للحرب، وأموال الائتلاف تأتي في صدارة” المخصصات التي يجب إيقافها.
عجز كبير لدى حكومة الاحتلال
ساءت التوقعات الاقتصادية لإسرائيل بعد تحسن قصير شهدته دولة الاحتلال العام الماضي، إذ حققت دولة الاحتلال أول فائض في الميزانية منذ عام 2000، فضلاً عن انخفاض الإنفاق العسكري للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمن.
وقال سموتريتش إن عجز الميزانية قد يصل إلى 4 % من الناتج الاقتصادي هذا العام، و5 % في عام 2024. ويعني هذا أن العجز أكثر من ضعف توقعات الحكومة السابقة ولكنه لا يزال أقل من مقدار العجز الذي توقعته وكالة “موديز” للخدمات الاستثمارية، والذي بلغ 7.1 %.
من جهة أخرى، يذهب المحللون الاقتصاديون لدى وكالة Bloomberg الأمريكية، مثل زياد داود وجيرارد دبيبو، إلى أنه “من المرجح أن تزيد إسرائيل من إنفاقها على شؤون الدفاع في المستقبل. وهذا من شأنه أن ينقض المسار الاقتصادي الذي سارت فيه إسرائيل منذ سنوات، والذي شهد انخفاض الإنفاق العسكري الإسرائيلي من نحو 9 % من الناتج المحلي الإجمالي في التسعينيات إلى 4.5 % في العام الماضي”.
في غضون ذلك، فإن نتنياهو وحلفاءه يرون أن المخصصات المالية لمشروعات الأحزاب اليمينية لا غنى عنها لبقائهم السياسي. ففي شهر مايو/أيار الماضي، هددت بعض الأحزاب بإسقاط الائتلاف الحاكم إذا لم يمرر الموافقة على هذه المخصصات.